أيها الإخوة الأحباب، أتيت مع إخوان لي من الدنمرك نمثل بين أيديكم الغالبية العظمى من مسلمي الدنمركº حتى نرفع لكم شكايتنا عما حصل في تلك الديار...
أيها الإخوة الأحباب، لا بد لي أن أجعل كلامي على محورين اثنين...
المحور الأول: هو الكلام عن الفاجعة أو الكارثة التي وقعت في ديارنا في بلاد الدنمرك.
والمحور الثاني: هو الكلام عن كيفية تعاطي المسلمين مع هذه الأزمة.
لابد أن نعي بداية أن صحيفة (يولاند بوسطن) لها ميول واضحة، فكل من يتابع الإعلام الدنمركي يعرفها تماماً، هي يمينية متطرفة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إن عندها من عدم المحبة إن لم أقل عداء بيّناً للجالية عموماً، والمسلمين منهم تحديداً. ولم ترتدع يوماً عن التطاول على الإسلام والمسلمين، ولكن طبعاً- لم يبلغ الأمر حدّ نشر الرسوم المسيئة، إنما كان على صورة النقد للمسلمين باستغلال بعض الثغرات عندهم، وبعض المواقف التي تظهر ضعفهم التي كانت تبرزها دون أن تبرز غيرها، ولقد كُلّلت هذه الأعمال بتلك الفاجعة الأخيرة، عندما انبرت، ظناً منها وإيهاماً للمجتمع الدنمركي، على أنها راعية الحقوق، وأنها حريصة على حرية الرأي والتعبير، وأنها حامية لحمى الديموقراطية في تلك الديار، وبالتالي أنها التي تقف أمام زحف إسلامي مخيف في ديار الغرب عموماً، وفي الدنمرك تحديداً.
الذي هيّج الجريدة أن كاتباً كتب كتاباً عن الإسلام، للأسف لقد نزل إلى الأسواق منذ مدة قريبة، وعنوان الكتاب (القرآن وحياة محمد)، وهذا الكتاب فيه من الأكاذيب والشبهات وإثارة كل ما يمكن استغلاله ليقدح في مقام النبوة، ما لا يعلم به إلا الله. هذا الكاتب أراد أن يسوّق لكتابه برسم يوضع على غلاف الكتاب يعكس مضامين الكتاب، أي رسومات ساخرة تعبر في أول صفحة عما في داخل الكتاب، لقد أبى أكثر الفنانين بل امتنعوا، فلما علمت الجريدة بذلك حكمت أن هذه مبادرة خطيرة، أيمكن أن نخاف نحن في ديارنا من المسلمين؟ أيمكن أن نراعي مشاعر المسلمين عوضاً عن أن يراعوا هم مشاعرنا وقيمنا ومبادئنا وغير ذلك؟ فأرسلت هي بدورها إلى ثلة من الفنانين ومن الرسامين تطالبهم، بل تحثهم وتوهمهم أن المعركة لا بد منها، وأنها المعركة الفاصلة التي لو انهزم هؤلاء أمامها فإن بناء الديموقراطية حقيقة سيشكل عليه هذا الضغطُ الإسلامي خطراً كبيراً، فحثتهم على هذا الفعل، فاستجاب اثنا عشر وامتنع بقية الأربعين، وجاءت الرسومات قاصمة لظهر كل عاقل فضلاً عن كل مسلم.
لقد جاءتنا الفاجعة صبيحة يوم الجمعة، ولعل اختيار يوم الجمعة له دلالته ـ لنفس اليوم ـº ولأن الجريدة ستكون بين يدي الذين عندهم الإجازة الأسبوعية يتمتعون بالنظر إلى تلك الرسومات الساخرة طيلة ثلاثة أيام، وكان ذلك في يوم 30 من شهر 9 من العام الميلادي 2005م، فما كان من المسلمين إلا أن تنادوا لعقد لقاء هادئ هادف بعيد عن الانفعالات، وإنما أردنا أن نتشاور فيما بيننا، وأن نتذاكر كيف يمكن أن نواجه مثل هذه القضية، ولا أفشي سراً إن قلت لكم: إن هناك رأياً كان مطروحاً في هذه الجلسة، وهو أنه علينا أن نتجاهل تلك الرسومات، ولكن الرأي الأغلب كان: لا بد أن نتصدى لها، والذي رجّح الرأي الآخر أننا وجدنا من الصحيفة إصراراً على عملها، ولعلمكم فإن أول ردّ نزل لنا على الرسومات كان بعد أسبوع، وطيلة هذا الأسبوع كانت في كل يوم تتحفنا الصحيفة بتكرار صورة أو مقال يؤكد هذا المعنى.
الصور كانت مسيئة، والإشكال فيها كبير ولكن الإشكال فيما قاله المحرر مرافقاً لهذه الصور كان أكبر، عندما أراد منا أن نتهيأ نفسياً لهذا الأمر، وأن نرضى ونرضخ لأي إهانة مهما عظمت، ومهما كان حجمهاº لأن هذا من متطلبات الحياة الديموقراطية، وهنا تكمن الخطورةº لأن الرسومات لم تكن رصاصة طائشة، ولم تكن عملاً حقيقة- غير هادف، إنما كانت عملاً مدروساً، وقد افتضح هؤلاء أرباب تلك الصحيفة عندما قال خبير في الديانات في الدانمرك: " لقد استُشِرت في هذه الرسومات، فقلت لهم: حذار حذار من نشرهاº لأنها ستحدث انتفاضة". ولكن إصرارهم على نشرها إلى جانب سكوتنا أسبوعاً كاملاً، طبعاً سكوتنا إعلامياً، ولكن كنا في داخلنا وفي مجتمعاتنا ومنتدياتنا في حالة تشاور حول ما هو العمل الأنسب، وكيف سنواجه القضية. وأنا لا بد أن أذكر هذا الكلام، ليس دفاعاً عن أنفسنا، وليس تزكية لها، إنما بياناً للحقيقةº لأننا سمعنا كثيراً من التوجيهات والنصائح الكريمة، وشيئاً من نقد، كنت أتألم منه أنا وإخواني في الدنمرك. هذا النقد كان يقول: إن المسلمين في الدنمرك هم الذين يتحملون مسؤولية الإساءة، وهم الذين يتحملون أسبابها، وهذه الكلمة فيها من الإجحاف بحق مسلمي الدنمرك ما لا يعلم به إلا الله.
ليكن معلوماً لديكم جميعاً، إن كان لا بد من تحميل المسلمين لهذه المسؤولية فليكن التحمّل من المسلمين عامة، في العالم كلهº لأننا اليوم نعيش في عالم كأنه قرية واحدة. هؤلاء نظرتهم إلى الإسلام، ليست من أجل الشيخ رائد، إنما نظرة على كل عمل، ولو كان في أقاصي الدنيا، ومحاولة نقده بهذه الطريقة أو بغيرها. فأقول لكم: لا تعفوا أنفسكم من المسؤولية، بل بيننا شراكة كاملة، كلنا نتحمل المسؤولية إذا كان لا بد من تحملها، ولكن حتى لا نُظلم أيضاًº لأننا قصّرنا في التعريف برسول الله، وقصّرنا بالدعوة إلى الله، ولو أننا قمنا بواجبنا لما عُمل بهذا العمل، ولا أدري!! أكلّ تهكّم بدين الله سببه المسلمون؟ وبالتالي، أيعقل أن نحمّل المسلمين المسؤولية في الدنيا والآخرة بأن نطالب أن يُقام الحد عليهم اليوم، أو نطالب بأن يعاقبهم الله يوم القيامةº لأنهم متسبّبون بهذه الإساءة؟ أقول، كفانا جلداً لذواتنا، لا ينبغي أن نجلد أنفسنا إلى هذا المستوى وإلى هذا الحد. نعم، أنا مع النقد الذاتي، ولو لم أكن معه لما نقدت إخواناً لي في الله، أحبهم، وأحترمهم، ولكن المصلحة العليا أهم عندي من أن أنتقدهم أو غير ذلك.
إذاً، رأينا أيها الإخوة بعد إصرار الصحيفة أنه لا بد من القيام بعمل، ولكن تخيّلوا ما العمل الذي أدّيناه. كان عملاً حقيقة كما يُقال في الغرب تحت مظلة الديمقراطية! لم نقارف عملاً واحداً -والقضية اليوم عمرها خمسة أشهر- لم نقارف عملاً واحداً يمكن أن يُسجل على المسلمين أنهم أخطؤوا بحق رسالتهم ودينهم وحضارتهم في المجتمعات الغربية.
لعلمكم، المسيرات التي خرجت في العالم الإسلامي هي التي وقع فيها التخريب، أما عندنا، حتى المسيرات لم تخرجº لأننا كنا نخشى لو أننا أطلقنا دعوة للخروج إلى المسيرات، ونحن نعلم أن النفوس ملتهبة، أنه يُخشى أن يحدث شيء، ولذلك من حنكتنا وحكمتنا رفضنا أن تكون هناك مسيرات في الدنمرك.
ما الذي عملناه؟ جمعنا توقيعات بلغت حوالي عشرين ألف توقيع، من أجل أن نوصل رسالة للصحيفة وأرباب السياسة أن هذا عمل لا يمكن أن نرضى عنه. استشرنا محامين من أجل أن نرفع قضية في القضاء الدنمركي لنحلّ تلك القضية. كتبنا رسالة احتجاج مؤدبة في قمة الأدب إلى تلك الصحيفة وقلنا لهم: "إن كنتم في علمانيتكم لا تقيمون للرموز قداسة، فإن نبينا ما زال له في قلوبنا، وسيبقى -بإذن الله- قيمة رمزية عظيمة وقدسية كبيرة، لا بد لكم، إن أردتم أن نحترم قيمكم، وإذا أردتم أن نحترم مجتمعكم فلا بد أن تحترمونا، لا بد أن يكون احتراماً متبادلاً، وأما احترام من طرف واحد فهذا يُعدّ ظلماً ومهانة". ثم أكثر من ذلك، كتبنا رسالة دبلوماسية إلى وزير الثقافة، ولم يصلنا الجواب إلا من أيام قليلة بعد أن التهب الشرق الأوسط بحالة الاحتجاج. إذاً كل هذا الكلام يدل على أننا لم نشأ أن نجعل من الدنمرك ساحة حرب، وهذا للأسف من باب التضليل الإعلامي في الدنمرك، صوّر للمجتمع الدنمركي أن اعتراض المسلمين ليس إلا نوعاً من أنواع إعلان الحرب على حرية الرأي والتعبير، وقلنا لهم مراراً: نحن أولى، وأول من نادى بحرية الرأي والتعبير. هل هناك أعظم من أن يكون في ديننا إذن للبشرية أن يكون منهم مؤمن ومنهم كافر؟ أي حرية أعظم من ذلك! أي حرية أعظم من قول الله عزوجل: لا إكراه في الدين! ولكن للأسف أيها الإخوة، هناك أمر أرجو من الجميع أن يتنبه له تماماً، وهو أن صورتنا تُشوّه دائماً في الدنمرك، وولله ليس بتقصير منا، ولا نعفي أنفسنا من المسؤولية، ولكن أنا وغيري من الدعاة الذين هم معي الآن جزاهم الله خيراً! يتكلم أحدنا ساعة، لا يأخذ الإعلام منه إلا كلمة، وتُوظّف في غير محلها، وتُبتَر وتوضع في غير سياقها ليتوهم القارئ والسامع أن هؤلاء حقيقة- أسود ضارية، لا بد أن تخافوا منهم.
لقد عشنا في الدنمرك بسلام، ولا زلنا مسالمين، ولمّا قمنا من أجل أن نوقف هذه المهزلة كان سبب ذلك أننا نخشى أن يحدث في الدنمرك ما حدث في هولندا. لا نريد أن نفتح المجال أما عواطف غوغائية غير منضبطة لتنتقم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أردنا منهم أن يخاطبونا بالعقل لنخاطبهم بالعقل، أن نحلّ القضية بالعقل، وأنا أطمئنكم أيضاًº لأننا في مرحلة لم نتعرض فيها للحكومة الدنمركية بكلمة واحدة، لا نريد أن نظهر أمامها أننا أناس نريد أن نشاغب على الحكومة. كل كلامنا كان منصباً على الجريدة وما زال حتى اليوم، ولم نطلب من الحكومة موقفاً منصفاً لنا إلا عندما أخطأت الحكومة بأعمال أظهرت من خلالها أنا داعمة أو متغاضية عن عمل الصحيفة، ولعل بعضكم اليوم شاهد نشرة الأخبار التي يظهر فيها أن الرئيس الدنمركي أصر أن يقحم أنفه في هذه المعضلةº ليعترض اعتراضاً كبيراً، ويدين بشدة عمل شركة (آرلا) التي قالت لنا نحن المؤتمرين هنا: أرجوكم أنا أحترمكم، أنا أدين عمل الصحيفة، لا تأخذوني بجريمتها!
مجرد هذه الكلمة العاقلة التي كنا نتمنى من المجتمع الدنمركي برمته أن ينبري ليقولها، وإن كان لا بد لنا أن ننصف لنقول: نعم، هناك أصوات جميلة في الدنمرك. خبراء في الدستور قالوا كلمتهم الطيبة، خبراء في السياسة قالوا كلمتهم الطيبة. عشرون دبلوماسياً كبيراً اعترضوا. ستين ألف توقيع من أناس جامعيين ومدرسين وطلاب قدموها للدولة قائلين: إنك لا بد أن تكفي عن هذه المهزلة.
إذاً نحن كنا وما زلنا وسنبقى نقول: مشكلتنا مع الصحيفة، وديننا علّمنا ألاّ نأخذ الصالح بجريرة الطالح، وألاّ تزر وازرة وزر أخرى، وإن كان لا بد من كلمة أعلم أن الكثير يسأل عنها، وهي قضية المقاطعة. فأنتم أعلم منا. إننا مسلمو الدنمرك لم نطالب بالمقاطعة ولن نحث عليها، ولم نطالب الناس بها، ولكنها وقعت ردة فعل من الشعوب الإسلامية، وإن دلّت على شيء فإنما تدل على أن قلوبهم قد غلت بسبب الإهانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان لا بد اليوم من موقف فإن إخوانكم من اللجنة التي أتت من الدنمرك تلتمس منكم أن تقدّروا الظرف الحالي الذي تعيشه هذه المرحلة في الدنمرك مسلمون وغيرهم، وإننا لا بد أن نثمن عالياً موقف ليس فقط شركة(آرلا)، إنما أي جهة من الدنمرك تتبرأ من عمل الصحيفة، فلا بد أن نرسل لها رسالة إيجابية لنبين لهم عدلنا نحن كمسلمين، وأننا لا يمكن أن نظلم أحداً، لكن أخيراً أقول لكم أيها الإخوة الأحباب: إن كان لكم شرف نصرة النبي والتمتع بهذه النصرة، فنحن لنا شرف التعرض لهذه الأذية لنصرة النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
أنا واحد من كثر قد أتتهم التهديداتº لأننا انتصرنا لرسول الله سواء كان هذا الخطر واقعياً أو غير واقعي، الله أعلم به، ولكن الخطر لا يهمنا أن يأتي من مصادر مجهولة. الذي يزعجنا أن يتلفظ مسؤولون في الحكومة الدنمركية، عندما يهدأ العالم الإسلامي، لا بد أن نصفي حساباتنا مع الأئمة والدعاة، وكأنهم اقترفوا جريمةº لأنهم انتصروا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
نقولها بصراحة: حياكم الله على جهودكم، بارك الله بكم على هذه الاستضافة الكريمة، ونسأل الله ألاّ يخرج هذا الجمع إلا بما يرضي الله، أولاً، وما يقّر عين رسول الله صلى عليه وسلم ثانياً، وما يعيد العزة لأمتنا ثالثاً، وما يكون رسالة حضارية إنسانية طيبة هادئة هادفة نسلمها للغرب، وهي إذا كنتم -كما تقولون- حريصين على السلام، فنحن ديننا الإسلام أحرص من كل العالم على هذا السلام، ولكن لا سلام مع الاعتداءات والإهانة، فنقول للمجتمع الدنمركي: سامحونيº لأنني لا بد أن أوجه الخطاب، ولعلم بعضكم هنا، أكثر من جهة إعلامية دنمركية أتت لتسمع كلامي وكلامكم، ونحن ليس عندنا شيء في الخفاء، ما نقوله في خطبة الجمعة أو للصحافة أو حتى في لقاءاتنا الخاصة كلام واحد. لقد ساءتنا الرسومات! لا يمكن أن نرضى عنها! لا بد من الاعتذار والتراجع، والاعتذار عندهم صعبº لأنهم يعلنون أنهم إن اعتذروا، فمجرد الاعتذار إقرار بعدم التكرار، وهذا ما لا يريدونه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الأمة تنظر إليكم لتخرجوا بقرارات متوازنة تكفل أولاً -وهذا همنا نحن مسلمي الدنمرك- تكفل لنا حماية ديننا ورموزنا ومقدساتنا، ولكن لا يعني ذلك ألاّ تكون منسجمة مع الواقع أو واعية لما يجري.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد