جهاد العفة . . في مواجهة التغريب


بسم الله الرحمن الرحيم

 

كانت علاقات الرجال بالنساء إحدى التحديات الكبرى التي واجهت الأمة المسلمة في العصر الحديث , وقد طرح الغرب الأوروبي الأمريكي رؤاه لها , فإذا هي تناقِض - في الصميم - شريعة الإسلام التي تنظم تلك العلاقات , وهكذا ظهرت "قضية المرأة" , وتطورت وتضخمت هذه الأيام , ودار الصراع بين الإسلام والرؤية الغربية في محاولات مستميتة لإحلال تلك الرؤية محل الشريعة الإسلامية .

وربما كان "مؤتمر بكين" , ومن قبله "مؤتمر القاهرة" - أحدث الحلقات في ذلك التحدي الاجتماعي , والأخلاقي , والتشريعي الكبير , وها هي وزارة الثقافة المصرية تطرح القضية في "مؤتمر جديد" يروج لوجهة النظر العلمانية .

ونستعيد - أولاً - صورة موجزة لتلك العلاقات كما يمليها الإسلام , فنقول : إن الإسلام لا يقر أي اتصال بين الرجال والنساء إلا من خلال الزواج الشرعي بشروطه الشرعية المعروفة عند المسلمين , وهو يحرم كل ضروب الفحشاء (ما ظهر منها وما بطن) , ويطبق عقوبات رادعة على مقترفيها , وقبل العقوبات يشرع الإسلام لفتح كل الأبواب لتيسير الزواج , والإحصان , كما يغلق كل أبواب الحرام , ويضع من التدابير الوقائية ما يحُول بين المسلمين , وبين الرذيلة , ابتداءً من مجرد النظرة إلى المرأة الأجنبية , والخلوة بها , وهو يحارب الشائعات المغرضة , ورمي المحصنات , وينظف المجتمع المسلم من كل ما يحض على الرذيلة , أو يزينها , أو يهون ارتكابها , ثم إنه يسمح بتعدد الزوجات , ويبيح الطلاق , وينهى عن "عَضل" النساء , وعن تبتٌّل الرجال , هذا فضلاً عن ضمانات العقيدة الإسلامية.

* هذه هي معالم العفة الجنسية في الإسلام , ومعالم نظامه لعلاقات الرجال بالنساء , وتنعكس "العفة" أو "العفاف" على مظهر المسلم وملبسه - رجلاً كان , أو امرأة - فالمرأة منهية عن التبرج , ومأمورة بلباس الحشمة والوقار والستر , والرجل مأمور بستر العورة , وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" º فسأله سائل : فالرجل يكون مع الرجل؟ (يعني : أيجوز أن يكشف الرجل عورته لرجل آخر ؟) , فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن استطعت ألا يراها فافعل !" , فعاد الرجل يسأل : فالرجل يكون خالياً , (يعني : أيجوز للرجل أن يعري عورته وهو في خلوة ؟) , فقال - صلى الله عليه وسلم - : "الله أحق أن يُستحيا منه" , وقد تحدثت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - عن حالها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : "ما رأيت ذلك منه , ولا رأى ذلك مني" (أورده القرطبي في تفسيره) .

* وهكذا نرى أن معالم النظام الإسلامي هي : العفاف والستر , والحرص الشديد على صيانتهما إلى أقصى الحدود الممكنة .

* وفي مواجهة "العفاف والستر" , جاء التحدي الأوروبي مناقضاً لهما º فأوروبا الحديثة رجعت إلى التراث اليوناني , والروماني الوثني , ونبذت شريعة التوراة والإنجيل , ولم يحافظ على تعاليمهما إلا قلة قليلة من الناس , وعند اليونان كان الشذوذ منتشراً , وقد كانوا وثنيين , وقد لقي الشذوذ عند كُبرائهم الرضا والموافقة, ومن أولئك "سولون" و"يوربيدس" و"أفلاطون" , ومعلوم أن أفلاطون كان قد رسم نظاماً مثالياً لدولته الخيالية , وجعل النساء فيها "مشاعاً" في طبقة الجنود , وعلى هذا التراث بُنيت علاقات الرجال والنساء , بعد الثورات العلمانية الحديثة التي نبذت المسيحية º فكانت مضادة للعفاف الذي يفرضه الإسلام.

* وكان اليونان ضد "الستر" أيضاً , وكان من عادة الرياضيين أن يشاركوا في المسابقات المختلفة , وهم عُراة عُرياً تاماً , وزعم أفلاطون أن "الأفضل تعرية الجسد" , كما زعم أن العري لم يعد يثير السخرية عند اليونانيين º بعد أن كشف لهم العقل عما يثير السخرية , وما لا يثيرها ! (الجمهورية : الفقرة رقم 453) , وكان اليونانيون يظنون أن الجمال البشري يبلغ ذروته في الجسد الإنساني العاري º ولهذا كان الجسد العاري هو الموضوع المسيطر في فن النحت اليوناني , وعند تأسيس كليات الفنون في العالم الإسلامي في العصر الحديث أُبيح رسم الأجساد العارية محاكاة لما يقع في مثيلاتها في بلاد الغرب , دون اعتبار لدين الأمة أو شريعتها !

* والحق أن الدول الأوروبية - التي احتلت معظم بلاد المسلمين - سعت منذ وطئت أقدامها تلك البلاد لإحلال نماذج العلاقات الأوروبية بين الرجال والنساء محل "العفاف والستر" , وقد أدركوا أن هذا الإحلال يمثل شطراً مهماً جداً في مشروعهم للقضاء على هوية الشعوب المسلمة واستقلالها الاعتقادي والتشريعي والأخلاقي , وكانت علاقات الرجال والنساء مدخلاً لذلك , فلم يتوانوا عن استغلاله , ووجد المسلمون أنفسهم في مواجهة هذا التحدي , والعدو هو المسيطر على شئون بلادهم º فبيده السلطة والمال , ومعه الشهوات الحيوانية الفطرية , وهو يزين للناس الهبوط والانفلات من ضوابط العفاف والستر , والمسلمون يدعونهم إلى الارتفاع عن الدنايا والرذائل , والالتزام بأخلاقيات دينهم , ورفض الغوايات التي يقدمها المستعمرون , والامتناع عن محاكاة نسائهم في تبرجهم ومجونهم وإسفافهم .

* شرع المستعمرون الأوروبيون - فور احتلالهم للبلاد الإسلامية - في إحلال نظمهم (أو فوضاهم إن شئت الدقة) محل أخلاقيات "العفاف والستر" الإسلامية , وهذا أنموذج لذلك يتمثل فيما صنعته جيوش فرنسا الاستعمارية في مصر والمصريين بقيادة نابليون .

* إن المؤرخين المغرضين يتحدثون عن العلماء الذين جلبهم نابليون معه لخدمة جيشه , ولا يذكرون أنه جلب معه أكثر من 300 امرأة , كُنَّ بمثابة البذور الخبيثة لنشر البِغَاء في القاهرة , وفي هذا يقول كريستوفر هيرولد - المؤرخ الأمريكي - في كتابه "بونابرت في مصر" : "وأفلحت نساء أُخريات - غير المرافقات بإذن , تنكَّرن في زي جند في فرق أزواجهن - في التسلل إلى ناقلات الجنود , وبلغ عدد النساء المرافقات للحملة جميعاً نحو 300 امرأة" (الترجمة العربية , ص38 , 217) , فماذا فعلت تلك النسوة ؟ , وماذا فعل الضابط والجنود في جيش الاحتلال بأخلاق العفاف والستر ؟ .

* لقد كان المجتمع المصري ملتزماً بالإسلام وأخلاقياته , وكان كل خروج عليها يلقى الردع والعقاب , وكان الحجاب على رؤوس النساء جميعاً , حتى المسيحيات واليهوديات المصريات , ولم تُرَ امرأة سافرة , إلا زوجات القناصل الأوروبيات (نفسه , ص199) , ولكن في مُناخ الاحتلال , ومع انتشار النساء السافرات من الفرنسيات في شوارع القاهرة , واستهتارهن الشديد , وتبذٌّلهن , أخذت بعض النساء - غير المسلمات - في محاكاتهن , وبعد حوالي 14 شهراً , انقلبت الأوضاع انقلاباً شنيعاً ! .

* وهذا هو الوصف الذي سطره "الجبرتي" - المؤرخ الأمين , وشاهد العيان على أحداث تلك الفترة الحالكة السواد من تاريخ مصر - حيث يقول في تقريره عن أحداث يوم 24/3/1214 هـ : "وخرجوا تلك الليلة عن طورهم (يقصد أنهم تجاوزوا حدود الشرع والعرف) , ورفضوا الحشمة , وصحبتهم نساؤهم , وقَحَّابهم , وشرابهم , وتجاهروا بكل قبيح من الضحك والسخرية والكفريات , ومحاكاة المسلمين (يقصد تقليد أفعال المسلمين سخرية منهم !) , ووقع تلك الليلة بالبحر (يقصد نهر النيل) وسواحله من الفواحش , والتجاهر بالمعاصي والفسوق , ما لا يكيف ولا يوصف , وسلك بعض غوغاء العامة , وأسافل العالم (يقصد أسافل الناس) ورعاعهم مسالك تسفل الخلاعة , ورذالة الرقاعة , بدون أن ينكر أحد , على أحد من الحكام أو غيرهم , بل كل إنسان يفعل ما تشتهيه نفسه , وما يخطر على باله , وإن لم يكن من أمثاله" !

* وهذه الكلمات الأخيرة تشير إلى ما كان سائداً قبل الاحتلال من إنكار للمنكرات من قِبَل السلطات , ومن قِبل الشيوخ وعامة المسلمين , ثم وقعت التغيرات , و"الجبرتي" يصف ذلك فيقول إنه في سنة 1213هـ - أول سنة للاحتلال - : "لما حضر الفرنسيس - أي الفرنسيون - إلى مصر , ومع البعض منهم نساؤهم , كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم , وهن حاسرات الوجوه , لابسات الفساتين , والمناديل الحرير الملونة , ويركبن الخيول والحمير , ويسوقونها سَوقاً عنيفاً , مع الضحك والقهقهة , ومداعبة المكارية معهم , وحرافيش العامة (يقصد أسافل العامة) º فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء والأسافل والفواحش" , ومن الواضح أن استبشاع خروج النساء "حاسرات الوجوه" مرٌّده إلى ما كان سائداً من الستر للنساء , وتغطية وجوههن بالبراقع , واستنكار الملابس الملونة مرده إلى أن النساء لم يكُنّ يخرجن إلا ملفوفات في العباءات السوداء , أو الثياب السوداء , أو الزرقاء , وكذلك بقية الأوصاف المنكرة التي أوردها , ما رآها كذلك إلا لتناقُضها مع أخلاقيات البلاد المستقرة , وبدأت "الطبقة السفلى" من النساء في تقليد الفرنسيات .

* ومن الممكن أن نقول إن "الإحلال" بهذه الأساليب , تم بالإغراء والإغواء والمثل السيئ! , وهو بهذه المثابة غير قسري , لكن المحتلين الفرنسيين لم يقفوا عند تلك الحدود º فبعد موقعة بولاق فتك الجيش الاستعماري بأهاليها : "وغنموا أموالها , وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات اللاتي صِرنَ مأسورات عندهم , فزيٌّوهن بزي نسائهم , وأجروهن على طريقتهن في كل الأحوال , فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية , وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر" (راجع : تاريخ الجبرتي , ج2 , ص436 , ط. دار الجيل , بيروت) .

* ويصف هذه الأوضاع أيضاً "نقولا الترك" - المؤرخ اليوناني الذي شاهد الأحداث - فيقول : "وخرجت النساء خروجاً شنيعاً مع الفرنساوية , وبقيت مدينة مصر (يقصد مدينة القاهرة) مثل باريس º في شرب الخمر والمسكرات , والأشياء التي لا ترضي رب السماوات" (هيرولد : هامش ص219) , ويصف رد فعل الشعب المصري المسلم , فيقول : "إن المصريين كادوا أن يموتوا من الغيظ حين كانوا يرون تلك المناظر" !

* وكان قادة الجيش الفرنسي وضباطه وجنوده ونساؤهم أمثلة ساقطة إلى أبعد الحدود في تردِّيهم في الرذيلة , وافتخارهم بها , وخصوصاً "ديزيه" الذي كان يدمن اغتصاب الفتيات الصغيرات ! (راجع : هيرولد , ص314 , ص348) .

* كان المصريون المسلمون يتميزون من الغيظ حين يرون الفجرة والفاجرات من المحتلين , ومن السفلة الذين سايروهم , وقد تفجرت ثورتهم العامة الأولى - التي تسمى (ثورة القاهرة الأولى) - يوم 21/10/1798م , وهو العام نفسه الذي ابتُليت فيه مصر بالعدوان الفرنسي , وكان إحلال "الإباحية" محل "العفاف" - أحد البواعث الأساسية للثورة (هيرولد : ص261) , وكان الثوار هم "الغلاة في الدين" حسب تعبير "هيرولد" ! , وهم المتدينون من أئمة المسلمين وطلاب الأزهر , الذين قادوا الثورة , ومعهم الطبقة الفقيرة المتدنية , وأُحبطت الثورة بعد أن أُطلقت المدفعية الحديثة على الجامع الأزهر , وعلى المساجد المختلفة في أحياء القاهرة , ولم تمضِ سوى خمسة أشهر وستة أيام حتى ثارت القاهرة من جديد , ولم يجد "كليبر" - قائد - الاحتلال بُدّاً من "قذف المدينة بالمدافع وتجويعها º حتى تسلم" (هيرولد , ص489) .

* وبعد ثلاث سنوات - بأيام - تم طرد المحتلين الفرنسيين , وعاد الحكم العثماني من جديد , وتولى "محمد علي" حكم البلاد باسم الدولة العثمانية - وباختيار الشعب وزعمائه - سنة 1805م , وعاد التوقير لأخلاق العفاف والستر الإسلامية , لكن جرثومة الإباحية والسفور كانت قد أصابت بعض العائلات والأفراد , وأخذت تفعل فيهم فِعلها كالمرض الخبيث .

* وانضمت إلى الجرثومة الفرنسية جراثيم أخرى º ففي تلك الفترة بدأ إرسال البعثات إلى أوروبا - من تركيا وإيران ومصر - لتحصيل العلوم العسكرية , ومن ثم تأسيس جيوش حديثة , وفي مصر بدأ محمد علي باستخدام ضباط فرنسيين سنة 1820م (راجع : عبد الرحمن الرافعي : عصر محمد علي , دار المعارف بمصر , ط4 , سنة 1982 , ص321-377) , وبعد ذلك أرسل محمد علي بعض الضباط المصريين إلى فرنسا وإنكلترا º لإتمام تعليمهم هناك (نفسه , ص378) , وقد بلغ عدد المبعوثين إلى أوروبا في عهد محمد علي (319) , من سنة 1813 إلى سنة 1847م (نفسه , ص409) .

* ثم توالت البعثات إلى أوروبا في مختلف مجالات العلوم , وعاد المبعوثون وقد حملوا معهم توجهات ثقافية مجافية للثقافة الإسلامية , وعبر (رفاعة الطهطاوي) عن هذه التوجهات , وفيما يتصل بموضوعنا نلاحظ أنه ينفي أن يكون التبرج والاختلاط من دواعي الفساد ! , والقرآن الكريم ينهى عن التبرج - كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخلوة , وحين تحدث عن تحلٌّل الفرنسيين من ضوابط العفاف والستر سمى التحلل "لخبطة" ! , فقال : "إن نوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن , بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة" , وهذا الكلام فيه تهوين من قيمة "الخمار" الذي أمر به القرآن الكريم بقوله - تعالى - :{وَليَضرِبنَ بِخمُرِهِنَّ عَلَى جيُوبِهِنَّ} [النور:31] , كذلك سوَّغ الطهطاوي مراقصة الرجال للنساء , حين وصف حفلات الرقص , وقال : "إن الرقص - عندهم - فيه من الفنون ... , ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس, وكأنه نوع من العياقة والشلبنة , لا الفسق" ! (نقلاً عن د.محمد محمد حسين : الإسلام والحضارة الغربية , المكتب الإسلامي , ط1 , سنة 1399هـ - 1979م , بيروت , ص36) (والعياقة , والشلبنة كلمتان عاميتان تعنيان : الأناقة والفتوة , هامش ص36 نفسها) , وهكذا أضيفت جراثيم جديدة ضد أخلاق العفاف والستر الإسلامية .

* وكان محمد علي باشا حريصاً على أن يقف الاقتباس عن أوروبا عند حدود العلوم , ولا يتعداها إلى الثقافة , لكن غيره (في مصر , وفي تركيا , وفي إيران) لم يكونوا حريصين على ذلك , بل أراد بعضهم أن يجعل بلاده قطعة من أوروبا , مثل السلطان "محمود الثاني" , ثم ابنه عبد المجيد في تركيا (نفسه , ص14-16) .

* لكن الخديوي "إسماعيل" كان المثل البارز لذلك النوع من الحكام (1863-1879م) , وهو الذي زعم أن مصر صارت "قطعة من أوروبا" , في حين كانت مصر في عهده قد فقدت استقلالها , وأُخضعت لوصاية الدول الأجنبية (راجع : الرافعي , عصر إسماعيل , ج2 , ص81) , وكانت تربية إسماعيل فرنسية , وقد مكث في باريس فترة كطالب بعثة , لكنه لم يحصِّل شيئاً من العلوم , وأحب الفرنسيين جداً , فلما تقلد منصب الخديوية فتح لهم البلاد على مصراعيها , فجاءوا بكثرة , وجلبوا معهم - بطبيعة الحال - أخلاقياتهم التي لا تعترف بالعفاف والستر (نفسه , ص297-298) , وكان أولئك الأوروبيون - أو معظمهم - بشهادة القاضي الهولندي فان بملين Van Bemlen الذي عمل بالمحاكم المختلطة - : "من أحطّ الطبقات , ولم يكن همهم إلا الإثراء على حساب البلاد" (نفسه , ج1 , ص87-88) .

* وكان إسماعيل محباً للفنون الفرنسية , وحاول جلبها إلى مصر , ومن ذلك حفلات الرقص التي أنفق على إقامتها ببذخ , ودعا إليها الكبراء والأثرياء (نفسه , ص298) , وتلك هي البيئة الخصيبة للمجون والتحلل من كل آداب العفاف والستر الإسلامية.

* وكانت مدارس التنصير- في ذلك العهد - تخرِّج أناساً فقدوا الولاء للدين والوطن : "ونال كثير منهم الحماية الأجنبية بواسطة القناصل º فصاروا في حكم الأجانب في انتمائهم للدول الأجنبية , وميولهم إليها" (عصر إسماعيل , ج1 , ص209) , فهؤلاء طرحوا أخلاق العفاف والستر , وحاكوا الأجانب في السفور والتبرج والتحلل , بل إن بعضهم ارتدّ عن الإسلام ! .

* وهكذا اتسعت دائرة التحدي , وصمدت الأمة المسلمة , وجاهدت , وحاصرت الوباء في العواصم , فظل معظم البلاد على أخلاقيات الستر والعفاف , والآن تعود العواصم الإسلامية - بفضل الله تعالى - إلى الحجاب والنقاب والخمار , ويتحقق "الإحلال الحميد" , وينتصر دين الله في هذه التحديات .

* والآن لابد أن نتساءل :

كيف صارت علاقات الرجال بالنساء في المجتمعات التي تحللت من العفاف والستر ؟ , هل صارت أكثر إنسانية ورحمة واستقراراً ؟ , وكيف صار حال الأسرة ؟ , هل قويت وتماسكت ؟ , وهل انعدمت الجرائم الجنسية , أو انخفضت ؟ , وكيف صار حال الأطفال ؟ هل انخفض جنَاحُهم ؟ , هل تمتعوا بحقوقهم في دفء الأسرة وحضانتها وحبها؟ .

* إن هذه الأسئلة تكشف لنا عن الفائز في التحدي , ونحن نتوجه بها إلى الواقع º لنستشهد به , فهو الشاهد التجريبي على الفلاح أو الإخفاق , وهو شاهد لا يكذب , , والإحصاءات الرسمية هي "الأساس العلمي" لمشروعية شهادته , والأجوبة هي التي ستبين إن كانت الاستباحة قد حققت "النجاح الحيوي" , أو العكس .

* ونبدأ بتقرير كندي حكومي - صدر في منتصف عام 1993 - يفيد أن أكثر من نصف عدد النساء في (كندا) كُنَّ ضحايا لجرائم اغتصاب , أو محاولات اغتصاب , وبيَّن التقرير أنه استند إلى دراسة 420 حالة لسيدات - تراوحت أعمارهن بين 16 و64 عاماً - في مدينة "تورنتو" , وثبت أن 98% منهن تعرضن لاعتداءات جنسية , وأكدت نسبة 54% منهن تعرضهن لتجارب جنسية - بالقوة - من قبل بلوغهن سن السادسة عشرة , وهذه الأوضاع تمثل : انهياراً في العلاقات الإنسانية , وخطراً عاماً داهماً , يتهدد كل فتاة وكل امرأة في عِرضها , وفي حياتها .

* وفي الولايات المتحدة ذكرت آخر الإحصائيات أن جريمة اغتصاب تُرتكب كل دقيقة , ويحصي تحقيق شمل عامي 92-1993 - وقوع نصف مليون اعتداء جنسي على الأمريكيات كل عام , وتقول الإحصاءات "إن جرائم الاغتصاب قفزت بنسبة 59% في عام 1991 عما كانت عليه عام 1990", هذا مع ملاحظة أن 49% من حوادث الاغتصاب لا تبلَّغ للشرطة , وعلى هذا يجب أن نعترف بأن مليون اعتداء جنسي يقع على نساء أمريكا كل عام , لا نصف مليون فقط , وبناءً على هذا يندر أن تستطيع سيدة أمريكية الإفلات من التعرض لتلك الجريمة البشعة! .

* وأما الأسرة فتعرضت للدمار في مُناخ التحلل من العفاف , فمنذ عام 1984 تتوالى التقارير الرسمية التي ترسم الخط البياني لانهيار الأسرة البريطانية , ففي بريطانيا تقع "حالة طلاق" كل ثلاث دقائق , ويقول مكتب المساحة والتعداد البريطاني : "إن حالات الطلاق زادت في سنة 1985 بنسبة 11% عنها عام 1984" , وذكر المكتب أن "الانحرافات الأخلاقية" هي أحد أسباب الطلاق , وفي عام 1995 حذرت الإحصاءات الرسمية من خطر انقراض الأسرة البريطانية , وحذر مؤتمر للتعليم في يناير عام 1996 من أنه إذا لم يتم إنقاذ القيم ستعود بريطانيا إلى عصور البربرية في جيلين !

* وعلى الرغم من هذا الإخفاق الحيوي المروع , الذي صورنا بعض ظواهره فقط - طلباً للإيجاز - فإن الأمم المتحدة تحاول تعميم أو تدويل التحلل الأخلاقي ! º لقد عبرت مواثيق المنظمة الدولية عن ثقافة أوروبا وأمريكا , ولذلك وجدناها تُدين "القوادة" , لكنها لا تدين البغاء ! (انظر : اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير , التي صدرت في 2/12/1949) , وفي مؤتمر القاهرة للسكان , ثم مؤتمر بكين حاولت المنظمة الدولية اعتماد (الشذوذ والإباحية) في توصياتها , ثم جعلها دستوراً عالمياً , ينسخ كل الدساتير والأعراق , والشرائع التي تستمسك بالعفاف والستر ! .

* ويمكن القول إن هناك ظواهر أخرى في أمريكا نفسها تشير إلى أن العفة كسبت التحدي º فقد تبلور في السنوات الأخيرة تيار واسع ينادي بالعودة إلى الدين , وإلى أخلاقياته , وكان "ريجان" قد دعا إلى السماح بأداء الصلاة في المدارس , ثم جاء "بوش" فوضع الدين والأخلاق في برنامجه الانتخابي , ويُعزَى فوز الجمهوريين في انتخابات الكونغرس الأخيرة إلى استجابتهم لذلك التيار الشعبي º إذ إنهم وضعوا عناصر دينية وأخلاقية ضمن برامجهم الانتخابية , وقد بيَّن استطلاع للرأي - أجراه معهد "جالوب" - أن أغلبية الأمريكيين توافق على أداء الصلاة في المدارس لمختلف الأديان - بما فيها الإسلام - وتكونت مؤسسات تدعو الأمريكيات إلى الحفاظ على عفتهن , والترفٌّع على الإباحية الشائعة .

* ويمكن رد هذه الصحوة الدينية الأخلاقية في أمريكا إلى عوامل عديدة , منها الإخفاق الحيوي الذريع الذي نتج عن الإباحية , ومنها أنها سبب العدوى بكثير من الأمراض , أخطرها الإيدز , ثم السيلان , والزهري , ومنها كتابات عديدة رفضت الإباحية , والإلحاد , والمادية , مثل مؤلفات "بول تيليش" Poul Tilich و"كاريل" و"دوبو" و"سوروكين" وغيرهم .

* لكننا يجب أن نلتزم الحذر في النظر إلى هذه الظواهر º فالرئيس كلينتون - مثلاً - فاز بالرئاسة بأصوات الشواذ , الذين شكَّلوا سُبع الأصوات التي انتخبته , وقد كانت أصواتهم هي الأعلى في مؤتمر بكين , بل سيطروا على المؤتمر , واستبعدوا دعاة الأخلاق ! .

* وأما عندنا - نحن المسلمين - فالعفاف والستر دين , وشريعته قرآن وسُنَّة , وبصرف النظر عن النجاح الحيوي العظيم الذي تحققه أخلاقيات العفاف , فنحن نتمسك بها , ونعَض عليها بالنواجذ , ويجب أن نحافظ على التدابير الوقائية التي قررتها شريعتنا السمحة º لنباعد بين أمتنا , وبين الأوبئة والكوارث الصحية , والأمنية , والاجتماعية التي أفرزتها "إباحة الاستباحة" , وبذلك نقدم للإنسانية "الأنموذج الإسلامي الرفيع" , الذي يضمن الطهارة للرجال والنساء , والسعادة الأخروية والدنيوية لهم , ولأولادهم , ومجتمعهم .

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply