البعد الاجتماعي للدين الإسلامي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

يقول تعالى: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان...)) الآية 

الدين الإسلامي دين اجتماعي بطبيعته وبتنزيله، وبمقاصده وبتشريعه، وبتعاليمه العقدية والعملية معاً، هذه هي حقيقته وتكوينه ومقصده، وهي الحقيقة التي يستطيع أن يصل إليها كل من درس وتعمق في منظومته التشريعية بكلياتها وفرعياتها، كما يستطيع أن يدركها بعمق كل من آمن بتعاليمه، وطبقها في حياته.

ولعل أهم ما يميز هذا الدين عن غيره من الأديان هذا الجانب الاجتماعي المهم، ويؤهله بجدارة لينظم ويوجه ويحكم سائر شؤون الفرد والجماعة والمجتمع، ويجد لهم الإجابات المقنعة والراشدة لمختلف تساؤلاتهم وتطلعاتهم وأمانيهم في الحياة.

والدارس لتعاليم الإسلام - القرآن والسنة - يتبين روحانيتها الاجتماعية الدافئة، ويستطيع اكتشاف عنايته الدقيقة بالفرد والمجتمع، واهتمامه المتميز برسم الصورة المثلى، والمتوازنة للعلاقة الراشدة بينهما في سياق تناغم اهتدائي مع المولى - تبارك وتعالى -.

وهي الحقيقة التي اختلجت في صدور الكثير من الصحابة في العهد المكي الأول، وظلوا مترقبين تبلورها مع نزول التعاليم، فلما رأوا التعاليم تترى مؤكدة على العناية بالفرد والجماعة والمجتمع، حريصة على العلاقة النوعية والمتميزة بينهما استماتوا في سبيل نصرته، والدفاع عنه، ونشره بين الناس.

وقد نقلت لنا المصادر الإسلامية أن الصحابي الجليل عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - ظل وفياً لكلمة الإيمان التي نطق بها أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيلة ست سنين من عمر الدعوة الإسلامية، ولكن أعماقه كانت تعتلج باحثة عما يثلج صدره من الناحية الاجتماعية في تلك التعاليم المنزلة إلى أن نزل قوله - تعالى -: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون))[النحل:90] فلما نزلت قال: الآن استقر الإيمان في قلبي، وقلت في قرارة نفسي إن ديناً جاء لينظم الحياة الاجتماعية هو دين من عند الله لا من عند محمد، فالله الذي يأمر بثلاثة، وينهي مقابلهن عن ثلاثة في حياة الأفراد والجماعة هو رب حقيقي، وتعاليمه هي تعاليم حقيقية ليست من صنع محمد - صلى الله عيه وسلم -.

وإذا تأملنا في الآية التي كانت سبباً في تعمق واستقرار الإيمان في صدر هذا الصحابي الجليل لوجدناها آية اجتماعية صرفة، بموازين ومناهج وأدوات البحث الاجتماعي بمختلف فروعه وتخصصاته: العام والسياسي والثقافي والاقتصادي والأخلاقي والتربوي والبيئي.

 

البعد الاجتماعي في التعاليم القرآنية:

فالقضايا الاجتماعية الثلاث التي أمر الله - سبحانه وتعالى - بها عباده المؤمنين هي:

1 ـ العدل: والعدل قضية اجتماعية وسياسية تمس صميم الحياة الاجتماعية والسياسية للفرد وللمجتمع، فلا يمكن تصور العدل إلا ضمن سياق شبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تحكم الأفراد والجماعات.

فضلاً عن كون العدل أحد مظاهر الكيانات الراشدة التي تؤكد على كرامة الفرد والجماعة، إذ لا يمكننا أن نتصور - واقعياً - عدلاً أو ظلماً في معزل عن مؤسساته وهيئاته ومنظماته الاجتماعية والسياسية، ونوعية التشريعات الضابطة لها عدلاً أو ظلماً.

2 ـ الإحسان: والإحسان مستوى روحاني وأخلاقي وعقدي وسلوكي يعرج إليه الواصلون إلى رضا المولى - تبارك وتعالى -، وهو محراب عقدي مقدس في تعاليم الدين الإسلامي، لا يستطيع الوصول إليه إلا من استحق - بجهده ومكابدته ورضا المولى تبارك وتعالى عليه - رتبته الروحانية العالية، وهو يمس صميم الوجود الفردي والجمعي للكيان المسلم.

وفضلاً عن كونه درجة عقدية وروحانية وسلوكية فهو أحد معايير التفاضل للقرب من تحقيق رضا الله - تعالى-، وذلك عبر ممارسات الفرد المسلم الواقعية والاجتماعية في إطار شبكة العلاقات الاجتماعية الرشيدة في الأمة مع مختلف المخلوقات.

إذ الإحسان في حقيقته عملية اجتماعية معقدة ذات أركان خمسة هي: المحسن، المحسن إليه، منهج الإحسان، ووسيلة الإحسان، آثاره وتأثيراته، وهذه الأركان لا يمكن ممارستها إلا ضمن سياق اجتماعي سوي، حددت مناهجه وسبله ووسائله الشريعة الإسلامية.

3 ـ إيتاء ذي القربى: وإيتاء ذي القربى فرع تطبيقي من عملية الإحسان الكبرى، بل هو أخص وأدق في التدليل على اجتماعية هذا الدين، حيث إن إيتاء ذوي القربى أحد فروع الإحسان الاجتماعية التطبيقية.

وإيتاء ذوي القربى يقتضي بالضرورة إحداث صلات اجتماعية معينة معهم، تتمحور على المستويين المعنوي والأدبي والاجتماعي والسلوكي، وقد حددت الشريعة سبل ووسائل وطرق إيتاء ذي القربى، ووردت بشأنها سيول من النصوص القرآنية والنبوية المنظمة لشأنها.

والقضايا الاجتماعية التي نهى المولى - تبارك وتعالى - عباده المؤمنين عن إتيانها هي:

 1 ـ الفحشاء: والفحشاء مستوى عاطفي متدني يصل إليه الفرد بعد مروره بسلسلة من الانزلاقات الروحية والعقدية والسلوكية على المستوى العاطفي والانفعالي الفردي والاجتماعي أيضاً، إذ لا يمكن تصور حصول عملية التفحش من الفرد خارج منظومته الاجتماعية والتربوية والأخلاقية والدينية، فالفحشاء عملية اجتماعية أيضاً متكونة من أربعة أركان رئيسة هي: المتفحش، المتفحش عليه، ووسيلة التفحش، أثاره وتأثيراته.

والفحشاء عملية اجتماعية معقدة تبدو فيها تداعيات وانزلاقات الفرد الفاسد الضال في سياق شبكة العلاقات الاجتماعية غير السوية، تؤدي في نهايتها الوخيمة إلى تحطيم بناء النظام الاجتماعي المحكم والمنسجم للفرد وللجماعة وللمجتمع، ولذا فقد نهى الشرع الإسلامي عنها - منذ الفترة المكية - لخطورتها على حيوية وفاعلية المنظومة المرجعية الفردية والاجتماعية للكيان الاجتماعي.

2 ـ المنكر: والمنكر مستوى سلوكي وأخلاقي وروحاني متدن، يتردى فيه الفرد الضال الفاسد، وينطبع به وجدانه الباطن، ليبدو - فيما بعد جلياً - في شبكة العلاقات الاجتماعية بين الجماعات والأفراد، وفي صميم اتصالاتهم الاجتماعية الفاسدة المختلفة.

وهو فوق كل ذلك عملية اجتماعية ذات أبعاد ستة: قائم بالمنكر، والمنكر، وواقع عليه المنكر، ووسيلة المنكر، وأسلوب وطريقة المنكر، وتأثيراته إذ لا يمكن تصور وقوعه في نسيج شبكة علاقات الأفراد والجماعات بغير هذه الأركان الاجتماعية.

وإذا صار واقع الفرد والمجتمع قابلاً ومستمرئاً لكل أشكال المناكر القولية والعملية الفردية والجمعية، غير مستهجن لها قلبياً، وغير مستنكر لها عملياً، وغير مستنكف عنها سلوكياًº صار سقوط الفرد حتمياً من درجة الإنسانية الراشدة إلى درجة البهيمية العمية، وصار انهيار المجتمع وشيكاً في دائرة التخلف والانحطاط، وبالتالي آذن بغيابه الواعي عن مواطن الشهود الحضاري بين الأمم.

3 ـ البغي: والبغي وجه سلوكي مُجسد لمختلف أنواع المناكر القولية والعملية والوجدانية والقلبية الجمعية والفردية في شبكة العلاقات الاجتماعية للمجتمع، كما أنه فرع شكلي ومظهري عنه، تبدو من خلاله وقائع تطبيق المنكر فردياً واجتماعياً وأممياً.

وهو في صميمه عملية اجتماعية فاسدة ومدمرة لمختلف الأواصر الاجتماعية ذو أبعاد ستة هي: باغ، مبغي عليه، بغي، ووسيلة البغي، وأسلوب وطريقة البغي، وتأثيراته التدميرية، ولا يمكن حصوله واقعياً بغير هذه الأركان الاجتماعية الستة.

وبمجرد قبول الأفراد والجماعات بانتشار ظاهرة البغي بين نسيجهم الاجتماعي، ورفضهم مقاومته في واقعهم الحياتي والمعيشي، والتغاضي عن أركانه الاجتماعية الأخرى تعبث ويُعبث بها وفق هوى البغي والبغاة اجتماعياً، آل فرد ذلك المجتمع وجماعاته وسائر هيئاته ومؤساته إلى وضع تدميري تخريبي للبنيات الفطرية السوية لسائر شبكة علاقاته، ودخل آلياً في وضعية الاجترار القيمي الأرعن لأفراده وجماعاته، لينفلت بعدها - آلياً - إلى مرحلة التآكل والانهيار الداخلي القيمي والواقعي.

عبرة ونظر:

ولذا فقد حرصت التعاليم الإسلامية منذ العهد المكي الأول عن إيلاء البعد الاجتماعي قيمته الحقيقية تقديراً منها لأهميته في نجاح الدعوة بين الأفراد والجماعات، وتقديساً منها للبعد الاجتماعي لهذا الفرد المكرم.

وخلاصة النظر في هذه الآية من الناحية الاجتماعية أن العامل المشترك بين المأمورات الثلاثة والمنهيات الثلاثة هو التفاعل البشري الواعي والعاقل مع التعاليم الإلهية المنزلة المختتمة بقوله - تعالى -: ((لعلكم تذكرون)).  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply