بسم الله الرحمن الرحيم
منذ بضعة شهور وخاصة بعد قيام جريدة الواشنطن بوست بتفجير قصة مواقع الاعتقالات السوداء في شرق أوروبا كان من الصعب التقاط صحيفة أو مشاهدة التليفزيون دون سماع كلمات "تسليم قاس".
ثم بعد ذلك اختفى الأمر بشكل مفاجئ تقريبا مثلما ظهرº حيث توقفت الصحافة العالمية عن التركيز على ممارسة الولايات المتحدة لعمليات إرسال معتقلين إلى دول من المرجح أن يتم فيها تعذيبهم أو الإساءة إليهم.
وفي الأسبوع الماضي عادت قضية عمليات التسليم إلى الظهور، ولكن بطريقة من المرجح أنها لن تُسعد معارضيها.
لقد عادت عمليات التسليم عندما رفضت محكمة فيدرالية أمريكية دعوى قضائية ضد إدارة بوش تقدم بها المحامي في أوتاوا ماهر عرعر، وهو مواطن كندي من أصل سوري كانت السلطات الأمريكية قد قامت باعتقاله باعتباره إرهابيا مشتبها به أثناء توقف إحدى الرحلات في نيويورك مع عودته من إجازة في سبتمبر 2002.
وقد قام مسئولون أمريكيون فعليا بالقبض عليه دون منحه الحق أو الإمكانية في الاتصال بأحد، ثم تم إرساله إلى سوريا حيث قال إنه قد جرى تعذيبه واحتجازه في زنزانة صغيرة للغاية شبهها بـ"القبر" لمدة عام تقريبا. ولم يتم توجيه أية تهمة إليه حتى قامت سوريا بإعادته إلى كندا.
وقد أشار ديفيد تراجر، قاضي محكمة مقاطعة بروكلين، إلى الحاجة إلى الأمن القومي والسرية من أجل إصدار قراره، لكنه أيضا أثار احتمالية وجود تورط كندي في قرار إرسال عرعر إلى سوريا.
وكما في حالات جديدة أخرى أكدت الحكومة الأمريكية على ميزة "أسرار الدولة"، محتجة بأن الدعوى القضائية يجب أن تُرفضº لأن السماح لها بالاستمرار سيتضمن بالضرورة إفشاء معلومات حساسة تهدد الأمن القومي أو العلاقات الدبلوماسية إذا تم إعلانها.
وقال تراجر في قراره الصادر في 88 صفحة: "من الصعب التشكيك في أن هناك حاجة إلى المزيد من السرية، والإنسان ليس في حاجة إلى الكثير من التخيل كي يتوقع التأثير السلبي على علاقاتنا مع كندا إذا تواصل الكشف في هذه القضية، واتضح أن بعض المسئولين الكنديين الكبار وافقوا على إبعاد عرعر إلى سوريا، رغم الإنكار المعلن من الجانب الكندي.
وكان المسئولون الكنديون قد أنكروا دائما التورط في قرار إرسال عرعر إلى سوريا بعد احتجازه في الحبس الأمريكي لمدة 13 يوما، لكن عرعر قال إن القاضي دينيس أوكونر، والذي يقوم ببحث الدور الذي لعبه مسئولون كنديون في القضية، ينبغي أن يقدم تعليقا خاصا على تفسيرات القاضي.
وقد تعهد عرعر أيضا بأنه لن يتنازل عن سعيه من أجل تغيير "الشر" الذي مورس ضدهº حيث قال: "إذا لم تقم المحاكم بإيقاف هذا الفعل الشرير فمن سيقوم بإيقاف هذه الإدارة؟ أين نذهب؟ إلى الأمم المتحدة؟ إننا أنا والآخرون الذين تعرضوا لهذا مواطنون عاديون لم يقوموا بأي شيء خاطئ".
وقال: "لقد دمروا حياتي، ودمروا حياة أشخاص آخرين، لكن نظام القضاء لا يستمع إلينا. إن نظام القضاء هو ما يميز الغرب عن العالم الثالث. وعندما لا تتصرف محكمة بسبب "الأمن القومي" فلم يعد هناك أي اختلاف إذن بين الغرب والعالم الثالث". وأضاف محاموه إنهم سوف يستمرون في معركتهم.
وفي كندا يُتوقع أن يقوم القاضي أوكونر بإصدار تقرير مؤقت في الشهر القادم.
وقد كانت قضية عرعر الاختبار الأول في المحكمة لسياسة إدارة بوش الخاصة بـ"التسليم الاستثنائي"، وهي ممارسة غالبا ما يشار إليها بأنها استعانة بمصادر خارجية في التعذيب.
وقال منتقدو هذه الممارسات إن قرار المحكمة الأمريكية يعطي واشنطن ضوءا أخضر لمواصلة ممارستها لإرسال أشخاص مشتبه في علاقتهم بالإرهاب إلى دول أخرىº حيث يمكن أن يتعرضوا للتعذيب في هذه الدول.
وقضية عرعر هي مجرد واحدة من بين عدد من القضايا جيدة التوثيق والتي جرى فيها إرسال مشتبهين إلى دول ثالثة لها سجلات مريبة في حقوق الإنسان، حيث يمكن استخدام أساليب استجواب محظورة في الولايات المتحدة.
وقد اعترف القاضي تراجر في قراره بأن مخاوف عرعر من التعذيب في سوريا حقيقية، كما استشهد بتقرير وزارة الخارجية الأمريكية نفسها حول الإساءات لحقوق الإنسان هناك.
لكنه استدرك قائلا إن هذه القرارات تتجاوز نطاق محكمته، حيث كتب يقول: "إن القاضي الذي يعلن على مسئوليته أن سياسة التسليم الاستثنائي غير دستورية تحت كل الظروف يجب أن يعترف بأن هذا الحكم يمكن أن يكون له أخطر العواقب على علاقاتنا الخارجية أو الأمن القومي أو كليهما".
وغالبا ما تقوم الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تمارس التسليم القاسي بإخفاء ما يسميه منتقدون "ورقة التوت الخاصة بالتأكيدات الدبلوماسية". وهذا يعني أن الحكومات التي تقوم بالتسليم تطلب من الحكومات المستلمة أن تعدها بألا تقوم بتعذيب السجناء أو الإساءة إليهم.
لكن المنتقدين يقولون إن أدلة موثقة تُظهر أن هذه التأكيدات مجرد خدعة. وحسبما يؤكد الدكتور بيو جروسكب، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كاليفورنيا والخبير في شئون الإرهاب، فإن: "ما يفوق التأكيدات الدبلوماسية هو برامج القوات المسلحة والشرطة والمخابرات "المناهضة للمعارضة"، وهي البرامج التي أسستها القوتان العظميان في الحرب الباردة، ولا زالت تعمل في العديد من هذه الدول التي تقوم بتدريب أفراد الشرطة والجيش على التعذيب".
وقال: "إن التوجه الحقيقي الذي يدفع بجهود عمليات التسليم هو: ’أننا دفعنا أموالا من أجل تدريبهم على التعذيب فلماذا لا نحصل على مقابل لأموالنا؟ ‘"
وفي تصريح لآي بي إس قال رون دانيلز، المدير التنفيذي لمركز الحقوق الدستورية، وهو منظمة حقوقية قانونية في نيويورك تساعد في الدفاع عن ماهر عرعر:: إن التعذيب أمر منافٍ, للقانون في الولايات المتحدة، وينبغي على إدارة بوش ألا تحاول أن تتجنب قوانين هذا البلد من خلال إرسال أشخاص ليجري تعذيبهم في الخارجº حيث ستقوم الدول الأخرى بعملها القذر بعيدا عن أعين الشعب".
وأضاف دانيلز: "إن هذه ممارسة همجية لا مكان لها في القرن الحادي والعشرين".
من جانبه قال مسئول بوزارة العدل إن القرار قد أسعد الحكومة.
ولكن على الأقل تم إقامة دعوى قضائية أخرى تتعلق بعمليات التسليم في محاكم أمريكيةº حيث كان خالد المصري، وهو مواطن ألماني مولود في لبنان، قد استقل حافلة من ألمانيا إلى مقدونيا، حيث قام عملاء مقدونيون هناك بمصادرة جواز سفره واحتجازه لمدة 23 يوما، دون إعطائه إمكانية الاتصال بأي شخص حتى زوجته.
يقول المصري إنه قد تم وضعه بعد ذلك في قطعة من القماش، وتم وضع السلاسل حول معصميه وقدميه، ووضع غطاء لأذنيه وغطاء آخر ثم عصابة لعينيه إضافة إلى قلنسوة. ثم جرى وضعه في طائرةº حيث كانت رجلاه ويداه مفتوحتين مثل النسر بحيث وموضوعتين إلى الأرض. وتم تخديره فيما بعد ثم أُرسل إلى أفغانستان، حيث تم احتجازه في الحبس الانفرادي لمدة خمسة أشهر قبل أن يؤخذ ويُترك في منطقة ريفية نائية في ألبانيا. ويقول المصري إن طائرة مؤجرة لسي آي إيه هي التي قامت بنقله إلى أفغانستان، وأن عملاء سي آي إيه هم المسئولون عن نقله إلى أفغانستان.
من جانبها دافعت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس عن ممارسة عمليات النقل، قائلة إنها أداة حيوية في الحرب على الإرهاب. لكنها أيضا تصر على أن الولايات المتحدة لا "ترسل أي شخص إلى بلد كي يتم تعذيبه هناك".
كما قالت: "إن الولايات المتحدة لم تقم بنقل أي شخص، ولن تقوم بنقل أي شخص، إلى بلد نعتقد أنه سوف يتم تعذيبه فيه. وعندما تكون الظروف مناسبة فإننا نسعى إلى الحصول على تأكيدات بأن الأشخاص المنقولين لن يتعرضوا للتعذيب".
ومع هذا فإن رايس قد أقرت في رحلة إلى أوروبا، بعد وقت قصير من تقديم هذه التصريحات، أمام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن تسليم المصري كان "خطأ".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد