إنا كفيناك المستهزئين (1 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

تظاهرات:

قال كليلةُ: واعلم يا دِمنةُ أنَّ من قلةِ عقلِ المرءِ وسوءِ تدبيرِهِ أن يُطاولَ ما لا يقدرُ على مطاولتِهِ، وأن يُغالبَ ما لا يقدرُ على مغالبتِهِ، فيكون مثلُهُ في ذلك كمثلِ النملة الحمقاء!

قال دمنةُ: وما مثلُ النملةِ الحمقاءِ؟

قال كليلةُ: زعموا أنَّ نملةً ساءَها أن تكونَ صغيرةَ الحجمِ، ضئيلةَ الجرمِ، تُفزعها وبني جنسها أقدامُ الدوابّ، وتشرّدها وأخواتِها خطواتُ فيلٍ, كان بالجوارِ، فآلت على نفسها ألا تدع حيلةً ولا وسيلةً تصنعُ بها الهيبةَ لأمةِ النِّمالِ إلا فعلتها..

ففكرت وقدرت، وقدّمت وأخرت، فهداها مريضُ تفكيرِها إلى أنّ العلةَ في اجتراء المخلوقاتِ عليهنّ أنهنّ يتفرقن ويتبعثرن إذا ما خطت فوقهن أقدام الفيل الثقيل! وظنت وبعض الظن إثم أنّها لو اجتمعت مع بنات جنسها فوقفن في وجه الفيل ثم شتمنه بأعلى أصواتهنّ، وصمدنَ إزاءه، لتضعضع الفيل وتزعزع، وكف قدمه وتكعكع..ثم سلك سبيلاً غير سبيله، وترك لأمة النمالِ حريّتها الكاملةَ في التعبيرِ والتصرف!!

فمازالت تلك الحمقاءُ حتى تألفت حولها طائفةً من النمالِ ذهبن مذهبها، وسلمن لها القيادَ، فلما قدمَ الفيلُ اصطفتِ النمال كما تصطف الجيوشُ، فما تركن قالةَ سوءٍ,، ولا عبارةَ شتمٍ,، ولا بيتَ هجاءٍ, إلا صرخنَ به ملء حناجرهنّ.. فما هو إلا أن أهوى عليهنّ الفيلُ بقدمِهِ فمحقهنّ من الحياةِ.. فلم يسمع شتمهنّ غيرُهنّ.. ولا درى بهجائهنّ سواهنّ.. ومضى الفيلُ لطريقِهِ لم يشعر بما كان!!

هذا مثلٌ استحضرتُهُ وأنا أتابعُ كما تتابعون تداعياتِ الفعلةِ الآثمةِ للصحيفة الدانماركية التي تولّت كبر الإساءةِ إلى نبينا وحبيبنا محمد..

قلتُ: هو مثلٌ.. والمثلُ لا يعني المشابهةَ من كل وجهٍ,، وإنما الشاهدُ فيه هلاكُ المرءِ حين يتعرّضُ لما لا قبل له بِهِ.

لقد قرأتُ كما قرأتُم أنّ صحيفةً فرنسيةً أعادت نشر الرسومِ الدانماركيّة زاعمةً أنّه يحق لها رسم صور كاريكاتورية لمحمّدٍ, ويسوع المسيحِ وبوذا ويهودا، وأنّ ذلك يندرج تحت بند حرية التعبير في بلد علمانيّ، وقالت الصحيفة الفرنسيةُ: إنها "لن تعتذر عن إعادة نشرها هذه الرسوم لأننا أحرار في التحدث والتفكير والاعتقاد، وبما أن هؤلاء (تقصد المسلمين) يقدمون أنفسهم على أنهم أساتذة في الإيمان ويجعلون القضية مسألة مبدأ فإنّ علينا أن نكون حازمين".

ولقد عرفتُ كما عرفتم كذلك أنَّ صحيفة ألمانيةً باءت أيضاً بإثم نشرها زاعمةً أنّه لا حصانةَ لأحدٍ, عن التهكم في الغرب، وأنّ صحيفةً سويسرية ناطقةً بالألمانية نشرت رسمين منها، وأن صحيفتين إسبانيتين قامتا كذلك بتكرار النشرِ، بالإضافة إلى صحيفةٍ, مجرية، وثلاث صحف هولندية، وتلفاز ال"بي بي سي"!

ولقد اطلعت كما لعلكم اطلعتم على أن صحيفة إيطالية ساقطةً بذيئةً صورتِ النبيّ وهو يأمر مجموعة انتحاريين بالتوقف عن التفجير لأن الجنّة نفد ما بها من مخزون الحور العين!!

ولا أدري إن كنتم قد عرفتم أنّ صحيفةً أردنية نشرت بعض هذه الرسومِ مشفوعةً بفلسفةٍ, سمجةٍ, باردةٍ, لرئيس تحريرها يقول فيها: "يا مسلمي العالم تعقلوا!! أيهما يسيء للإسلام أكثر من الآخر؟ أجنبي يجتهد في رسم الرسول أم مسلم يتأبط حزاماً ناسفاً ينتحر في حفل عرس في عمان أو أي مكان آخر"!!! وكأننا إذ نشجبُ هذه الرسومات نرحّبُ بتلك التفجيرات!!!

حقيقةً بقدر ما شعرتُ بالغيظ والغضبِ... شعرتُ بغيرِ قليلٍ, من الشفقةِ على هؤلاءِ!!

إنّهم مساكينُ لا يدرونَ من يحاربونَ ولا من يُطاولونَ!!

إنّهم مساكينُ لا يدرونَ بمن يهزؤونَ ولا بمن يسخرون!!

إنّهم مساكينُ لا يدرون أنّ إساءَتهم لا ترتدٌّ إلا عليهم..

وأنّ ألفَ كنّاسٍ, لو اجتمعوا في موضعٍ, يثيرون الغبارَ بمكانسهم ليحجبوا ضياء الشمسِ لما سقطَ الغبار في النهاية إلا على رؤوسهم.

وأنهم كالنملةِ الحمقاءِ تظنّ أن صراخَها يوقفُ أقدام الفيل..

هم كمن يشتم الشمسَ والماءَ والهواءَ.. ليس لشتمه من معنى سوى خرفِهِ المطبق، وهذيانِهِ المحدق!

أو كمن يلعنُ الضياءَ والعافيةَ والربيعَ.. ليس للعنِهِ معنيً سوى أنّه خرجَ عن حدّ العقلِ إلى حدّ الجنونِ.

وسيبقى النهرُ عذباً وإن شتمه ألفُ لسانٍ, بأنّه ملحٌ أجاجٌ..

وستبقى الشمسُ مشرقةً وإن زعمَ ألفُ دجالٍ, أنها قطعةٌ من سوادٍ, حالكٍ,.

وسيظلُ المطرُ يبعثُ الحياةَ وإن ادّعى ألفُ دعيٍّ, أنّه سمُّ يتسلل إلى عروقِ النباتاتِ.

إنّ البحر الزاخرَ لا يضرٌّهُ أن يلقيَ فيه الغلمان بحصياتِهِم..

وقد قال الأعشى فيما مضى لما تجرأ بعض الأراذلِ على هجاءِ قبيلته:

ألست منتهياً عن نحتِ أثلتِنا

ولست ضائرَها ما أطَّتِ الإبلُ

كناطحٍ, صخرةً يوماً ليوهنَها

فلم يضرها وأوهى قرنَهُ الوَعِلُ

نعم..

ها هم هؤلاء الساخرونَ الشانئونَ ينطحون صخرةَ النبيّ {بكل ما أوتوا من قرونٍ, إعلاميّةٍ,.. ولكن النهاية التي نعرفُها سلفاً.. هي نهايةُ الأعشى: (فلم يضرها وأوهى قرنه الوعلُ). لم يكونوا أول الشانئينَ.. ولسنا أوّل الذابين.. لهم سلفٌ في كفارِ قريشٍ, ومن جاء بعدهم.. ولنا سلفٌ في حسانَ - رضي الله عنه - وأرضاهُ يوم انتفضَ في وجهِ هجاءِ أبي سفيانَ فقال أبياتَه الروائع:

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوّف نخبٌ هواءُ

هجوت محمداً فأجبتُ عنه

وعند الله في ذاك الجزاءُ

أتهجوهُ ولست له بكفءٍ,

فشرّكما لخيركما الفداءُ

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواءُ

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم فداءُ

قلت: إنّ تلك القرون الإعلامية النطّاحةَ لا تضرّ إلا نفسها يقيناً.. وحربها تلك ليست مع بشرٍ,.. بل مع ربّ البشر - سبحانه وتعالى -.

ذلك أنّ النبيَّ محميُّ بحمايةِ اللهِ، معصومٌ بعصمتِهِ، مكفولٌ برعايتِهِ، مردود عنه أذى من آذاه، وسخريةُ من سخر به، واستهزاء من استهزأ به، وها أنا ذا أضعُ بين أيديكم هذه الوثائق الربانية: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين (95) "(الحجر). "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين 67 "(المائدة). "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم 137 " (البقرة). " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد 36 " (الزمر). "إن شانئك هو الأبتر"  (3) (الكوثر). "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا 57 " (الأحزاب). " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم 61" (التوبة).

هذه هي الوثائق الربانية التي تشهدُ بأنّ الله حافظٌ رسوله، ناصرٌ له، منتقمٌ له ممن ظلمه، آخذ له بحقه ممن سخر منه، كافٍ, إياه ممن استهزأ به.

قال ابن تيمية - رحمه الله -: ومن سنة الله أن من لم يتمكن المؤمنون أن يعذبوه من الذين يؤذون الله ورسوله فإن الله - سبحانه - ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه... وكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره، ويمحق عينه وأثره (الصارم المسلول: 144).

وقال - رحمه الله -: وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون من تعجيل الانتقام من الكفار إذا تعرّضوا لسب رسول الله، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة، وهذا باب واسعٌ لا يُحاطُ بِهِ. (نفسه)

وقال السعديٌّ: ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة.

فتعالوا أيها الأحبةُ نستشهد التاريخَ كيف كفى الله رسوله المستهزئين به ، وكيف آذى من آذاهُ. تعالوا نعش في ظلالِ الآيةِ الكريمةِ إنا كفيناك المستهزئين 95..

وأول ما أذكرُهُ في هذا الاستقراء التاريخيّ ما ذكره أهل التفسيرِ في سبب نزولِ هذه الآية.. أعني قوله - تعالى -: إنا كفيناك المستهزئين 95..

فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: المستهزئون هم الوليد بن المغيرة، والأسودُ بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن غَيطَل السّهميّ، والعاص بن وائل، فأتاه جبريل - عليه السلام - فشكاهم إليه رسول الله ، فأراه الوليد بن المغيرة، فأومأ جبريل إلى أكَحلِهِ وهو عرقٌ في اليدِ، فقال: ما صنعت شيئاً!، فقال جبريلُ: كَفَيتُكَهُ، ثم أراه الحارث بن غيطل السهميّ، فأومأ إلى بطنه، فقال: ما صنعت شيئاً! قال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل السهمي، فأومأ إلى أخمَصِهِ أي: باطن رجله فقال: ما صنعت شيئاً! فقال: كفيتُكه.

فأما الوليد بن المغيرة فمرَّ برجلٍ, من خزاعة وهو يريش نبلاً له فأصاب أكحَله فقطعها!

وأما الأسود بن المطلب فعمي، وذلك أنه نزل تحت شجرة فقال: يا بنيّ ألا تدفعون؟ إني قد قتلت! فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً، فجعل يقول: يا بنيّ ألا تدفعون عني؟ هلكت بالشوك في عيني! فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.

وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها.

وأما الحارث بن غيطل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج روثُهُ من فيه فمات منه.

وأما العاص بن وائل فبينما هو يمشي إذ دخلت في رجله شِبرِقة نبتةٌ ذات شوك حتى امتلأت منها فمات.. (دلائل النبوة للأصبهاني 1-63، وانظر: الدر المنثور 5-101).

فهؤلاء خمسةُ نفرٍ, من أعيانِ قومهم استهزؤوا برسول الله فكفاه الله إيّاهم بقدرتِهِ وعزّتِهِ - سبحانه -.

وقد أخرج البزار والطبراني في الأوسط عن أنسٍ, قال: مرَّ النبيٌّ على أناس بمكة فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبيّ؟! ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثلُ الظفر في أجسادهم، فصارت قروحاً نتنةً فلم يستطع أحد أن يدنوا منهم (الدر المنثور 5-100).

وفي الصحيحين خبرٌ آخرُ عجيبٌ عن رجلٍ, من بني النجار كان نصرانياً فأسلمَ، وكان يكتبُ الوحي للنبي ، ثم إنّه نكص على عقبيه فتنصّرَ، ولحق بأهل الكتابِ، فكان يهزأ بالنبيّ ، ويدّعي أنه أدخل في الوحي ما ليس منه، ويقولُ: والله ما يدري محمدٌ إلا ما كتبتُ له!!

فَمَا لَبِثَ أَن قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِم، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرضُ!! فَقَالُوا: هَذَا فِعلُ مُحَمَّدٍ, وَأَصحَابِهِ، نَبَشُوا عَن صَاحِبِنَا فَأَلقَوهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعمَقُوا، فَأَصبَحَ وَقَد لَفَظَتهُ الأَرضُ فَقَالُوا: هَذَا فِعلُ مُحَمَّدٍ, وَأَصحَابِهِ نَبَشُوا عَن صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنهُم فَأَلقَوهُ، فَحَفَرُوا لَهُ الثالثةَ وَأَعمَقُوا لَهُ فِي الأَرضِ مَا استَطَاعُوا فَأَصبَحَ وَقَد لَفَظَتهُ الأَرضُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيسَ مِن النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ مَنبُوذاً. (البخاري 3617)، و(مسلمٌ 2781). فسبحان الذي كفى نبيّه من استهزأ به وسخر به!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply