ياسين والرنتيسي .. ماذا بعد الغضب ؟!!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

صورته هي الأولى والوحيدة حتى الآن التي رأت ابنتي الكبرى أنها الجديرة باللصق على الجدار الذي تذاكر دروسها بجواره، وعلاوة على صورته التي في عقلي بملامحه الهادئة الباسمة، ووقاره المريح، وهيبته الآسرة، وجدت صورا مختلفة له على الجدران في شوارع القاهرة، وفوجئت أنها أيضا على الجدران في مدينة الزقازيق، وهي عاصمة محافظة الشرقية إحدى محافظات الدلتا، وهي موطن والدي وجذوري من ناحيته، ووددت لو أن عندي من الوقت والإمكانية ما يسمح لي بالتجوال من الإسكندرية في الشمال حتى حلايب وشلاتين في أقصى الجنوب، ومن الشام في الشرق إلى موريتانيا في الغرب، بل من طنجة إلى جاكرتا، لألتقط في ذاكرتي، وربما بآلة تصوير، كيف تحولت صورة الشيخ واستشهاده إلى رمز يشبه الأيقونة، ما إن تراها حتى تتداعى في نفسك المعاني، وتتزاحم في رأسك الأفكار متدافعة، والأسئلة متلاحقة: ما العمل؟! وتود لو تجلس وسط عقلاء مثل "أبو عبيدة"، أو مع داهية مثل عمرو بن العاص لتتجاوز الأفكار القديمة، والأساليب المعتادة.

 

قصف الزهور:

وكانت قد وصلتني رسالة من صديق تحمل قصيدة لشاعري السياسي المفضل العراقي الأصل، اللندني الإقامة: أحمد مطر، والقصيدة بعنوان: "ثارات الزهور"، وهي مختصرة على عادة اللافتات التي يبدعها مطر، وتأمل معي في المقابلة بين الثأر ومعانيه وتداعياته وتجليات هذا اللفظ، وبين الزهور، وكأننا وأهلنا وشهداءنا زهور يقصفها الظلم والاستبداد والوحشية، ويريدون لنا أن نختفي من فوق الأرض، بل ومن تحتها فيتتبعون الجذور، والبذور بعد قطع الورود والأغصان والبراعم، إنه الثأر بالاستمرار والثبات وتخطيط الخطوة بعد الخطوة.

 

وتذكرت قصيدتين لمطر في الرثاء إحداهما في رثاء الفنان رسام الكاريكاتير -الفلسطيني أيضا- ناجي العلي، والذي اغتيل في لندن منتصف الثمانينيات، وقصيدة رثائه لشاعر آخر اغتيل أيضا، وفيها يقول: إن صدق الكلمة "يطعن" السيف بوردة.

وهكذا فعل الشيخ ياسين تماما: ترك للمجرمين جسدا واهيا مشلولا، نحيفا، مقعدا، كان مسكونا بروح واثبة، وهمة عالية، وحكمة راسخة، ترك لهم الجسد والمقعد اللذين كانا عبئا على صاحبهما حتى انفجرا، فانبثق هو متحررا منهما، متجاوزا إلى العلياء حيث مكانه إلى أكرم جوار.. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا. وعلى نفس الدرب، وعبر نفس المرتقى غادرنا الرنتيسي نحسبه كذلك.

 

الشهادة والشهيد:

ما تزال أمتنا قادرة على صناعة الموت النبيل الكريم في سبيل الله أكثر بكثير من قدرتها على صناعة "العيش" الشريف في سبيل الله، والأصل أنه ليست لدى المؤمن مشكلة مع الموت، اللهم اجعلنا كذلك، بل إن الموت بالنسبة له لا يمثل نهاية -كما عند البعض- ولكنه انتقال من طور إلى طور، ومن شكل إلى شكل آخر للحياة، وبخاصة الشهداء الذين هم بنص الآية "أحياء"، ومكانهم "عند ربهم"، ونفيا للالتباس والتأويل أو الظن بأنه مجاز أو مجرد تعبير معنوي يؤكد القرآن أنهم "يرزقون".

 

وهو المعنى الذي حاولت أن تلتقطه ملايين العبارات، ورسائل المحمول بأن الشيخ المقعد -في جسده- كان عالي الهمة، وأن أصحاء الأبدان يمكن أن يكونوا مقعدي الهمة!!

 

ويلح على ذهني أحمد مطر -مرة أخرى- في مقطع فريد:

 

في زمن الأحياء الموتى *** تنتشر الأجساد دفاتر

 

والأكباد محابر  ***والشعر يسد الأرجاء

 

فلا شعراء سوى الشهداء

 

واستحسنت أن أقرأها أحيانا: "فلا أحياء سوى الشهداء"، فالشهيد يغادرنا حيا، ونبقى نحن الموتى إلا بالجهاد، وبالركض المتسابق، والطموح المتواصل إلى الشهادة/الحياة.

 

وتغمرني فيوض اللغة القرآنية التي تفاجئك مثلا في قوله - تعالى -: "وكذلك جعلناكم أمة [وسطا] لتكونوا [شهداء] على الناس، ويكون الرسول عليكم [شهيدا]"، فالوسطية مرتبطة بالشهادة، والشهادة على الناس هي هدف ومهمة الأمة الوسط، والمؤمن ينبغي أن يُشهد حيا، وقد يستشهد فيظل حيا بعد موته.

 

والمؤمن الحي حقا هو الشهيد في الدنيا والموت.

 

وللشهادة إذن وجهان وأعجب لمن يقتصر في فهمه على وجه واحد فيمنع عن نفسه كرامة الآخر!

 

وتظل الشهادة بألفاظها ومعانيها وتجلياتها في نفس المؤمن مصدر إشعاع وإلهام، وأنس بالله، ويبقى الموت شهادة أفضل تتويج واستمرار للحياة شهودا وشهادة.

 

ووجدت مؤخرا قصيدة من شعر التفعيلة أقتطع منها:

 

لا.. لا تقولوا استشهدوا..

 

قولوا: قُتلوا

 

حتى يشتعل الأفق من الغضب

 

ويعصف بالقتلة

 

لا تقولوا استشهدوا..

 

قولوا: قتلوا

 

قتلوا فاستشهدوا

 

هم شهداء على حدث وما يحدث

 

شهداء على أمم خالية لفقها التاريخ

 

وستبقى (أرواحهم في حوصلات طير خضر تعلق من أوراق الجنة)

 

صدق رسول الله

 

أما نحن فنحيا أياما مشهودة!!!

 

الساموراي الأخير :

هكذا السينما حين تكون متقنة، شاهدت هذا الفيلم في طائرة حين عودتي من لندن مؤخرا وهو معروض في صالات القاهرة وغيرها، ثم عدت وشاهدته بالأمس في إحداها ودون أن أتناقض مع مقتضيات دعوة صريحة لمشاهدته أقول إنه فيلم ذاخر بالمعاني ومثير للتفكير والتساؤلات.. وسأكتفي هنا مبدئيا بوضع رابطين لوجهتي نظر متعارضتين حول الفيلم.

 

التخلف والتقدم والساموراي الأخير...!

هدية "الساموراي" كروز.. للمناضلة راتشيل

 

ودون أن أتطرق إلى كل ما يجول بخاطري حول هذا الفيلم ألتقط خيطا واحد من خيوطه الكثيرة المتشابكة: كيف يواجه الشرفاء التهديد بالإبادة؟ كيف يتعاملون مع الاختلال في موازين القوى؟ كيف ينظرون إلى الحياة تحت الحصار والتهديد؟! وإلى الموت مقبلين غير مدبرين؟!

 

قد أقول أيضا: إن الأمور ليست دائما إما / أو فهناك السياسة والتفاوض والحلول المؤقتة والمواءمات والهدنة وتقاطع المصالح وبناء التحالفات... إلخ.

 

ليست الحياة كلها إما خنوع أو استشهاد فهناك النصر وهو درجات، فحقن الدماء الذكية نصر، والتقاط الأنفاس لتحسين الاستعداد خطوة على طريق النصر وكسب المزيد من المؤيدين والأنصار.. نصر.

 

النصر ليس نقطة واحدة تتحقق أو تغيب. النصر مسيرة طويلة، عملية مركبة تتضمن الصمود ولكنها لا تقتصر عليه وتحتاج إلى الشجاعة، ولكنها لا تتم بها فقط وتتطلب التضحية، ولكنها تشترط الاستثمار الأمثل لها، وتشمل التخطيط والإدارة إلى جانب الحماس والجسارة.

 

ولكنك أحيانا قد لا تجد مكانا لكل هذا وسط الموت المطبق عليك من كل الاتجاهات، ويكون السؤال الوحيد المطروح: هل تريد أن تموت شهيدا أم جبانا؟

 

ولأنه ليس لدى المؤمن مشكلة مع الموت، ولأن كرامته أهم من حياة الموت أفضل منهاº تصبح الشهادة هي الاختيار الذهبي وسط اختيارات غائبة، عبر عنها قول الشاعر:

 

إن لم يكن من الموت بد *** فمن العار أن تموت جبانا

 

الناس.. والغضب

صديقي الاشتراكي يقول لي على الهاتف: أشعر بأنه ينبغي نسف أي شيء إسرائيلي ردا على هذه الخسة والوحشية... وأتساءل: ترى ماذا قالوا في الاجتماع الطارئ الذي حضره مع أنصار فلسطين والانتفاضة؟ أصبحت غالبا أحتاط بالغياب عن التجمعات بدلا من خيبة الأمل.

 

النفوس مشتعلة والوجع متراكم.. كوابيس بعضها فوق بعض.. شارون لا يبحر بعرشه إلا فوق محيط من الدماء وركام من الأشلاء ولا يهمه أبدا أن تتدفق دماء شعبه أو تتناثر أشلاء مواطنيه. هو يخدعهم بأنه يحميهم ويخدمهم بينما يقدمهم لقمة سائغة لموت مباغت يختفي بين ثنايا اللحظات والدقائق، وهو آمن سالم وسط التحصينات.. أية خديعة؟! وأية ديمقراطية؟!

 

وناسنا يختنقون حزنا ولوعة وحنقا من قادتهم الذين يتركونهم وحدهم وسط لجة الأحزان وفي عرض بحار الدم وأطلال الدمار -بلا سلاح أو أمل- ليتهارشوا ويتراشقوا بالتهم والخلافات والشكليات كما اعتادواº لأنه بالنسبة لهم لم يتغير شيء طالما العرش باق!.

 

 والغضب شيطان غادر.. وحش ضخم يقضم صاحبه ليطحن عظامه ويدمر أعصابه ويسلمه بقايا عاجزة إلا عن الصراخ، وأحيانا يصيبه الملل والشلل فلا يصرخ، وأتذكر قولة الرسول لمن سأله النصيحة فأوجز: "لا تغضب".

 

يا ألله.. ماذا يفعل الإنسان في ظروف مثل التي نحن فيها؟ فجور الأعداء، ومحنة الأحباب الأبطال في فلسطين، والسكتة السياسية الرسمية التي كانت بالأمس تتبارى في المزايدة واستعراض العضلات اللفظية دون كثير فعل فأصبحت اليوم تبحث عن مكان أو زمان لمجرد الاجتماع!!

 

ماذا نفعل بأنفسنا التي تختلط فيها المعاني وتتكاثر عليها الضغوط؟!

 

ماذا نقول لأبنائنا ونسائنا ونظراتهم تلاحقنا وتحرجنا وهي تتساءل أين الرجولة والرجال؟!

 

ماذا لدينا أكثر من الغضب؟! ماذا نستطيع جميعا غير الغضب؟! والرسول يقول وصوته يعبر الزمان ليرن في الأسماع: "لا تغضب" سمعنا وأطعنا.

 

الغضب.. ماذا غيره؟

 

الكل يتحدث عن الإصلاح.. فجأة اكتشفنا أننا نحتاج إليه!!!

 

صحيح أنه كان مطلبا حتميا منذ عقود إن لم يكن منذ قرون، ولكن البعض في حينه رأى غير ذلك أو تخارس أو تكاسل، ثم ضغطت أمريكا فانفتح الموضوع على مصراعيه لمن يريد أن يسهم "بالكلام"!!.

 

 هل سأصدم أحدا إذا قلت إن الأنظمة القائمة لن تستطيع إنجاز شيء ملموس وحدها لو أرادت!!

 

فهياكلها غير معدة للاستفادة من إسهام يأتي من خارجها إلا إذا ضمته ضمن أطرها وهياكلها، وعندها سيصبح هذا الإسهام جزءا من النظام المطلوب تغييره أصلا!!

 

هناك أجندة ثقيلة جدا مطلوب تنفيذها، والأنظمة تأخرت كثيرا جدا في القيام بدورها في حينهº وبالتالي هناك آلاف القضايا تحتاج إلى معالجات جسورة وفورية من أطراف بعضها غير موجود أصلا!!

 

هناك فجوة هائلة بين حجم التغيير المطلوب وضعف الهياكل القائمة بالفعل والتي تحتاج هي بدورها إلى تطوير لتساهم في عملية الإصلاح إذا كنا نتحدث بجدية هذه المرة.

 

التغيير يحتاج إلى أدوار وتوزيع أدوار على أطراف بعضها لم ينشأ وبعضها ديكور وبعضها بدائي محدود في خياله السياسي أو أدائه الفعلي، وبالتالي فإن النوايا المخلصة والمشاعر الفياضة والحزن والغضب وحتى التضرع إلى الله - سبحانه - أن يصلح أحوالنا لا يكفي لإنجاز المطلوبº لأننا لم ننجز بل تأخرنا كثيرا جدا في تغيير ما بأنفسنا.

 

- مطلوب تغيير فوري يبدأ الآن لترسانة من الأفكار السالبة والأساليب التقليدية في المعالجة والتفكير والحركة، وتغيير فوري للقضاء على المفاهيم والأوضاع المختلة والممارسات المتخلفة والهياكل العاجزة.

 

- مطلوب أدوار حقيقية لأطراف تم تجميدها أو عزلها عن المشاركة بهدف "الاستقرار" و"الهدوء" وحفظ الأمن ثم اكتشفنا أن المطلوب كان استقرار العرش وهدوء القصر وأمن الأنظمة!!

 

- ولم يعد هذا يجدي ولن ينطلق إصلاح إلا من بدايات حقيقية وشعبية لأن المزيد من الديكور الكاذب لن يفيد.

 

- نحتاج إلى إصلاح سياسي جذري يستوعب القوى الراغبة في دخول معترك التنافس السلمي على السلطة ويحدد قواعد اللعبة على أساس عادل ويتيح الفرصة أمام بقية مكونات المعادلة الديمقراطية من حرية تعبير ونشر إلى حرية تشكيل الجمعيات والنوادي والأحزاب.

 

- نحتاج إلى إصلاح جسور لدوائر لدينا تسمي نفسها المجتمع المدني وهي مجرد نخب مغلقة على تشكيلات أيديولوجية أو عائلية دون جماهير تعطي للمصطلح وجودا ومصداقية.

 

- نحتاج إلى إصلاح أهلي من أسفل يخرج فيه المواطن العادي من حالة الذهول والاعتمادية والتواكلية إلى القيام بنشاط جماعي مع آخرين لمواجهة مشكلات حياتهم اليومية على الأقل لأننا أصبحنا نعيش الفردية في أسوأ صورها ولا أمل في إصلاح يقوم على ذرات متناثرة ولو كانت غاضبة!!

 

- أوضاعنا القائمة كلها تحتاج إلى إعادة هيكلة وتغييرات عميقة جدا في الأشكال والمضامين لأن الإصلاح لن يتحقق فقط بإحلال زيد مكان عبيد على العرش ولن يتحقق بمجرد الكلام عنه، ولن يتحقق بالعمل على مستوى من مستوياته وإهمال بقية المستويات.

 

لقد تناولنا هذه الأفكار كثيرا في مقالنا الجهاد المدني وغيره فهل نستطيع إنجاز شيء من ذلك حتى تحل الذكرى الأولى لاستشهاد الشيخ ياسين؟

 

هنيئا لك الشهادة يا رنتيسي طلبتها فأحرزتها..

 

هنيئا لك الشهادة يا شيخنا نغبطك عليها ونغبطك أكثر أن رزقك الله عدوا أحمق أراد تصفيتك وتغييبك فإذا به يضمن لك بخيبته الثقيلة أرقى وجود، وأعلى خلود بإذن الله، والله أعلم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply