المد التنصيري بالمغرب والصورة الموازية لتحجيم العمل الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أصبح لظاهرة التنصير بالمغرب بروز إعلامي خاص في الأسابيع القليلة الماضية، إذ تسلمت الملف - على غير العادة - صحافة ما يسمى بالإعلام "المستقل"، بعدما صامت عنه مؤجلاً الصحافة الإسلامية.

جاء ذلك بعد أن أثير الموضوع تحت قبة البرلمان المغربي، وتم الحديث في الصحافة الوطنية (المستقلة) عن قدوم منتظر لأكثر من 90 منصراً أمريكياً إلى المغرب، وهو المعطى الذي يأتي في سياق الحديث عن المد التصاعدي الذي عرفه التنصير بالمغرب كواحدة من نتائج تفجيرات الدار البيضاء في السادس عشر من مايو 2003.

والواضح أن الظاهرة التي كانت المادة الخام لصحف التيار الإسلامي قبل هجمات 16 مايو ضد العاصمة الاقتصادية للمغرب الدار البيضاء، يتم تناولها في الصحافة "المستقلة" بشكل يشي بكونها (أي الظاهرة) ماضية في التوسع، رغم أن تناول الصحافة "المستقلة" لإشكالية التنصير في المغرب ضمن البحث عن مواضيع الإثارة، وما تسميه بـ"المسكوت عنه"، على عكس صحافة الحركة الإسلامية التي تتناول الموضوع إعلامياً من باب الالتزام والمسؤولية في كشف خطره على الوحدة العقدية للمغاربة.

لم تكن تفجيرات 16 مايو 2003 الآثمة ضد المغرب والمغاربة في عاصمتهم الاقتصادية مجرد حادث غير عادي انتهى بحصيلته البشرية الثقيلةº ولكنها كانت طبقاً لرأي المراقبين منعطفاً تاريخياً خاصاً كانت له تداعياته المستقبلية على المدى القريب والبعيد على المجتمع المغربي، وعلى العمل الإسلامي والدعوي الذي انشغلت به جل الجماعات الدعوية البارزة صاحبة الخط المعتدل والسلمي، مثل حركة التوحيد والإصلاح، وجماعة العدل والإحسان، ثم جماعة "الدعوة والتبليغ" المغربية المتمركزة في الدار البيضاء نفسها، هذه الأخيرة وإن اتسمت في منهجها وآلياتها الدعوية بنوع من السطحية، إلا أن عملها مثمر على مستوى معين في معظم التراب الوطني المغربي.

كانت تفجيرات الدار البيضاء المؤلمة ذريعة لحملة داخلية وخارجية واسعة النطاق قادها رموز اليسار المغربي القديم، إضافة إلى ما بات يعرف في المغرب باسم "جبهة الحداثيين الجدد"، من خلال صحافة حزبية، وبعض منابر الصحافة "المستقلة" ضد كل ما هو إسلامي بزعم محاربة الإرهاب، ومن هو مسؤول عنه "مسؤولية معنوية"، وكان في مرمى مدافع تلك الحملة الإعلامية الشرسة حزب العدالة والتنمية، وحركة "التوحيد والإصلاح" الداعم والمنخرط أعضاؤها في الحزب.

وجرت الحملة في اتجاه تكميم أفواه العاملين لصالح العمل الدعوي (والخيري على شحه وضآلته) ضمن العمل السياسي - وحتى في الحياة العامة - بممارسة الرقابة والتجسس على جمعيات التخييم، والجمعيات التربوية والخيرية، وعلى الخطباء، واتهامهم بـ"احتكار الدين والأخلاق"، في مقابل ذلك تولت منابر أخرى (صحيفتا "الأحداث المغربية" و"النهار المغربية") كبر الدعوة إلى حرية الجسد بدعوى الثقافة الجنسية، بل إن الأمر اتخد بعداً أكبر، فقد شهدت الساحة الإعلامية فصول معركة ساخنة قادها اليسار والحداثيون على خطباء الجمعة بسبب استنكار الخطباء لاستفحال ظاهرة العري التي ترتفع حدتها في فصل الصيف.

وفي محاولة هدفها تكميم أفواه الدعاة - في وقت لا نعلم بلغة الأرقام والحقائق الكاشفة كيف تصول وتجول جماعات التنصير في المملكة - وصفت المنابر اليسارية الخطباء بـ"الظلامية، والرجعية، والتطرف"، ففي الصفحة الأولى ليومية "الأحداث المغربية" القريبة من حزب الاتحاد الاشتراكي اعتبرت الصحيفة ما جاء في الخطب المذكورة "آراء متطرفة"، لا لشيء إلا لأنها دعوة للمجتمع - ومنها المرأة - بالستر والتمسك بهويتها، وفي تحد كبير ومستفز لشخصيات الدولة نشرت أسبوعية "البيضاوي" على صفحتها الأولى صورة تم تركيبها تظهر وزير الأوقاف أحمد التوفيق وبجانبه مغنية شبه عارية تتكئ على كتفه، وفوق الصورة عنوان بارز ومستفز للحركة الإسلامية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية "الحرب المقدسة ضد الميني بوط".

واللافت للنظر أنه خلال الجدل الذي دار بين إعلام الحركة الإسلامية المعتدلة وإعلام اليسار و"الحداثيين الجدد" حول مقاربة أسباب العنف الذي كان من نتاجه أن ضرب المغرب عبر مدينة الدار البيضاء، فسر الإسلاميون الظاهرة على أنها وليدة عوامل موضوعية جذرية تتمثل في الفقر والبؤس، والتهميش، وغياب العدل، وتغيب دور العلماء والدعاة والحركات الإسلامية الوطنية الفاعلة في التوعية وتعميق الحس الوطني والديني بما يحصن الشباب المغربي ضد آفة التطرف، أو الوقوع فريسة للدعوات الضالة ومنها التنصير، هذا في الوقت الذي تتناول فيه الصحافة "المستقلة" الحديث عن التنصير بالمغرب.

اليوم يكاد المشهد الدعوي في المغرب ينعكس، جاء في واحدة من أسبوعيات الصحافة "المستقلة" أسبوعية "الأخبار" وهي تقدم في تناولها لظاهرة التنصير مشهداً مختلفاً في المحطة البرية بالعاصمة الإدارية الرباط:

طفل رث الثياب، فقير الحال، كما هو شأن الكثيرين من أقرانه، يبيع المناديل الورقية، يمشي بين السيارات والحافلات، يقفز بين هذه وتلك لعله يقنع الركاب والسائقين بطلب بضاعته دون جدوى، وتتوقف في اللحظة سيارة فارهة من ذوات الدفع الرباعي، يتكلم ركابها بوجه بشوش إلى الطفل، ويقنعونه بالركوب لاصطحابهم لعلهم يستطيعون تغيير شيء من حاله وهندامه وحتى وضعه.

هكذا والمتأمل لهذا المشهد "التبشيري" الذي يصور واحدة من آليات التنصير بالمغرب، لا شك وأنه يتذكر كيف انسحب المواطن المغربي المؤطر في ساحة العمل الدعوي في المحطات البرية، والحافلات، وعلى طريق السفر، وفي البوادي والحواضر، وهو الدور الذي كان يتوزعه رجال جماعة "الدعوة والتبليغ" المغربية وباقي الجماعات، إلى وقت قريب قبل تفجيرات الدار البيضاء كانت المحطات البرية، وحافلات المسافات الطويلة الرابطة بين الحواضر والبوادي تشهد نشاطاً دعوياً مثمراً يحركه متطوعوا "التبلغ والدعوة"، والفضل لهؤلاء يشهد لهم به العديد من المراقبين في إنقاذ الكثيرين من الانحراف والإحباط، وتنظيف عدد من بؤر الإجرام في مدن المغرب، وخاصة في العاصمة الاقتصادية ذاتها.

إذن نحن أمام صورة مختلفة انقلبت فيها الحقائق المتعلقة بواقع الدعوة من جهة والتنصير من جهة أخرى، إذ انحسر دور المواطن في ملء الفراغ الروحي المتأتي من الهجمة الثقافية الغربية، وحملات الانحلالº لحساب المد التنصيري، ولا نقول إن هذا التحول هو لغير حساب المد الإسلامي الدعوي بالكامل، بل يبقى عاملاً مستفزاً للحركة الإسلامية ومعها الدولة إن كان الطرفان يدركان الخطر.

من جهة أخرى فإنه من المعروف أن البعد السياسي يشكل واحداً من أهداف ووسائل خطط التنصير في العالم، والعبرة في تجارب عدد من الدول الإسلامية أو ذات الغالبية المسلمة، والمثال ليس عنا ببعيد، فقد اقتطعت "تيمور الشرقية" من إندونيسيا المسلمة بعدما أتى التنصير فيها على الأخضر واليابس، أضف إلى ذلك السودان المسلم وما دبر له في الجنوب، ويدبر له في الغرب، وحتى في الشرق، الجنوب نصر جله منذ عقود، والآن يحضر له الانفصال بعد 6 سنوات من فترة الحكم الذاتي، والأزمة الإنسانية في دارفور في الغرب تحولت إلى أزمة سياسية، ويجري تصويرها كنزاع لعرق عربي مسلم ضد عرق إفريقي مسلم!! يحدث هذا بموازاة حضور تنصيري حثيث، فهل ما يراد للمغرب عبر بوابة التنصير يكون على هذا المنوال؟

لا نستغرب هذا السؤال مادام هناك من يتحدث (في الصحافة "المستقلة": أسبوعية "النهار") عن حزب سياسي نصراني، مادام هناك حزب سياسي ديني إسلامي في البلاد!!

ولا نستغرب إذا وجدنا من يدافع (في الصحافة "المستقلة": أسبوعية الأخبار) عن حق المنصرين في حرية الحركة، مادام الإسلاميون يمارسون الدعوة، ويبنون المساجد!! ولا نستغرب أيضاً ممن أصبح يتحدث أيضاً عن "الشيعة المغاربة" رغم أن المغاربة عاشوا على مذهب "مالك" منذ أن عرفوا الإسلام!!. وفي الوقت نفسه لا نستغرب من الحملة الإعلامية الشعواء لإسكات العلماء إذا ما قرروا الابتعاد عن السياسة (إثر حملة سابقة)، ولكن مع الالتزام بواجب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ولا نستغرب كذلك إذا ما وجدنا أيضاً بعض تلك الصحف تفتح صفحاتها لثقافة العري والدعارة والشذوذ الجنسي باسم حرية التعبير، بموازاة فتح مدافع الكذب والبهتان والاتهامات النكراء على كل ما هو إسلامي، في مقابل ذلك كله تفتح المقابلات والحوارات مع "المسيحيين المغاربة"، ويتحدث معهم ولهم عن حزب سياسي، وعن نفوذ سياسي بالمغرب بحثاً عن التحكم في دواليب القرار السياسي.

والمضحك أن أسبوعية "النهار" (قبل أن تتحول إلى يومية متخصصة في الحديث عن "المسكوت عنه") تناولت ملف التنصير قبل أحداث 16 مايو الأليمة، وأقحمت بشكل غريب جداً حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي المدعوم من "حركة التوحيد والإصلاح" وهي تتحدث عن آليات التنصير قالت بالحرف: "يعتمد المسيحيون نفس الميكانيزم الذي يعتمده الإسلاميون، إذ إنهم يتوجهون بقوة المال، والخطاب اللغوي الديماغوجي إلى الطبقات المسحوقة بالأحياء الشعبية، و"أحزمة العار" و"الكاريانات" (أي دور الصفيح)، مع فارق بسيط أن الدستور ضمن لإسلاميي العدالة والتنمية حرية التعبير.."، ثم تقول الصحيفة ذاتها قبل ذلك: "وإذا كان حزب العدالة والتنمية تغلغل في عمق المجتمع المغربي، وكسب طبقات وشرائح مجتمعية واسعة، وفي بعض الأحياء الراقيةº بسلوك أساليب الوعظ والإرشاد والعمل الإنساني من خلال المساعدات المادية والغذائية، وتشييد الجوامع والمساجد، وتمويل الخيريات .....فالمسيحيون المغاربة (كذا) راهنوا على مستجدات العولمة، وأنظمة السوق، وعزفوا على الوتر الحساس للشباب المغربي بتهجيرهم إلى دول أوروبا..."، هكذا يتحدث عن إسلاميي المغرب و"مسيحيي المغرب"، وكأن الإسلاميين قوم جاؤوا لتوهم من كوكب آخر، وبدين جديد غريب عن المغاربة، ثم يتحدث في مقابل ذلك عن "المسيحيين المغاربة" كند ديني سياسي قائم.

بيد أن الملاحظين يردون مثل كلام "النهار" إلى سياق الحرب التي تُشن على الإسلاميين قبل وبعد هجمات 16 مايو لإقصائهم من أو التضييق عليهم وتحجيمهم (على الأقل) في الحياة السياسية والحياة العامة، ومن ثم تربط تلك التفسيرات الأمر بدعوات منع الأحزاب الدينية، وصياغة قانون للأحزاب ينسجم ويعكس هذه الدعوة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply