قبل الولوج في أبعاد هذه القضية يطيب للمرء أن يبسط بعض التساؤلات التي تتزاحم ربما في أذهان كثيرين من أبناء الوطن العربي حول ما يجري في غرب السودان، وعلاقة الولايات المتحدة الأمريكية به.
لست في وارد الدفاع عن النظام السوداني وما قد تسببت به سياسته للأهل في دارفور، ولكن إن كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد فرضت علينا أن نعطي عقولنا إجازة، ونستبدل بها عقلاً أمريكياً خالصاً كان أو معولماًº فلا غرو أن نقول بأن ما ينسب للنظام السوداني وميليشيات الجنجاويد من قتل و"تطهير عرقي" في "الغرب السوداني" على فرض صحته هو من قبيل محاكاة "حرب الاستقلال الأمريكية" التي استدعت أفعالاً مماثلة أيضاً في "الغرب الأمريكي"؟ (في الواقع من الغبن أن يتماثلا إذ أفضت عمليات الجنجاويد إضافة إلى عوارض طبيعية من قلة أمطار، وارتفاع للحرارة إلى تشريد نحو مليون سوداني من سكان البلاد الأصليين الأفارقةº فيما أدت عمليات التطهير العرقي التي قام بها الرجل الأبيض في أمريكا إلى سحق 112 مليون هندي من سكان البلاد الأصليين، أيضاً علاوة على أن التاريخ قد أثبت تورط الرجل الأبيض في جرائم التطهير العرقي، واستقر العلم بذلك بمرور القرون، بينما يظل معظم المنسوب للجنجاويد محل دراسة لما تبثه الآلة الإعلامية الأمريكية، وحركات التمرد في دارفور).
وبين "الغرب الأمريكي" و"الغرب السوداني" يفرض التساؤل التالي نفسه على ذهن المواطن العربي:
ترى أي البلدين أحق بأن تنشر به قوات عربية وإسلامية، بلد رازح تحت نير الاحتلال، أم بلد يستنجد بإخوانه لئلا يقع تحت سلطة الاحتلال؟ هل أصيبت الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي بضعف في بصرهما فرأوا السودان عراقاً، والعراق سوداناً؟
ثم ما الذي يجعل دولة تريد تأمين وصول مساعدات للاجئين مدقعي الفقر تغل أيدي كل المنظمات الإغاثية في الدول المجاورة العربية والإسلامية، وتسمح فقط لتلك المرتبطة بالفاتيكان، والكنيسة الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية، أهي إرادة الخير لهذا البلد النامي؟
ولماذا تكاثرت النصال على الشعب السوداني بعدما بدأ النفط كما المياه يجري في شرايينه؟
هذه وأخواتها بعض من تساؤلات تعن للمواطن العربي، وقد باتت القضية كل يوم تتضح له بجلاء بما تحتويه من مؤامرات تستهدف وحدة السودان، وتطويق مصر من الجهة الجنوبية.
والحاصل أننا أضحينا لا نكترث كثيراً بأسباب دعت الرئيس الأمريكي وتابعه توني بلير رئيس الوزراء البريطاني أن يرغيا ويزبدا تهديداً بالتدخل المباشر في الغرب السوداني، فالأسباب لم تعد ما يهم المواطن العربي الذكي الذي أصبح يدرك أن إعلان الحرب على "الإرهاب" "حرباً صليبية" كما ورد على لسان جورج بوش أكثر من مرة، هي أبلغ ما يختزل جميع أهداف الغزو الأمريكي لبلاد بني يعرب شرقاً وجنوباً، وإنما ما أصبح يسيطر الآن على أذهان المواطن العربي ومن قبله المراقب العربي هو المضاعفات الإقليمية والمحلية للمشروع الأمريكي الاحتلالي في دارفور، والذي نستطيع أن نجمع مفرداتها فيما يلي:
* محلياً:
1 ـ من شأن التدخل الأمريكي/الأوروبي المزمع في دارفور أن يقوض ما تبقى من الدولة "الإسلامية" في الخرطوم، وأن يؤذن لدولة لا دينية جديدة بعد أن تفرض حركات التمرد في الجنوب والغرب السوداني أجندتها بمعية أمريكية/أوروبية على نظام الخرطوم.
2 ـ يؤدي نجاح الحملة الأمريكية الجديدة في تنفيذ مسعاها لإخضاع السودان ( وهي حملة قد تمر بمراحل من الضغوط مروراً بالحصار الاقتصادي والعسكري مثلما جرى في العراق الذي لم يكن باديء الأمر التوجه الأمريكي لاحتلاله) إلى إفراز نموذج من الحكم المتشكل بالأساس من حفنة من منتفعي الصناعة النفطية الواعدة في السودان الموالي كلية لأساطين النفط في ولاية تكساس الأمريكية وما حولها.
3 ـ إطلاق أيدي المنصرين عبر بوابة الإغاثة، وإحياء النعرات الطائفية والقبلية بغية خلخلة بنى الشعب السودانيº ومن ثم تمزيقه.
4 ـ ربما تفضي هذه الحملة الأمريكية في آخر المطاف إلى تقسيم السودان لأكثر من دولتين.
* إقليمياً:
1 ـ تعني السيطرة على السودان من خلال المشروع الأمريكي في دارفور إلغاء أدوار جيران السودان كأنظمةº من أمثال إرتيريا وإثيوبيا وأوغنده وإفريقيا الوسطى وتشاد من جهة، ومن جهة أخرى فتح جبهة قتالية جديدة لعشاق مقاتلة الولايات المتحدة الأمريكيةº واحتمالية نشوء تحالف إسلامي من المناوئين للولايات المتحدة الأمريكية يضم الجماعات الإسلامية السودانية، وحركة الإصلاح الإرتيرية، وحركة تحرير الأوجادين في كل من الصومال وإثيوبياº علاوة على الاستقطاب المتوقع لفئام ممن يسمون بـ"الأفغان العرب" عموماً، وتنظيم القاعدة خصوصاً، ما قد يطيل أمد الحرب في السودان مثلما حدث في العراق.
2 ـ إحكام السيطرة على جنوب مصر بعدما أحكمت الولايات المتحدة سيطرتها على حدود مصر الشرقية (عبر الكيان الصهيوني)، وحدودها الغربية (عبر ليبيا)، وحدودها الشمالية (عبر الناتو)، ومن جهة أخرى إفساح الطريق أمام التوغل الصهيوني أكثر في وسط وغرب إفريقيا إذ الطريق معبدة لذلك من خلال البوابة الأمريكية الفسيحة، ومن ثم تهيئة الأجواء أيضاً لإقامة ما يسمى بـ"إسرائيل الكبرى" الممتدة من الفرات المحتل، وحتى النيل (المحتل ساعتئذ).
* دولياً:
في حال نجح المخطط الأمريكي في احتلال دارفور، أو إخضاع الحكومة السودانية سلماًº فإن ذلك سيعني ما يلي:
1 ـ سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على احتياطي النفط السوداني الضخم الذي قدره بعض الخبراء بما يوازي الاحتياط النفطي للعربية السعودية، وهذا المعنى لا يغيب عن واضعي السياسة الأمريكية في السودانº وقد كان جون دانفورث المبعوث الأمريكي إلى السودان قد عبر بصراحة عن هذا الهدف بقوله: " إن وقف الحرب الأهلية في السودان يمكن أن يفتح الباب أمامه ليصبح دولة نفطية كبرى في إفريقيا "، مضيفاً أنه تم تكليفه من قبل بعض إدارات الحكومة الأمريكية بإعداد ملف عن النفط السوداني، وكيفية توزيع عائداته، وفي هذا الصدد ترى بعض الدوائر الأمريكية أن السيطرة على هكذا مصدر للنفط كفيل بأن يوفر للولايات المتحدة الأمريكية ما تعجز الآن عن توفيره عالمياً من النفط الذي تحتاج نحو سُبعه (فيما يلامس سعر نفط تكساس الآن 44 دولاراً للبرميل في ظل عجز نفطي يتجاوز المليون برميل يومياًº حيث المنتج الآن يزيد على 81 مليون برميل يومياً في العالم، فيما يطلب العالم أكثر من 82 مليون برميل).
2 ـ حرمان القوى الدولية الكبرى لا سيما فرنسا من إحكام السيطرة على بحيرة النفط التي تمتد من دارفور وحتى مالي مروراً بإفريقيا الوسطى وتشاد والكاميرون، وحرمان شركات النفط من بسط نفوذها في تلك البحيرة من أمثلة شركات النفط الصينية والماليزية والفرنسية، لاسيما وأن شركة شيفرون النفطية الأمريكية كانت أولى الشركات التي اكتشفت وجود النفط بغزارة في السودان (للعلم فإن هذه الشركة كانت تعمل لحسابها مستشارة الأمن القومي الأمريكي كونداليزا رايس قبل انضمامها للإدارة الأمريكية الحالية، ولدى الشركة سفينة عملاقة تحمل اسم رايس حتى الآن).
3 ـ السيطرة على الصناعة الصمغية بغرب السودان، وهي الصناعة الأولى في العالمº وحيث الولايات المتحدة الأمريكية هي المستورد الأول للصمغ السوداني.
4 ـ منع الصين من إيجاد موطئ قدم لها من الناحية العسكرية والاستراتيجية عبر صداقتها مع نظام عمر البشير.
5 ـ تأمين طريق نفطي آمن وسهل عبر الأطلسي الذي سيجاور صناعة نفطية واعدة في دول الغرب الإفريقي الممتدة من دارفور وحتى مالي والنيجر.
6 ـ تعبيد الطريق أمام توغل أمريكي جديد في إفريقيا، واستلاب فرنسا نفوذها الاستعماري البائد، بعدما فعلت نفس الشيء عبر التدخل في رواندا وبوروندي بعد المذابح التي جرت فيهما، ومعلوم أن السودان يشكل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية أرضاً خصبة للانطلاق إلى قلب القارة الإفريقية لتحقيق أهدافها العسكرية والاقتصادية في القرن الأمريكي الجديد.
وعلى ذكر مجازر روانداº التي أفضت إلى مقتل أكثر من 800 ألف من قبائل الهوتو والتوتسي في منطقة البحيراتº ألم تكن هذه المجازر التي نفذت قبل عشر سنين على وجه الدقة بكل وحشيتها هي الأجدر باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى حل مشكلتها قبل تفاقمها بدلاً من قضية دارفور التي لم يجاوز عدد ضحاياها وفق أكثر الإحصاءات تشاؤما 30 ألف ضحية؟ أم إنها الإنسانية الأمريكية الحولاء التي لا يستثير "ضميرها الحي" - أو بالأحرى ضمائرها "الحيـة" - إلا أصوات آلات الحفر بحثاً عن النفط شريان "الضمير الأمريكي"، وأصوات تلاوة القرآن من أطفال دارفور المسمون بأهل القرآن طمعاً في إسكاتها؟!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد