تراث الغير


 

بسم الله الرحمن الرحيم


ولمّا كان الوعي الحضاري الذي أنتج التراث الذاتي وعياً متفتّحاً على الحضارات الأخرى فإنه سرعان ما تمثّل تراث الغير واحتواه واستعمل لغته، واستعمل أساليبه، واستخدم طرقه، وأكمل نقائصه.
أمّا المُحدَثون فإنهم في انفتاح وعيهم الحضاري الجديد على تراث الغير، التراث الغربي، حَدَثَت لديهم "صدمة الحداثة" وخَلَطوا بين التحديث والتغريب، فكان من الضروري "تحجيم" تراث الغير، وردّه إلى حدوده الطبيعية داخل بيئته المحلية.
(1) الحداثة والتحديث:
تعني الحداثة هنا الانتقال من التراث الذاتي إلى تراث الغير ليس على مستوى الثقافة بل على مستوى السلوك اليومي والعادات والتقاليد.
أـ مظاهر الحداثة:
وقد بَدَت عن أجيالنا المُعاصِرة مظاهر الحداثة لدى الطبقات العليا من المجتمع كي تلحق بالعصر وكما حدث في تركيا بعد الثورة الكمالية وكما حدث في مصر في القرن الماضي حتى قبيل الثورة المصرية في 1952. وقد بدت مظاهر الحداثة كالآتي:
1_ العيش على مستوى الإنتاج الآلي في الغرب، والتمتع بالخدمات الحديثة واستيراد أحدث الاختراعات لتسهيل رغد العيش.
2_ الحداثة في مظاهر الحياة الخارجية في العمارة والهندسة وفي العمران بوجه عام من شقّ الطرق، وتشييد الجسور العلوية، وإقامة الميادين والحدائق العامة، والانتقال من عصر "الجِمال" إلى عصر "الصواريخ" ونقل إنجازات الغير دون اختراعها.
3_ الحداثة في الثقافة، والإطلاع على آخر صيحات العصر في الفكر والفن والأدب دون وعي داخلي لتزيين القصور ولحديث الأندية والمجتمعات. فالثقافة ترف، والفن سلعة، والأدب من المستلزمات العصرية.
ب_ مخاطر الحداثة:
1_ ترويج التقدّم على السطح.
2_ انقطاع الماضي عن الحاضر، وغياب أي تطور طبيعي بينهما مما يسبب في الحياة العامة تجاورهما المكاني دون أي اتصال زماني.
3_ توليد المحافظة من أجل الدفاع عن القديم، وإحداث تيار عكسي للحداثة ورفض ما هو قائم.
4_ القضاء على خصوصية القديم ونوعيته، والتنكّر لها أو الجهل بها تماماً وإحلال الشمول محلّها.
5_ عدم اللحاق بالغرب وإنتاجه السريع، واللهاث وراءه، وهنا تحدث الصدمة الحضارية.
6_ تكوين طبقة من "المستغربين" أو ما سمّاهم فكرنا المعاصر "المُتأورِبين" منعزلة عن جموع الشعب لا أرض لهم، يعيشون في العواصم الأوروبية ويتنقلون بينها، وقد يولدون فيها ويموتون بها مثل مُلاّك الأرض الغائبين على مستوى الدولة.
7_ الولاء للغرب، إذ إنها تدور في فلك الأجنبي، وتمثّل مراكز الاستعمار الثقافي في البلاد، هم النخبة السياسية والثقافية والاجتماعية، أجانب ومصريون متأوربون، وأول من يجرفهم التيار في الثورة الوطنية كما حدث في مصر في ثورة 1952. فقد كان "طرد الأجانب" باستمرار أحد المطالب الوطنية كما حدث في ثورة عرابي.
ح_ دور الحداثة:
بالرغم من سلبيات الحداثة في مظاهرها ومخاطرها فقد كان لها بعض الدور مثل:
1_ تعليم جيل في التخصّصات الدقيقة كان له فاعلية وأثر على حياة البلاد في العمران بوجه عام والحياة الثقافية بوجه خاص، فأنشئت المدن الجديدة، وأقيمت البنايات الحديثة، ومُهّدت الطرق، وشُيّدت الجسور والسدود، إمّا لبقايا من وطنية أو لخدمة الاقتصاد الغربي أو للسيطرة على ثروات البلاد.
2_ تعليم أجيال لاحقة من الوطنيين أصبح ولاء معظمهم للبلاد فاتّسعت قاعدة الفنيين والمتخصصين مما ساعد على إعداد "البناء التحتي" للبلاد، وظلت البلاد في هذا الصراع بين المتخصص غير الوطني والمتخصص الوطني أولاً، ثم بين الوطني غير المتخصص بعد الثورة المصرية وغير الوطني وغير المتخصص في جيلنا هذا ثانياً بعد احتجاب مصر وظهور طبقة من غير الوطنيين وغير المتخصصين، لا أهل خبرة ولا أهل ثقة.
3_ كان المتأوروبون نافذةً لمصر خاصّة وللأمة العربية عامّة على العالم الخارجي. فمن خلالها اطلّع الوطنيون على مظاهر التقدم الأوروبي مما أوحى لبعض الحُكّام جعل مصر "قطعة من أوروبا" وكما حاول الغرب الشيء نفسه مع إيران قبل الثورة، فقد كانوا صحفيين ومفكّرين وسَاسَة ورحّالة، ولكن كان معظمهم علماء ومهندسين وفنيين.
4_ كانوا نافذة للغرب على العالم العربي. فاستطاع الغرب أن يرى من خلالهم الشعوب غير الأوروبية سواء من خلال كتاباتهم عن شعوبهمº مصر والشام خاصة، أو من سلوكهم وتقاليدهم وأحاديثهم عن بلادهم في الخارج. فقد رأى الغربيون صورة الشعوب غير الأوروبية مُجَسّدة في أشخاصهم.
(2) التحديث والتغريب:
والحقيقة أن هذه الحداثة في سلوك الأفراد لم تنتج أثراً في تحديث المجتمعات تحديثاً شاملاً نظراً لقيامها على "التغريب" في الوعي القومي، فالتحديث هو محاولة تغيير المجتمعات على يد "المُحدِّثين" الذين هم في واقع الأمر ضحية التغريب في وعيهم الثقافي والوطني.
أ_ النقل والاستيعاب:
يفترض التغريب أن وظيفة الشعوب غير الأوروبية هي النقل والاستيعاب لإبداعات الغرب، وكلّما أبدع الغرب لَحِقَ غيرُ الأوروبي بالنقل دون التمثّل أو الفهم أو حتى مجرد التفكير فيما ينقل. وقد أدى ذلك في الشعوب غير الأوروبية إلى الآتي:
1_ الخلط بين العلم والمعرفة، وذلك أن العلم شيء والمعارف العلمية شيء آخر. العلم هو نشأة العلم بناءً على تصوّر علمي للعالم وليس مجموعة من المعارف يحملها جاهل بنشأتها. ولكننا لم نَعِ هذا الخلط لأن وجداننا القومي يرى أنه "رُبّ سامع أوعى من مُبَلّغ" مع أن ذلك في الاستفادة والاستعمال وليس في الإبداع. فلا مانع لدى العالِم أن يكون ناقلاً لآخر النظريات في علوم الذرة ثم يتبرّك بآل البيت، ويغيّر واقعه بالدعاء.
2_ تصوٌّرُ أنّ التقدم هو استيراد آخر الاختراعات وإنجازات التكنولوجيا الحديثة وليس إبداع وسائل للسيطرة على الطبيعة حتى اضطرت الشعوب غير الأوروبية إلى انتظار "قطع الغيار" لوسائل لَم تُبدِعها. ولمّا كان مُعدّل النقل أكبر من معدل الاختراع تحوّلت مجتمعاتنا إلى مجتمعات استهلاكية صرفة لما ينتجه الغرب.
3_ القفز إلى النتائج دون المقدمات، وقطف الثمار بلا غَرس، فالإنجازات العلمية إنما أتت بعد تطور طويل للمنظور العلمي منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر حتى عصر الاكتشافات العلمية في القرن الماضي، وتكنولوجيا هذا القرن. ولكن مجتمعاتنا تحاول أن تعيش في عصر النهضة وأن تقفز إلى عصر التكنولوجيا دون أن يحدث تطور طبيعي في منظورها العلمي أو في تصوّرها للعالم لأن التاريخ ومراحله ليس بُعداً في وجداننا القومي.
ب_مخاطر التغريب:
1_ التعلّم المستمر والتتلمذ على أيدي الغير إلى ما لا نهاية، والتهميش والترجمة لما نتعلّم يُرهَق الذهن ويضيع الوقت في الاستيعاب ويتحول الذهن إلى "مُلّقي العلم" وليس إلى "مُبدِع العلم"، ويصبح العلم كمّاً هائلاً بلا كيف، ويغلب على إنتاجنا طابع التجميع والعرض باسم العلم، ويصبح العالِم هو صاحب العلم الغزير، ويكون أفضل عالم هو العالم الموسوعي.
2_ لمّا كان معدّل الإنتاج الغربي أسرع بكثير من معدّل الترجمة، طالت فترة الترجمة والتجميع ولم نتحول بعد إلى التأليف والإبداع، مع أن فترة الترجمة الأولى لم تستغرق أكثر من مائة عام وهو القرن الثاني الهجري جاء بعدها التأليف في القرن الثالث عند الكندي مثلاً. ونحن قد بدأنا الترجمة في القرن الماضي منذ بعثات محمد علي وتحت إشراف الطهطاوي وما زلنا نشكو من نقص التراجم.
3_ تكوين مُرَكّب العظمة الحضاري لدى الشعوب الغربية وفي مقابلها مركّب النقص الحضاري لدى الشعوب غير الأوروبية ما دامت العلاقة أحادية الطرف، طرفٌ يُعطي وطرف يأخذ، طرف يبدع وطرف ينقل، وبمرور الأجيال، تتحول العادة إلى طَبعٍ,، ويتحول الطَبعُ إلى سلوك طبيعي.
4_ ضياع قدرة العقل على التفكير وتحويله إلى وظيفة الذاكرة أي التذكٌّرُ والاستيعاب. وبالتالي تَقُلٌّ قدرات الذكاء، وتختفي محاولات الإبداع وينتقل ذلك الموقف الحضاري العام إلى نمط في الحياة الثقافية في التعليم في المدارس والجامعات حتى في معاهد البحث العلمي.
5_ خلق طبقة من المتخصّصين لنشر العلم والقيام بأعمال الترجمة لمراكز الثقافة الممثّلة للدول الغربية، وتوجيه الرأي العام لدى الشعوب بنوع المعلومات المترجمة ومعظمها عن مآثر النهضة الأوروبية ومميزات المدنية الحديثة حتى يتحوّل الوعي القومي من الذات إلى الغير فتتكسّب هذه الطبقة، وتحوّل العلم من رسالة إلى منفعة شخصية أو إلى وجاهة إجتماعية وسط شعوب في حاجة إلى التعلم والمعرفة.
6_ ويزيد وَلاءُ هذه الطبقة للغير إلى حدّ يَقربُ من الخيانة الوطنية إذا ما أصبحوا أدوات للغزو الثقافي الأجنبي، ورُسُلاً للاستعمار الثقافي وهم على وعي بدورهم، فيجرفهم في النهاية أقرب تيار للثقافة الوطنية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply