مسلمون وكفى !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قال لي: حضرت منشطاً إسلامياً رائعاً لم أعرف توجه القائمين عليه، فغاب بالي عن الاستفادة من فعالياته، واستغرقت عامة وقتي في محاولة التعرف على الانتماء الدعـوي لمنظِّمـيه، وبعد أن مضى غالب الوقت اهتديت إلى ما بحثت عنه، وكان توجههم غير توجهي، فاتجه الذهن بدلاً من الاحتفاء بالصائب المفيد إلى التدقيق في الكلمات وتحليل المواقف بحثاً عن شيء من العُوار !

 

وخرجت من اللقاء دون فائدة ترتجىº لأني قد صنعت في داخلي حواجز نفسية تحول بيني وبين الظفر بشيء من ذلك، ومما يزيد من الأسى أن اللقاء لو كان القائم عليه بعض العامة أو من لم يصلُب في طريق الدعوة عوده لفرحت به غاية الفرح مهما ضعفت فائدته ومهما اشتمل عليه من جوانب الخطل ما دام بعمومه خيِّراً!

 

فقلت له بعد ما استرجعت: على رِسلك! فإن ما ذكرته وللأسف هو واقع كثير من شباب دعوتنا الناضج حين يمر بالتجربة نفسها التي مررت بها! ولو أردنا أن نتعرف على أسباب ذلك لوجدناها تعود في الجملة إلى التسميات الدعوية الفاشية اليوم في أوساط جيل صحوتنا المبارك، والتي أدت إلى تجاوز هذه الأوساط للانتماء للأمة بعامة والولاء للإسلام والعمل لهº إلى الانتماء إلى طائفة من المسلمين، وإلى الولاء لجزء من الإسلام يتمحور حوله المنتمون لهذه التسمية أو تلك!

 

وقد أورث ذلك التمحور جوانب عدة، لعل من أبرزها:

الخروج عن دائرة التوازن الناجم عن تضخيم ذلك الجزء من الإسلام المتمحور حوله وإعطائه قدراً وحجماً فوق القدر والحجم الذي وضعه الشرع فيه في مقابل تهميش العمل لأجزاء الدين الأخرى.

 

قصر عامة التلقي داخل المنتمين لكل تسمية على علماء تلك الطائفة ودعاتها، مما حال دون مراعاة ضابط الأخذ عن الأكثر علماً وثقة وحكمة لصالح من هو أكثر مكانة داخل كل تيار وجماعة.

 

تهميش أعمال الآخرين والنظرة الدونية لجهودهم، والناجم عن التحزب للتسمية التي ينتمى إليها، والتركيز على أخطاء الآخرين وإغفال حسناتهم.

 

ومن تأمل في المرحلة التي ولدت فيها تلك الجماعات وتم التمحور فيها حول تلك التسميات يجدها مرحلة غير طبيعية سقطت فيها الخلافة الإسلامية واستولى الصليبي المحتل على عامة أرجاء الأمة ومقدراتها، وتصدَّر لقياد الأمة في كثير من مواقعها من طليعة المحتلين من بني جلدتنا وبعض من عميت بصيرته واستولت الشهوات على كل عضو منهº فلم يكن أمام من استفاق من هول الصدمة من علماء الإسلام ودعاته بُدُّ من الدعوة إلى الاجتماع على الخير الذي يُعتقَد أوليته ويُرَى مدخلاً رئيساً من مداخل التصحيح والمعالجة وحماية ثوابت الأمة وعقيدتها في أوساط الجيل المسلم في ذلك الوقت من التلاشي والاندثار. وقد حصل من جراء تلك الاجتهادات المحمودة خير كثير وتحققت مصالح جمّة ما كان لها أن تحدث - بعد توفيق الله - تعالى -وحفظه لدينه - من دون وجود تلك المبادرات التي نسأل الله - تعالى - أن يجزي روادهـا ومـن نـال شـرف رفـع لوائها مرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنات الخلد.

 

وعليهº فلم يكن الإشكال بادئ الأمر في وجود تلك التسميات ولا في قصور من تبناها ودعا إليهاº إذ كان ذلك فيما يبدو أفضل المتاح، بل كان في جمود من جاء بعدهم وعدم تطويرهم لواقع تلك الفصائل الدعوية بما يتجاوز جوانب الضعف والخطأ التي بدت تتجلى بصورة أظهر يوماً بعد آخر بما يتلاءم مع تبدل الظروف وتغير البيئات وتحقق العديد من المكتسبات.

 

وهذا الإشكال ظاهر يدركه العديد من أهل العلم والدعوة من داخل فصائل العمل الإسلامي وخارجه، لكن المبادرة إلى تجاوزه مربوطة بتجرد القائمين على شأن تلك التيارات وبشجاعة أهل العلم والفكر في تجلية تلك المشكلات وتبنِّي أطر وآليات عملية لتجاوزها وتلافي آثارها لتعود الأمة كلها وفي صدرها جيل الصحوة المعتز بدينه العامل بكتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الانضواء تحت لواء واحد وتسمية واحدة هي الإسلام، والإسلام وحده مهما اختلفت جوانب العمل له وتعددت مجالات تمكينه ما دامت نابعة من رؤية شرعية ومبنية على إدراك لتعقيدات الواقع والحدود الممكنة لاستثماره، كلُّ فيما يتاح له ويقدر عليه.

 

وما لم يتم تجاوز هذه المرحلة من عُمُر الدعوة الإسلامية المعاصرة ويتم الانتقال عقبها إلى مرحلة جديدة يحافظ فيها بصورة أعظم على نقاوة هذا الدين وسلامته من الشوائب في طرائق التلقي والاستدلال ومناحي العمل والدعوة، وتصان فيها المكتسبات والخير العميم الذي تحقق في هذه المرحلةº فإن مواكبة المستجدات واستثمار جوانب الخير المتحققة والبناء عليها وتجاوز مسائل الخلل ومواضع القصور التي حدثت في المرحلة الماضية سيبقى محدوداً.

 

وحين نتأمل في واقع عامة التسميات التي حدثت في أوساط الأمة عبر تاريخها الطويل كالخوارج والقدرية والمرجئة...ونحوها من التسميات التي ارتضاها أئمة الدين وعلـماء الأمة الربانيـون نجـدها حـدثت إما تعريفاً بضلالها أو تنفيراً للعامة من الاغترار بها، لكنها بكل حالٍ, لم تكن في أوساط أهل الحق سبب فرقة ولا بوابة تحزب حصل بسببه عقد إطار من الولاء والبراء عليها.

 

بل حتى مصطلحات مثل: (أهل السنة والجماعة) (أهل الحديث) (أهل الأثر) إنما استخدمت عندما عمت الأهواء وفشا خطر أهل البدع ليتميز أهل الحق عمن سواهم من أهل الضلالة، ولذا كان يضعف استخدامها أو يتلاشى، ويتم الاقتصار على الاسم الأصلي (الإسلام) عندما تضعف الحاجة إلى ذلك التميزº إضافة إلى أن ذلك الإطلاق المستحسن في بعض المواضع والأوقات لم يصاحبه أبداً تمحور حول جانب من الإسلام وتحزب حول جزء منه تَمَّ التعصب له داخل دائرة أهل الحق وعقد شيء من الموالاة والمعاداة عليه.

 

بل كانت تلك الأسماء مرادفة للإسلام الخالص النقي الذي كان علـيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - بشموله وصفائه، والذي لم يُشَب خلالها في تصور بعض أهل الإسلام بشيء من الزيغ والانحراف في بعض مسائل العلم والعمل والدعوة، لتبقى الأسماء الأخرى المفرقة خاصة بأهل الأهواء الذين تلبسوا بالشبهات وتمحوروا حول أصل من أصول البدعº تحذيراً للأمة من ضلالهم وتحريضاً لأربابها على ترك التمادي في الزيغ الذي وقعوا فيه.

 

فهل سنرى من أهل العلم والرَّشَد داخل فصائل العمل الإسلامي - وهم كثر بفضل الله - تعالى - بعد أن وقع المحذور وبدأ شره يستطيرº من يتبنَّى تجاوز تلك التسميات الموجودة، والتي أصبح استمرارها - على الأقل من وجهة نظر شخصية -في المستقبل المشرق للإسلام - بإذن الله - تعالى - معولَ هدمٍ, لا بناء، وعنصرَ فرقةٍ, لا ألفة.. ويدعو إلى الاكتفاء بالانضواء تحت الاسم العام لهذه الأمة والشعار الجامع لأبنائها (الإسلام)، مضمناً ذلك الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة والمضي على نهج سلف الأمة في العلم والعمل والدعوة حتى يزول في أوساط شباب الإسلام التمحور حول جزء من الدين والتعلق بتلك التسميات الحادثة وتصدير من لا يصح تصديره ممن لم يجمع علماً وحكمة وقوة ديانة، ويعود الجميع إخواناً متحابين إلى الفرح بكل خير، والوقوف مع كل معروف، والدوران مع الحق حيث دار، قال به من قال، وأتى به من أتى. وعندها يتمخض عمل الجميع لهذا الدين العظيم، وتقل دواعي الاختلاف والفرقة، ويحال دون هدر الطاقات وتكرار الجهود، فتتكامل الأعمال الخيرة وتتآزر المناشط المباركة في سبيل إذاعة هذا الدين والتمكين له.

 

حسن الظن بالله - تعالى - ثم بوجود كثير من أهل العلم والصـدق في أوسـاط جمـيع فصائل دعوتنا المباركة تريد ما عند الله - تعالى - والدار الآخرة وتقدم مصلحة الإسلام فوق أي اعتبارº تجعلني أعتقد اعتقاداً جازماً بأن حدوث ذلك الأمر قريب غاية القرب، مهما شق الأمر واشتد التواء الطريق، وليس ذلك على الله - جلَّ في علاه - بعزيز.

 

اللهم احفظ علينا ديننا، ووفق دعاتنا والمصلحين فينا، وهيِّئ لأمتنا من أمرها رشداً، يا ولي الصالحين، والعافي عن المقصرين، بمنٍّ, منك وإحسان يا أكرم الأكرمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply