العلاقات التركية - الإسرائيلية والخطوط الساخنة!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مراجعة تركيا المسلمة في ظل حكومة 'العدالة والتنمية' علاقتها بـ'إسرائيل'، وإعادة النظر في الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين، و'الفتور' في العلاقات الشخصية بين المسؤولين من الجانبين، هل هو إجراء تكتيكي ينتهي بمجرد زوال أزمة بسيطة؟ أم هو نوع من المراجعة العامة من قبل أنقرة؟ وهل الأمر مرتبط بما يحدث في مناطق الأكراد والدور 'الإسرائيلي' المؤثر، والذي أزعج حكومة أردوغان أم ماذا؟

سنحاول البحث عن إجابة لهذه التساؤلات وغيرها بالتعرض لجذور العلاقة التركية الإسرائيلية والتحولات بعد عام 1973م، واكتشاف أن مصالحها مع العرب أكثر من مصلحتها مع إسرائيل، وهو الذي دفعها للتصويت على قرار الأمم المتحدة الذي ساوى بين 'الصهيونية والعنصرية' في عام 1975م، والاحتجاج في عام 1980م على قرار ضم القدس لإسرائيل، وسحب القائم بالأعمال التركي من تل أبيب، والاعتراف بالدولة الفلسطينية التي أعلنت بالجزائر عام 1988م.

 

أول دولة إسلامية:

وترجع العلاقات بين تركيا وإسرائيل إلى عام 1948م، حيث كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل دولة مستقلة، وتتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، وحتى عام 1963م كانت تركيا تنظر إلى إسرائيل باعتبارها إحدى الدول النامية التي استطاعت أن تحقق نمواً اقتصادياً سريعاً، وقد حاولت تركيا إقامة علاقات متوازنة - من منطلق براجماتي - مع كل من العرب وإسرائيل، ولهذا اتسمت سياستها بالتذبذبº ففي 1967م أعلنت رفضها لضم إسرائيل للأراضي العربية، وقامت بالتصويت في الأمم المتحدة لصالح انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، غير أنها رفضت التصويت في نفس الفترة على القرار الذي أدان إسرائيل.

ويرى عبد الله صالح أن العلاقات التركية الإسرائيلية شهدت منذ بداية التسعينيات انتعاشاً كبيراً، ساعد على ذلك عدة عوامل إقليمية وداخلية في تركيا، تمثلت في تدهور العلاقات التركية مع دول الجوار العربي [سوريا والعراق] بسبب الخلافات حول قضيتي المياه والأكراد، وتعثر محاولات تركيا للانضمام إلى السوق الأوروبية، وتوتر العلاقات مع اليونان بسبب الاشتباكات البحرية في بحر إيجه، هذا فضلاً عن العوامل الداخلية المتمثلة في نتائج الانتخابات التركية التي أسفرت عن فوز حزب الرفاه الإسلامي، وتزايد نشاط الثوار الأكراد في جنوب شرق تركيا، ففي عام 1991م قامت تركيا برفع تمثيلها الدبلوماسي مع إسرائيل إلى درجة سفير، كما أعلنت عن استعدادها لبيع كميات هائلة من المياه لإسرائيل وتحديداً من مياه نهر الفرات الذي يجري معظمه في أراض سورية وعراقية، وارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 124 مليون دولار عام 1990م إلى 363 مليون دولار عام 1995م.

ويأتي عام 1996م ليحمل في شهر فبراير منه أنباء تعاون عسكري استراتيجي بين الدولتين بما يعبر عن اتفاق وجهتي نظر البلدين على وجود فراغ أمني في القوقاز والعالم العربي على حد سواء، وأن بنود هذا الاتفاق تضمنت الآتي:

أولاً: السماح للطائرات الإسرائيلية بالقيام برحلات تدريبية في الأجواء التركية، ومنحها الحق في استخدام المطارات التركية.

ثانياً: القيام بمناورات عسكرية مشتركة.

ثالثاً: التعاون في مجال التصنيع الحربي.

رابعاً: قيام إسرائيل بصيانة وتحديث الطائرات التركية من طراز[F14]، وقيام تركيا بصيانة وتحديث الطائرات الإسرائيلية من طراز [F16].

 

قلق .. وتوتر:

وقد أدى توقيع الاتفاق التركي الإسرائيلي إلى ردود فعل عربية متفاوتة بين غاضبة وقلقة، أو مترقبة للنتائج، واعتبرت إيران أن الاتفاق يتعارض مع المصالح الأساسية للعالم الإسلامي، كما ترتب على الإعلان رسمياً عن إجراء مناورات بحرية مشتركة في البحر المتوسط 'للبحث والإنقاذ' خلال الفترة من 15 ـ 25 نوفمبر 1997م ردود فعل عربية، فقد اعتبرت سوريا أن المناورات محاولة يائسة للضغط على سوريا لثنيها عن موقفها الحاسم في عملية السلام الذي لن يتغير، كما أعلنت مصر أن هذه المناورات تمثل رسالة سلبية إلى الدول العربية.

وقد تزامن الإعلان عن إجراء المناورات العسكرية المشتركة الإعلان عن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لجمهورية أذربيجان وهي الجمهورية السوفيتية السابقة والمستقلة، عضو رابطة الكومنولث الحالي، ذات الأصول التركية، والغنية بمواردها النفطية، وموضع اهتمام روسيا والغرب على حد سواء، حيث تشكل 'كونورتيوم' النفط الأذاري الذي شاركت فيه الشركات الغربية وتركيا، وتعتبر هذه الخطوات ذات مغزى إستراتيجي هام إذا نظر إليها في سياق معادلة الأمن في القوقاز، أو الشرق الأوسط، واعتبار تركيا أن أذربيجان دولة تنتمي إلى الأصول التركية، وأن التكامل الاقتصادي والسياسي بينهما لا بد أن يتكامل مع السياسة الأمنية التركية، وأنها دولة غنية بالنفط سواء المستخرج من إقليمها، أو من الجرف القاري لبحر قزوين الذي تقع على شواطئه.

وهكذا يصبح النفط الأذاري منافساً للنفط الخليجي العربي، وبديلاً له عند الاقتضاء، كما يمكن أن يكون مصدراً محتملاً للطاقة التي تفتقر إليها إسرائيل، وتصبح تركيا مصدراً محتملاً للمياه في الشرق العربي لتحقيق المقولة التركية بمقايضة الماء بالنفط، إضافة إلى الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناجورنو قرة باغ.

وهناك عدد من العوامل دفعت تركيا إلى انتهاج هذا المنهج من الاتفاق مع الدولة الإسرائيلية وأبرزها: المشكلة الاقتصادية التركية، والأزمات الداخلية، إضافة إلى المعضلة الكردية، والعلاقات التركية مع سوريا والعراق، تعاني تركيا منذ أغسطس 1974م من حركة تمرد كردي تستهدف إقامة دولة كردية في مناطقها الجنوبية الشرقية ذات الأكثرية الكردية، على رغم أن هذه المشكلة تشكل بالأساس مشكلة داخلية لتركيا من حيث عواملها وأسبابها.

ويلاحظ أن تركيز تركيا بدرجة أكبر على العوامل الخارجية - الإقليمية لهذا العنف مقارنة بعوامله الداخلية يفسر - ضمن عوامل أخرى - اتجاهها إلى عقد اتفاق تعاون أمني مع إسرائيل في مجال مكافحة الإرهاب، لأن البلدين يرغبان في تبادل المعلومات بشأن المخاطر التي يشكلها العنف السياسي، لاسيما أن إسرائيل بدورها تعاني من العنف الأصولي المرتبط بالمنظمات الفلسطينية [حماس والجهاد].

 

الرفاه والقلق:

ولكن صعود حزب الرفاه الإسلامي للسلطة، ومشاركته حزب الطريق القويم في حكومة ائتلافية منذ انتهاء الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1923مº أثار ذلك قلقاً كبيراً ليس في الأوساط العلمانية في تركيا فقط، بل في بعض دول الجوار الإقليمي ودول غربية أخرى أعربوا فيها عن قلقهم في البداية من إمكانية أن تنحو هذه الحكومة منحى يتعارض مع مصالح هذه الدولº وهذا ما يفسر قلق عيزرا فيايستمان رئيس الدولة الإسرائيلية عندما صرح أثناء زيارته لأنقرة بأنه على ثقة من تدخل الجيش لضمان علمانية الدولة في حالة وصول الإسلاميين إلى الحكم.

وقد صدقت بعض هذه التوقعات في بداية حكم نجم الدين أربكان الذي كان قد أكد أثناء حملته الانتخابية رفضه للتعاون العسكري مع إسرائيل، وعلى تصميمه على تعزيز علاقاته مع العالم الإسلامي، بل إنه قام بعد ذلك بإصدار قرار لوزرائه بعدم التوقيع على قرض تبلغ قيمته 650 مليون دولار من إسرائيل لتحديث 45 طائرة تركية حربية من طراز F4 حتى تعدل إسرائيل من شروط القرض، وقد ذكر أن أربكان رأى في شروط هذا القرض نفعاً لإسرائيل أكثر من تركيا.

إلا أن هذا الموقف لم يستمر طويلاً، فقد تعددت الزيارات المتبادلة بين مسئولي الدولتين بداية من وزير الدفاع التركي توهان تايان، مروراً بالرجل القوي في المؤسسة العسكرية التركية نائب رئيس هيئة الأركان العام للقوات المسلحة الجنرال شفيق بير، والذي كان على رأس وفد يضم 26 ضابطاً كبيراً ومسؤولاً في مؤسسات الصناعة العسكرية التركية، وذلك تحت واجهة تعزيز التعاون العسكري بين البلدين، وقد سبق هذه الزيارات زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي ديفيد ليفي لأنقرة، وقد كان هدف الزيارات جميعها تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي والتجاري بين البلدين.

ولعل هذه الإستراتيجية في السياسة التركية تجاه إسرائيل ترجع إلى مجموعة من القيود أحاطت بأربكان وحزبه، وقد تنوعت هذه القيود بين قيود تتعلق بالمؤسسة العسكرية، وأخرى تتعلق ببنية الحكومة التركية ذاتها، وثالثة تتعلق بحزب الرفاه الإسلامي.

 

1ـ المؤسسة العسكرية:

وهي تعتبر من المؤسسات التي ينظر إليها بعين الاعتبار في تركيا، وذلك لقدرتها على إجراء التغييرات الفورية في الحياة السياسية إذا ما رأت ذلك، فرضاء المؤسسة العسكرية عن سياسة الحزب الحاكم هي ضمان أكيد لاستمراريته في السلطة، وتستمد المؤسسة العسكرية قوتها في الحياة السياسية التركية عبر حقيقتين:

أنها الوصي على المبادئ الأتاتوركية، وتأثيرها على مجلس الأمن القومي.

لذا فقد مارس الجيش ضغطاً على أربكان لحملة على عدم معارضة توقيع الاتفاق العسكري مع إسرائيل وذلك بعد اجتماع عقده رئيس الوزراء التركي مع وزير الدفاع وكبار ضباط الجيش، تراجع بعدها أربكان، وأكد أنه ملتزم بالاتفاقيات والمعاهدات التي وقعتها الحكومة السابقة.

 

2ـ التوازنات الخاصة بالحكومة الائتلافية:

وهذا القيد متعلق بتوازنات الحكومة الائتلافية الحالية، والمساحة الزمنية المتاحة أمامه بصفته رئيساً للوزراء، حيث يقضي الاتفاق بين حزبي الرفاه والطريق القويم بتولي أربكان لرئاسة الحكومة للسنتين الأولى والثانية، وتتولى تشيللر الثالثة والرابعة على أن تكون السنة الخامسة الاتفاق بين الحزبين، كما يتم تقسيم الوزارات داخل الائتلاف الحاكم بالتساوي، ولا يتم إصدار أي قرار من الائتلاف إلا باتفاق رئيس الوزراء [حزب الرفاه]، ونائب رئيس الوزراء [حزب الطريق القويم]، وتوقيعهما المشترك، ثم مصادقة البرلمان التركي عليه.

 

3ـ الرفاه من الداخل:

مثلما لم تكن الأحزاب اليمينية التركية علمانية كلية، إذ تضم بين صفوفها أعضاء ذوي اتجاهات إسلامية مختلفة على أي حالº فإن تركيا تواجه أوضاعاً داخلية وخارجية تتسم بخصوصيتها، واحتمالاتها المتعددة 'سلباً وإيجابياً'، ولكنه لم يبق أمامها إلا دعم دورها الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، وإلا فإن احتمال تهميشها سيكون كبيراً، ولذلك تبدو أهمية سرعة التحرك العربي لدعم أواصر التعاون مع تركيا لمواجهة مخاطر الهيمنة الإسرائيلية، وتحقيق سلام متوازن في المنطقة، وإذا كنا لا نستطيع اختيار جيراننا فإننا ولا شك قادرون على تحديد العلاقة التي تربطنا بهم.

وعلى ضوء ذلك فإن التجاذبات في العلاقة التركية الإسرائيلية تنبثق في الأساس من المصالح التركية القومية، ولا غير ذلك.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply