الرسوم المسيئة .. غضب عاقل أم رضوخ للواقع ؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم

عادت أزمة الرسوم الدانمركية المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لتطل برأسها من جديد، بعد أكثر من عامين على ظهورها إلى العلن للمرة الأولى في سبتمبر 2006، مما أثار في حينه احتجاجات رسمية وموجة غضب شعبية واسعة، ومع أن الأزمة هذه المرة أخذت شكل التحدي الاستفزازي من خلال قيام 17 صحيفة دانمركية دفعة واحدة بإعادة نشر تلك الرسوم، إلا أنَّ ردَّ الفعل الإسلامي جاء هادئًا بصورة لافتة للنظر، وهو ما اعتبره البعض خطوة ذكية لحرمان من أشعلوا الأزمة من "صبّ مزيد من الزيت على النار"، لكن آخرين ذهبوا إلى أن المسلمين على ما يبدو- استسلموا للأمر الواقع على اعتبار أن "غضبتهم الأولى" لم تسفر عن مردود يذكر.

وقبل الخوض في أسانيد من دعوا إلى التعقل أو مُبَرِّرات من اعتبروا ذلك "استسلامًا"، يبدو لافتًا أن من دعوا إلى التصعيد وإعلان الغضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى هم من تبنّوا هذه المرة الدعوة للتعقل والهدوء، وهو ما يثير التساؤلات عن الأمر الذي استجدّ ودفعهم لتغيير موقفهم، بخاصة وأن الأزمة الحالية تبدو أكثر استفزازًا، كما أنها تأتي في سياق سلسلة من الإساءات والتصرفات التي طالت مقدسات الإسلام ورموزه في العديد من الدول الأوروبية.

 

دروس وخبرات

الحديث عما استجدّ في الأمر، يحتاج بداية إلى استعراض النتائج والدروس التي تمخضت عنها أزمة الرسوم الأولى عام 2006، فردود الفعل العنيفة التي عمّت العالم الإسلامي وتزعمها مسلمو الدانمرك، أجبرت الحكومة الدانمركية على مراجعة موقفها المستخِفّ بما حدث، وإن كان الأمر لم يصل إلى حدّ اعتذار الحكومة أو الصحيفة التي نشرت الرسوم صراحة كما طالب المسلمون. كما أدّت تلك الأزمة لوضع الإسلام في "بؤرة الاهتمام" بالدول الاسكندينافية، وأثارت فضول الكثيرين للتعرف على ذلك النبي الذي غضب الملايين من أتباعه عبر العالم احتجاجًا على المسّ به، وهو ما انتهى بالمئات منهم لدخول الدين الحنيف.

أما على صعيد المسلمين في الغرب، فإن أزمة الرسوم المسيئة حفزت لديهم الحاجة لتفعيل دورهم وتنظيم صفوفهم سعيًا إلى امتلاك القدرة على منع تكرار تلك الإساءة، كما وضعت تلك الأزمة مسلمي الغرب أمام عدة إشكالات تتعلق بالهوية وحدود الاندماج والتفاعل مع مجتمعاتهم الجديدة، وأشكال الاحتجاج الأمثل، وهل يتمّ ذلك على أساس خصوصية التصور الإسلامي أم كطرح إنساني عامّ، إضافة إلى السياق الأفضل للتحرك، وهل يتمّ ضمن السياق الإسلامي العامّ أم تبعًا لخصوصية كل دولة وقوانينها.

وعلى صعيد العالم الإسلامي، فإن قضية الرسوم رسخت القناعة لدى المسلمين بأن الغرب لا يفهم سوى لغة المصالح، وأن الورقة الاقتصادية وسلاح المقاطعة هي أنجح الوسائل للضغط على الغرب ودفعه لاتخاذ مواقف معتدلة تجاه المسلمين، كما خلّفت تلك الأزمة إحساسًا راسخًا لدى النخبة المسلمة بأن الحوار مع الغرب يحتاج للغة وأسلوب مختلف عما كان يجري سابقًا، فضلاً عن تنبيه المسلمين لإهمالهم غير المقبول أو المبرر في التعريف بالإسلام ونبيِّه الكريم ودحض الصور النمطية المشوّهة عن الإسلام والمسلمين التي غرسها المستشرقون والإعلام المتحيِّز في العقل الغربي.

وإضافة لما سبق، فإن الخبرة المكتسبة من أزمة الرسوم جعلت النخب المسلمة أكثر وعيًا بالخلفيات التي على أساسها تقوم بعض التيارات اليمينية المتطرفة بتبني سلوكيات عنصرية ومسيئة للإسلام والمسلمين، وهو ما جعلها بالتالي أكثر حذرًا في تحركها المضادّ لمنع هذه التيارات من تحقيق أي مكاسب من وراء افتعال تلك الأزمات. وهذا الوعي استتبع بالضرورة إفساح المجال أمام الأقليات المسلمة في الغرب كي تدير دفّة الأمور وفقًا للمعطيات المتوفرة لديها باعتبارها الأكثر التصاقًا ببيئة الأزمة.

 

غضب عاقل

وإذا ما طبقنا هذه الخبرات المستفادة على الأزمة الحالية، نجد أن معظم ردود الفعل قد التزمت بالإطار العامّ لهذه الخبرات، حيث تعامل مسلمو الدانمرك مع إعادة نشر الرسوم على أنها خطوة "غبيّة" ومرفوضة، لكنهم دعوا إلى "قتل الأزمة صمتًا" وتجاهلها. وفيما أدان قادة الأقلية المسلمة "مخطط" قتل رسام الكاريكاتير المسيء- بافتراض صحته- إلا أنهم أيضًا رفضوا قرار الحكومة بإبعاد اثنين من المشتبه بهم استنادًا على "أدلة سرية" وطالبوا بمنحهم محاكمة علانية وعادلة لاستجلاء صحة تلك الاتهامات من عدمه.

أما فيما يتعلق بالمؤسسات والفعاليات الإسلامية، فقد كان هناك اتفاق على التنديد بإعادة النشر باعتباره "مثالاً للإفلاس الحضاري والانحطاط الأخلاقي" كما جاء في بيان منظمة النصرة العالمية، أو "عمل لا بدّ من احتقاره" حسب تأكيد شيخ الأزهر في مصر، فيما وصف العلامة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الأمر بأنه "إساءة بالغة لهذه الأمة واستهانة بها واستفزازًا لمشاعرها"، بينما لم يستغرب فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة المشرف العام على مؤسسة (الإسلام اليوم) إعادة نشر الرسومº "لأن العداء للإسلام ولنبي الإسلام موجود منذ زمن بعيد"، فيما حذّرت رابطة العالم الإسلامي من أن هذا العمل "يثير الكراهية والبغضاء بين البشر".

وهذه الردود القاطعة في إدانتها للرسوم المسيئة لم تمنع أصحابها من الدعوة إلى التعقٌّل وتجنب "ردود الأفعال غير المدروسة والتي قد تسيء أكثر مما تفيد" حسب شيخ الأزهر، والتشديد على "ضرورة الالتزام بهدي النبي- صلى الله عليه وسلم - حتى في الانتصار له" وفقًا للعودة، و"ضبط النفس وممارسة الحوار العاقل المفيد.. وعدم الانجرار إلى المهاترات والمعارك الكلامية" حسب رابطة العالم الإسلامي، فيما اعتبر القرضاوي أن من أشعلوا الأزمة "يستفزوننا لنغضب ونقيم المظاهرات.. ولكننا في هذه المرة نقول للأمة الإسلامية اهدئي وقابلي هذا الأمر بعقلانية وحكمة".

هذا "الغضب المتعقل" اتخذ عدة أشكال، تصدرها الدعوة لتفعيل مقاطعة المنتجات والبضائع الدانمركية، كما نظم مسلمو الدانمرك عدة مسيرات للتنديد بإعادة نشر الرسوم، وخرجت كذلك مظاهرات احتجاج مماثلة في باكستان وقطاع غزة، وألغت إيران زيارة كانت مقررة لوفد برلماني دانمركي إلى طهران، وبدوره ألغى الاتحاد المصري لكرة القدم زيارة لمنتخب الشباب إلى الدانمرك، وقامت إحدى دور النشر المصرية- من جانبها- بسحب كتاب عن "انطولوجيا الشعر الدنمركي" من الأسواق، وفضلاً عن ذلك ندّد نواب مصريون وكويتيون بتلك الرسوم وطالبوا حكوماتهم باتخاذ إجراءات فعالة حيال الأزمة.

 

هدوء أم رضوخ؟

في المقابل، فإن هذا "الغضب المتعقل" قُوبل بتحفظ من جانب البعضº حيث اعتبروه نوعًا من "اعتياد الإساءة" أو "الرضوخ للأمر الواقع"، وتساءل هؤلاء عن الجهات التي ستتولى تنظيم هذا الغضب وضمان استمرار فعاليته على المدى الطويل، بخاصة وأن ردود الفعل الحادّة التي حدثت إثر تفجّر الأزمة للمرة الأولى عام 2006 لم تخلُ من توظيف سياسي من جانب الحكومات العربية، والتي سعت لتفريغ شحنات الغضب المتراكمة لدى شعوبها عبر تلك القناة، لكن هذه المرّة ومع انتفاء الحاجة لمثل هذا التوظيف جاءت ردود الفعل الشعبية ضعيفة وباهتة أكثر من كونها منضبطة وعاقلة، فيما غابت المواقف الرسمية العربية بشكل شبه كامل.

وفيما يرفض أنصار هذا الرأي عمليات الإحراق والعنف التي شابت احتجاجات عام 2006، فإنهم يشدّدون على ضرورة التحرك بقوة وبشكل منظم وسط الجماهير لتوعيتها بخطورة الأزمة، وكذلك التحرك على مستوى النٌّخب لوضع الأمر على رأس أولوياتها، كي تبقى القضية حاضرة دومًا في الوعي العام للمسلمين. أما فيما يتعلق بمسلمي الغرب، فإن الأمر يتطلب درجة أكبر من التحرٌّك المنسق وصولاً إلى تشكيل "جماعات ضغط" تدافع عن مصالحهم، على غرار جماعات الضغط الموالية لإسرائيل في أوروبا والولايات المتحدة، وهذه الجماعات تتحرك بشكل علني في البيئة السياسية والمجتمعية، رابطةً مصالح القوى التي تدافع عنها بمصالح الدولة نفسها، فلغة المصالح هي الحاكمة في هذا المجال وليس الاعتبارات الإيديولوجية أو العقائدية.

وبغضّ النظر عن آراء أنصار "الغضب العاقل" أو المتحفظين على ذلك، فإن إعادة نشر الرسوم المسيئة مرة أخرى، وبذلك الشكل الجماعي المستفزّ تدقّ ناقوس الخطر تجاه الصعود المتتالي لقوى اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، ومن بينها الدانمرك، وهذه القوى تتبنى مواقف صارمة تجاه المهاجرين الأجانب والجاليات غير الأوروبية، وتخيرها بين الاندماج الكامل في المجتمعات الأوروبية، قيميًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، أو العودة إلى بلدانهم الأصلية، ولذا لم تكن صدفة أن معظم الدول التي أعادت صحفها نشر الرسوم في المرة الأولى هي ذاتها التي تشهد صعودًا قويًا لقوى اليمين، مثل النرويج والنمسا وإيطاليا واستراليا وفرنسا وهولندا.

وهذا الصعود اليميني لا سبيل لمواجهته إلا بتوحد مسلمي الغرب في كيانات فعّالة تتولى الدفاع عن مواقفهم ومصالحهم والتفاوض باسمهم أمام تلك القوى اليمينية، كما أن الأمر يتطلب مساندة من الدول العربية والإسلامية، حيث إن قوى اليمين معروفة تاريخيًّا بارتباطها الوثيق بجماعات المال والأعمال، وبالتالي فإن التلويح بورقة الاقتصاد والمصالح يبدو فعّالاً ومؤثرًا.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply