مسألة تجنيس المسلمين بالجنسية الفرنسية ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإسلام وإدارة الحزب الحر أيضاً.

 

نفطة:

ولم تتخلف نفطة عما قام به أهل قفصة وتوزر بل كان فيها ما كان في جارتيها أيضاً من مظاهر الاحتجاج والاستنكار.

 

وأرسل أهالي المناوي. ودقاش. والحامة. والمطوية، وقابس. وجربة، ورأس الجبل، وعوسجة، والعالية، وغار الملخ، وحاجب العيون، وأبة كسور، والقليبية، ومنزل تميم، ودار شعبان وغيرها من أمثالها من البلدان عرائض وبرقيات الاحتجاج الممضاة من طبقات سكانها فكان لها الوقع العظيم.

 

سوسة:

وفي صبيحة الثلاثاء 23 ذي الحجة 1351 أصبحت عاصمة الساحل (سوسة) مضربة عن العمل مغلقة دكاكينها وبكر الناس فيها إلى جامعها الكبير، وبعد أداء فريضة الصبح أخذ المصلون في تكرار اسمه - تعالى - »اللطيف« ثم خرجوا من الجامع الكبير في مظاهرة عجت بها أكبر شوارع هذه العاصمة، وسارت المظاهرة بين هتاف الرجال وولولة النساء والمناداة بسقوط الفتوى والتجنس وبحياة وبقاء الجنسية العربية التونسية، وقصد المتظاهرون دار عامل البلدة ومراقبها المدني حيث تقدمت لجنة منهم إلى كل من العامل والمراقب وسلمته عرائض الاحتجاج وتلت على مسامعه خطاباً مؤثراً في الموضوع. وقد أحيطت هذه الجموع بجيوش جرارة من العساكر شاكي السلاح وكذلك البوليس والدرك وقد حاولت هذه القوات تفريق الجماهير المحتشدة ولكن بدون جدوى وبقيت البلدة على هذه الحال إلى آخر النهار.

 

مساكن:

وكان على أثر مظاهرة سوسة قام سكان بلد (مساكن) بمظاهرة كبيرة واجتماع في جامع البلدة وقدموا عرائض احتجاجهم لخليفة العامل عندهم ووقع الإضراب عن العمل كامل اليوم أيضاً.

 

القلعة الكبيرة:

تظاهر سكان (القلعة الكبيرة) من الغد أيضاً وأضربوا عن العمل وأبلغوا عرائض احتجاجهم إلى خليفة العامل ببلدتهم أيضاً.

 

المكنين وقصر هلال:

اجتمع من الغد سكان هاتين البلدتين المتجاورتين، وقاموا بمظاهرة كبيرة خطب فيها الخطباء بما يناسب الموضوع وسلموا عرائض احتجاجهم إلى العامل هناك.

 

وقد أيدت بلدان الساحل هذه في احتجاجاتها صفاقص والقلعة الصغيرة وأكودة وحماد سوسة والصبيبة والمنستير والساحلين وطبلبة ولمعلة وقصور الساف وطبربة ومجاز الباب والكريب وسليانة.

 

وبالجملة فإنه لم يبق بلد من بلدان المملكة لم يحتج ضد هذا الصنيع وأصبحت البلاد على أشد حالة من الاضطراب والقلق خصوصاً عند ما قابلت الحكومة مظاهرات الشعب السلمية الهادئة بالجند والسلاح.

 

المحاكمات:

أول محاكمة هي التي أحيل فيها 17 رجلاً من المتظاهرين بتونس على المحاكم التونسية وتطوع بالدفاع عنهم الأساتذة صالح فرحات الكاتب العام الثاني للحزب والطيب الجميل العضو الأول بلجنة الحزب، فأطلق سراحهم وحكم عليهم بغرامات مالية تتراوح بين المائة والمائة والخمسين فرنكاً من مصاريف نشر الدعوة.

 

تم محاكمة الذين أحيلوا على المحكمة الفرنسية لتضاربهم مع ضباط الجند وجرح البعض منهم وهؤلاء ناضل عنهم الأساتذة الطيب الجميل المذكور والطاهر صفر ومحمد بورقيبة وعز الدين الشريف. وقد وقعت مشادة بين المدعي العمومي والأستاذ صفر كادت تؤول إلى ما لا تحمد عقباه، لأن الأستاذ صفر قال أن رجال الحكومة من جند وبوليس وغيرهم هم المعتدون لا هؤلاء العزل المسالمون الذين جئتم بهم إلى هنا، فصاح المدعي العمومي إنك تتهم الحكومة وقد أقسمت اليمين على احترامها عندما رخص لك في المحاماة، فأجابه: إنما أقسمت على احترام العدل والحق لا الحكومة، وعندها صاح المدعي العمومي مستنجداً بالرئيس أن يسكت هذا المحامي، فصاح الرئيس: إني أمنعك من الكلام إن سرت على هذا الأسلوب في المرافعة، فقال الأستاذ صفر عضو اللجنة التنفيذية للحزب: إن مهمتي هي الدفاع وإن القانون يعترف بوجود معتد ومعتدى عليه والمعتدي هنا هو الحكومة في نظري فيجب أن أقلب الدعوى عليها بفائدة الموكل المعتدى عليه حتى يتضح الحكم وينزل العدل منزلته وكلنا يحترم العدالة، واستمر الأستاذ في مرافعته وتلاه الآخرون ولم يفسد هذا الجو إلا مرافعة أحد المحامين المسمى محمد علي بن مصطفى بن خير الله ابن مصطفى الذي لعبت فرنسا على يده وبواسطته والوزير الجلولي سابقاً ذلك الدور الذي آل إلى استفتاء الباي محمد الناصر - رحمه الله - وأخ الشاذلي خير الله الذي كان في صفوف الوطنيين ثم لعبت به أيدي أذناب الحكومة فرموا به في هوة الخروج عن الحركة الوطنية وطعنها في الصميم. وقف هذا الأرعن مدافعاً عن أحد المتهمين فقال: إني أخجل من الوقوف أمامكم أيها السادة مدافعاً عن هؤلاء الذين آذوا سمعة فرنسا في جنسيتها، وإنما أقول لكم أنهم بسطاء دفعهم آخرون إلى هذا الاجرام وأرجو أن لا يتكرر هذا العدوان بين من تقلدوا جنسيتكم وبقوا على ديننا... الخ. فامتعض من هذه المرافعة حتى اليهود والافرنج الذين حضروها وكان لها الوقع السيء لدى كافة التونسيين.

 

وأخيراً حكم على أحد المتهمين بعامين سجناً وعلى اثنين بعام لكل واحد وعلى اثنين آخرين بعام ونصف لكل واحد أيضاً، والبقية من ثمانية أشهر إلى أربعة أشهر سجناً، وقد استأنف أكثرهم الحكم إلى محكمة الجزائر الفرنسية.

 

وبعد هؤلاء جاء دور محاكمة المتهمين في فريانة المحالين على محكمة سوسة وسافر من تونس للنضال عنهم الأستاذ الطاهر صفر وناضل عنهم في سوسة الأستاذ الطيب القسام وحكم عليهم بمدة تتراوح بين العامين والعام مع ما يقرب من الأربعة آلاف فرنك غرامة لكل منهم. وسبب الحكم بالغرامة هو ما طلبه المدعي العام هناك من قوله أن هؤلاء في الحقيقة لا ذنب لهم والمجرمون الحقيقيون لم يصلوا إلى قفص الاتهام بعد، فيجب أن يشملهم الحكم بوضع غرامة يدفعها أولئك الذين دفعوا هؤلاء لوقوف هذا الموقف. وكذلك كان، ولكن المحكوم عليهم استأنفوا الحكم إلى محكمة الجزائر الفرنسية أيضاً.

 

وبعد هؤلاء أحيل نحو 27 على محكمة المخالفات فحكمت عليهم بغرامات مالية خفيفة مع إخلاء سبيلهم. [1]

 

القيروان:

ولم تتخل عن هذه الحركة عاصمة الأغالبة والعبيديين، ومحط رحال أصحاب الرسول الأعظم من الفاتحين، فقد أغلقت المحلات التجارية كلها وتجمهر الناس صباحاً في مقام الصحابي الكريم أبي زمعة البلوي - رضي الله عنه - وخرجوا من هناك حاملين الأعلام الوطنية يتقدمهم سيد شباب القيروان الشريف ابن الشريف السيد الشاذلي عطاء الله وطافوا المدينة وتقدموا إلى دار العامل والمراقبة المدنية فوجدوا المراقب بالباب يخاطبهم بلسانه الفرنسي: قدّموا إلي وفداً منكم فتقدم ثلاثة - منهم السيد الشاذلي عطاء الله - فزجهم في السجن وأحاط الجنود بالمتظاهرين فجأة وأخذوا يضربون الناس على وجوههم بمؤخرة البنادق حتى أدموهم، والمراقب بعصاه يمعن فيهم ضرباً وشتماً وأخذ أعوان البوليس يزجون الناس في السجن، وبقي الناس على هذا الحال كامل ذلك اليوم. ومن الغد أحيل ثمانية من الموفدين على المحاكمة وأطلق سراح الباقين. وبعد أيام أطلق سراح السيد الشاذلي عطاء الله وأعلنت محاكمة الباقين فسافر للنضال عنهم السيد الحبيب بورقيبة والأستاذ صالح فرحات فحكم المجلس بإطلاق سراح أحدهم وبالتخلي عن القضية للمحكمة الفرنسية في الباقين لأن القضية سياسية، وعملاً بقانون عام 1926 تحال كل القضايا السياسية على المحكمة الفرنسية. واستأنف المحاميان هذا التخلي إلى محكمة الوزارة بتونس وكادت التحقيقات مع الموقعين على البرقيات والعرائض أن تعم كل الإيالة ولا ندري ماذا تكون نتيجتها بعد.

 

وفاة زوجة أحد المتجنسين:

وبينما الحالة لم تستقر بعد على قرار إذ بنبأ يثير العاصفة من جديد، ذلك هو نبأ وفاة زوجة عبد القادر القبايلي رئيس جمعية المتجنسين من التونسيين المسماة (جميعة المسلمين الفرنسيين) وهذه المرأة متجنسة أيضاً بالجنسية الفرنسية، ورغماً من إشارة أهلها على زوجها بدفنها في إحدى المقابر المتروكة فإنه صمم على دفنها بمقبرة الجلاز تحدياً للمسلمين الذين نصب نفسه عدواً لهم اعتماداً على ولائه وانحيازه إلى الفرنسيين. وما كان يذاع خبر موتها ليلاً بشاطئ حلق الوادي حيث سكناها حتى اجتمعت حول دارها مظاهرة من لفيف عملة المكان ليلاً وأنذروا زوجها بأنه لا يمكنهم أن يتركوه يضعها في مقابر المسلمين، فاستنجد بجنود الدرك فأنجدته الحكومة بقوة منها "بضباطها" وجاء عامل أحواز الحاضرة التونسية ومراقب تونس وباتوا عنده كامل الليل ومن الغد لم يجدوا من يغسل المرأة، لأن الغاسلات [2] امتنعن من غسلها لاعتبارها مرتدة عن الإسلام فصبت عليها قريباتها الماء وصلى عليها عمها بالدار، ورفعت على سيارة وما كادت تصل إلى مقبرة الجلاز بتونس حتى وجدت الجموع المتراصة تحمي المقبرة، وتمنع هذه المتجنسة من أن تدفن فيها، وجاء الجند والرشاشات والمدافع والدبابات وأخذت هذه القوى تفرق الناس وتحمي الجثة وكان الناس قد هدموا القبر الذي أعد لدفنها وصاحوا بسقوط القبائلي ومشروع التجنيس، وما جاءت الساعة السادسة حتى دفنت هاته الجثة تحت السيوف وأفواه البنادق والرشاشات، وأبقوا فرقة من الجند تحرسها إلى ساعة كتابة هذا خوفاً من أن تخرج من القبر ووقع اعتقال الكثيرين من المشتركين في المظاهرة.

 

استنطاق رجال العلم:

ولما أعيت شيخ الجامع الحيلة في حل الاعتصاب الصادر ضده من طلبة جامع الزيتونة وأثر هذا الاضراب على مركزه ومركز الوزير الأكبر معه، وقوبل من الأمة بالسخط والغضب، عمد إلى استعمال كافة الوسائل لمعالجة الموقف، فلم ينجح، وكان المدرسون بالجامع الأعظم قد امتعضوا من سلوك رجال الافتاء نحو الدين والوطن فأرادوا أن يرفعوا المعرة فأجمعوا على وضع فتوى تعارض الفتوى الأولى فلما بلغ هذا الأمر شيخ الجامع اتهمهم بأنهم المثيرون للاغتصاب والمحرضون على الإضراب، فما كان من الحكومة إلا فتح بحث ضدهم في هذا الشأن ولكنهم أظهروا في هذا الأمر شجاعة كانت مضرب الأمثال لأنهم صرحوا بكل ما يعتقدونه وتعتقده الأمة في شيخ الجامع ونشروا الفتوى المعارضة بعد هذا البحث وكان لها صداها حتى أن سمو الباي قد تأثر بما جاء فيها وطالب بإلحاح إحداث مقبرة خاصة بالمتجنسين اعتماداً على الحكم بردتهم وعدم صحة قبول توبتهم ولازال هناك أخذ ورد بين سمو الباي والمقيم العام في هذا الأمر.

 

ولا يزال الإضراب عن الدروس مستمراً إلى اليوم وقد بارح أكثر الطلبة العاصمة إمعاناً في الإضراب وتحقيقاً لعدم العودة إلى الدروس إلا أن يعزل شيخ الجامع الذي أفتى في دين الله بغير ما أنزل الله. وقد عمد أخيراً شيخ الجامع الطاهر بن عاشور [3] إلى كتابة مكتوب فيه إعلان الثقة به وسلمه إلى أحد أذنابه يطوف به على المدرسين ويطلب إليهم التوقيع عليه فامتنعوا عن ذلك وتبرأ والد هذا الطائف من أعماله وقبحها على صفحات الصحف.

 

وتدور إشاعة في البلاد مفادها أن المقيم العام عازم على وضع البلاد تحت حالة الحصار وإبعاد كافة المشتغلين بالحركة الوطنية إلى خارج المملكة وقد تأيدت هذه الإشاعة بعدة أمور منها مجيء رئيس لجنة الأمور الخارجية بفرنسا م. فرنوت إلى تونس لإجراء بحث في أسباب الحوادث الأخيرة واستفيد من محادثاته أن هناك تقريراً أرسله المقيم العام في الحوادث الأخيرة ينذر فيه الحكومة بشر مستطير ويقول يجب أن تطلق يده في البلاد ليعمل تحت مسئوليته ما يريد ولكن لجنة الأمور الخارجية أبت أن تطلق يديه ما لم تتبين الموقف جيداً فأرسلت أحد أعضائها للبحث وقد استقبل هذا العضو من لدن الهيئة الرئيسية للحزب الحر وقررت له الحالة كما هي ونظرية المسلمين فيها وهو الآن يطوف أنحاء المملكة يبحث ويستعلم عن الحالة هناك.

 

هذه خلاصة ما وقع من الحوادث لحد ساعة كتابة هذا وفي عزم التونسيين أن لا يتركوا متجنساً يدفن في مقابرهم إلا بالقوة القاهرة وبالأمر الذي لا يستطيعون له دفعاً ولا يعلم إلا الله ماذا ينجم عن هذه السياسة الخرقاء التي تتبعها حكومة فرنسا نحو المسلمين في شمال أفريقيا.

 

خاتمة:

إن المسلمين في تونس قد دافعوا بما يستطيعون عن عروبتهم وإسلامهم وقد كانت نكبتهم هذه المرة على أيدي علماء الدين منهم وحاشا للدين أن يرضى بهذا الانتساب إليه. وكانت حجة فرنسا الوحيدة هي فتوى الشيوخ بتونس فتونس اليوم تستصرخ العالم العربي والعام الإسلامي وتستنجده للدفاع، وعسى أن يجد صوتها المتهدج آذاناً صاغية وقلوباً واعية من رجال الدين والسياسة ومن عامة المسلمين والله ولي المؤمنين...

 

----------------------------------------

[1] - رغم وحشية الاستعمار الفرنسي، فقد كانت الأحكام الصادرة بحق المعارضين لسياسة التجنيس أرحم من الأحكام التي اتخذها الحبيب بورقيبة ضد الدعاة المعارضين، وأحكام بورقيبة التي وصلت إلى حد اغتيال زملائه المعارضين الذين لجأوا إلى ديار الغرب أقل وحشية من الأحكام الوحشية التي اتخذها - ولا يزال - ابن علي

[2] - كيف كنا وكيف أصبحنا؟ نساء من عامة الناس يرفضن غسل إحدى الهالكات لأنها تجنست بجنسية المستعمر الذي يعمل لطمس الهوية الإسلامية!! ليت الخاصة اليوم يبلغون هذا المستوى.

[3] - شيخ جامع الزيتونة هو الطاهر بن عاشور صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها تفسيره "التحرير والتنوير"، وعجيب وقوفه هذا الموقف الشاذ، ولا نرى له عذراً في ذلك، فقد كان سنداً للوزير الأكبر - رجل فرنسا - وكان وإياه في جبهة واحدة ضد الشعب وعلمائه، وضد الباي، ولم يتردد في تنفيذ كل ما طلب منه، بل كان يتخذ مبادرات لا تطلب منه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply