الإساءة الغربية للمقدسات الإسلامية متعددة ومتنوعة، وتكون تكاد نمطًا ومنهجًا غربيًا في التعامل مع العالم الإسلامي، على عكس ردود الأفعال العربية والإسلامية التي هي في غالبها ارتجالية وعشوائية تحكمها ظروف قطرية محدودة وتداخلات سياسية قاصرة.
فالسودان بعد عدة أيام من حكم مخفف على مدرسة بريطانية بالحبس 15 يومًا لإساءتها للنبي الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإطلاق اللفظ الكريم على دمية دب، تطلق سراحها استجابة لمسلمين من مجلس اللوردات البريطاني.
ومن قبل يراسل الزعيم الإسلامي السويدي محمد الديب الصحف العربية يطالبها بسحب التهديدات للرسام الذي أجرم في حق النبي برسمه في صورة مهينة، وقال: إن القضية يجب أن تظل أمرًا سويديًا فحسب".
وما بين هذه الأطروحات التي تراعي فقط الحساسيات السياسية، دون اعتبار للجانب العقدي في القضية، تثور الشعوب العربية حمية لدينها ومقدساتها ولكن تظل صرخاتها قليلة التأثير، إذ تفتقد الأمة لإستراتيجية متكاملة يمكن من خلالها مواجهة هذه الإساءة الغربية بفاعلية، وهو ما يغري الغرب المفتون بالاستمرار في تلك الإساءة ويجر من ورائه بعض اللاهثين وراء الشهرة والاسم اللامع متخذين من مقدسات المسلمين تكأة للوصول إلى مآربهم، وتدخل في زمرة هؤلاء تلك المواقع الالكترونية التي تأبى إلا أن تصبغ وجهها بسواد الإساءة إلى مبعوث الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتغمس قلمها في مداد الحقد الدفين على المسلمين ومقدساتهم، ومنها مؤخرًا موقع الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا" الذي وضع على صفحاته رسمًا للنبي الكريم وبعض صحابته.
إستراتيجية لمواجهة الإساءة للمقدسات الإسلامية
الأمة إذن في حاجة إلى إستراتيجية مكتملة الأركان يمكن أن تواجه بها الإساءة لمقدستها، وتنطلق إستراتيجية المواجهة برأينا من محورين أساسيين، أولهما تقييم المواجهة الحالية، والثاني وضع المعالم الأولية للإستراتيجية المقترحة على قاعدة من المنطلقات الأساسية المعينة على فهم القضية في إطارها الصحيح.
أولاً: تقييم المواجهة الحالية
لاشك أن المواجهة الحالية للإساءة إلى المقدسات الإسلامية قد نجحت في جانب تفعيل الحراك الشعبي، واستثماره في الضغط على بعض المؤسسات الرسمية وتفعيلها، وإرسال رسالة قوية للغرب عن طريق المقاطعة الاقتصادية بإمكان إحداث رد فع قوي على تلك الممارسات من شأنه أن يضر الغرب في اقتصادياته.
ولكن اشتملت المواجهة على مجموعة من السلبيات لعل أبرزها:
1ـ خروج بعض التيارات والأفراد عن الحدود الشرعية لتحقيق أجندة خاصة من خلال بعض أعمال العنف التي لا تفيد القضية المحورية من قريب أو بعيد، بل يستثمرها الخصم بصورة مضادة.
2ـ لم تدر الأزمة بشكل متناغم ومنظم ينسق الجهود ويوحد الأهداف، فكانت اقرب إلى الصورة العشوائية الارتجالية.
3ـ انفضاض وانتهاء فاعليات المواجهة بعد برهة زمنية دون أن تتمكن من ردع الغرب عن القيام مجددًا بهذه الإساءة، وانصرف المجموع عن الاهتمام بالموضوع، حتى تلك المواقع الالكترونية التي انطلقت متحمسة للقضية أصابها الفتور والوهن.
ب ـ المواجهة المقترحة
قبل عرض المعالم الأولية للمواجهة المقترحة كان لزامًا أن نحدد المنطلقات التي من رحمها خرجت تلك الإستراتيجية.
أولاً: منطلقات إستراتيجية المقاومة
1ـ التقيد بضوابط الشرع الإسلامي
ونقصد به ضرورة التقيد بضوابط الشرع في رد الاعتداء، حيث لا يجوز مقابلة الإساءة بما لا يجيزه الشرع الحنيف، لما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"، فكل عمل وقع بخلاف أمر الله - تعالى -وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو رد على صاحبه.
ومن ذلك أيضًا أن تكون النية متجهة للذب عن المقدسات والمعتقدات دون شوائب أخرى قد تنزع القدسية عن هذا العمل.
خلاصة القول في هذا الضابط إنه لن يقبل من الأعمال إلا ما كان موافقًا للشرع، خالصًا لوجه الله - تعالى -.
2ـ إدراك البعد العقدي الباعث للإساءة
نقصد بذلك اليقين بأن هدف الغرب من وراء الإساءات المتكررة للمقدسات الإسلامية دينية عقدية وليست فقط سياسية.
وقد جاءت شواهد القران لتدل على ذلك ومنها قول الله تعالي: "إِن يَثقَفُوكُم يَكُونُوا لَكُم أَعدَاءً وَيَبسُطُوا إِلَيكُم أَيدِيَهُم وَأَلسِنَتَهُم بِالسٌّوءِ وَوَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ" (الممتحنة: 2).
فالهدف الغربي هو صرف المسلمين عن دينهم ومصدر قوتهم ومنع الإسلام من التمدد والتمكن من الغرب عمومًا ومن القارة الأوروبية على وجه الخصوص والتي يريدونها مسيحية خالصة، حتى طالب المرشح الرئاسي الجمهوري الأمريكي توم تانكيريدو دول القارة بالعمل على ترحيل العشرين مليون مسلم الذين يعيشون داخل أراضيها لتحافظ أوروبا على هويتها المسيحية دون نزاع وتقلل من الأخطار المحدقة على أمن الولايات المتحدة.
لذلك فإن إستراتيجية المقاومة يجب أن تركز برأينا على الجانب العقدي أيضا في المواجهة، ويكون هو ركيزتها ومنطلقها للتعامل مع الأزمة.
3ـ الإساءة الحالية امتداد لمنهج سابق
يجب أن يكون راسخًا في الأذهان أن منهج الغرب في تعمد الإساءة والرغبة في القضاء على الإسلام هو امتداد لنهج جاهلي سابق، فمنذ بزوغ الرسالة المحمدية بدأت الإساءة التي سجلها القرآن في عدة مواضع منها قول الحق- تبارك وتعالى -: "وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنهُم وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ"(ص: 4).
وقوله: "إِنَّهُم كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُم لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَستَكبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ, مَجنُونٍ," (الصافات: 35و36). وقوله: "بَل قَالُوا أَضغَاثُ أَحلامٍ, بَلِ افتَرَاهُ بَل هُوَ شَاعِرٌ فَليَأتِنَا بِآَيَةٍ, كَمَا أُرسِلَ الأَوَّلُونَ" (الأنبياء: 5)
فهذه الإساءة استمرار للجاهلية القديمة في تصديها للدعوة الإسلامية، ومحاولة وئدها ومنع انتشارها.
وقد فند القرآن تلك المزاعم بصورة قريبة من البيئة التي انطلقت منها، ودحض آراء المشككين بأقوى حجة وبيان، وهو برأينا يعطى تصورًا ضروريًا عن نوعية الخطاب الذي نواجه به الأزمة وكونه خطابًا يناسب البيئة الغربية التي تنطلق منها هذه الإساءات المتتالية.
4ـ استمرار المحاولة الغربية للوصل إلى الغاية
كما سبق وأوضحنا فالغرب ينطلق من قناعات عقدية في محاولته الإساءة للمقدسات والعقائد الإسلامية، ورغم قناعتنا بأهمية المواجهة الشاملة لهذه التجاوزات إلا إننا على يقين كذلك بأن الغرب سيستمر في محاولة النيل من هذا الدين والتصدي له بشتى السبل والوسائل، وتأكيدًا لهذا النهج يقول الحق -- تبارك وتعالى --: "وَلَن تَرضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم" (البقرة: 120)
فلن يتحقق الرضا الغربي إلا بانسلاخ المؤمنين عن دينهم وانصرافهم عنه بالكلية حتى يتبعون ملتهم وعقيدتهم، وبالتالي فإن إستراتيجية المواجهة لابد أن تتميز هي الأخرى بالاستمرارية والشمول لمواجهة العدوان الغربي المستمر.
نخلص مما سبق إلى أن الإستراتيجية الضرورية للمواجهة يجب أن تتحلى بسمات أساسية منها:
1ـ التقيد بضوابط الشرع الحنيف.
2ـ الارتكاز على قاعدة عقدية نقية.
3ـ الاستمرارية والشمول.
4ـ التناغم والتكامل بين كافة الأطراف النشطة في مجال المواجهة.
ثانيا: الإستراتيجية المقترحة
تتمثل إستراتيجية المواجهة المقترحة في ثلاثة محاور رئيسة هي:
1ـ مواجهة علاجية
ونقصد بها المعالجة التي نواجه به الإساءة المتكررة، كرد فعل أولي، وتتمثل في جانبين اثنين:
الأول: تفعيل البعد الشعبي المتحمس المستنكر لهذه الإساءات، مع الدعوة مباشرة لتفعيل سلاح المقاطعة الاقتصادية ضد الجهات المسيئة.
الثاني: النقض العقلاني القريب من العقلية الغربية لهذه الإساءات، وتفنيد مزاعم حرية التعبير التي يتدثر بها البعض ويتخذها مطية للتجاوز والإساءة في حق المقدسات.
2ـ مواجهة وقائية
ونقصد بها الوسائل الممكنة التي يمكن اللجوء إليها لتقليل حجم الإساءة واحتواء وتقليل فاعليتها عندما تقع، ومنها:
أـ التعريف بالإسلام ومقدساته، وخاصة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، من خلال عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات وورش العمل، والفضائيات التي توجه للغرب مباشرة تعريفًا بالإسلام ومواجهة لما يدور حوله في العقل الغربي، مع العناية بترجمة وإصدار الكتب التي تخاطب العقلية الغربية وتزيل ما علق بها من أوهام عن هذا الدين وشرائعه.
ب ـ وقد يساهم في تلك الإستراتيجية التنسيق المستمر بين المنظمات العاملة في مجال نصرة الرسول صلى الله عليه، بحيث تتكامل أدوارها وتتناغم فيما بينها بدلاً من التضارب والتناقض في مجالات محددة وترك مجالات أخرى شاغرة.
ج ـ تقوية الجاليات المسلمة في الغرب وتوحيد صفها، بحيث يمكنها القيام بأدوار أكثر فاعلية في صد هذه الهجمة لكونهم أكثر قربًا وفهمًا العقلية الغربية ومنطلقاتها وأجدر من يتعامل معها ويواجه سيل الإساءات.
3ـ مواجهة بعيدة المدى
ونقصد بها التحرك على مستوى زمني بعيد نسبيًا وذلك على محورين:
الأول: تفعيل المستوى الدولي لسن قوانين وتشريعات تمنع الإساءة إلى الأديان جميعها، وذلك بالضغط المستمر على المؤسسات الرسمية الداخلية لتبني هذا المشروع دوليًا.
الثاني: محاولة الخروج من مرحلة الدفاع العاطفي إلى الهجوم الفكري المنظم على القيم الغربية وتفنيدها مقارنة بالقيم الإسلامية لإعلاء شأن هذه القيم وبيان تخلف القيم الغربية عنها.
وستبقى تلك الإستراتيجية وغيرها من الأطروحات قليلة التأثير في حقلها ما لم تكن هناك هيئات فاعلة تجند نفسها في خدمة هذه القضية، وتتلمس ما يناسب من كل طرح لزمانه، ثم نقوم بعد ذلك على مراعاته حتى يؤتي أكله وتستوي ثمرته.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد