بل هو خيرٌ لكم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لم تكن الهجمة الشرسة التي تعرضت لها شخصية النبي - عليه الصلاة والسلام - في إحدى الصحف الدنمركية أمراً سيئاً حينما نضعه في ميزان الحقائق التي تفتقت عنها تلكم الحادثة الاستثنائية الغريبة والتي مازلنا نتألم منها ومن تداعياتها...

لم نعد وحدنا المتعصبين!

لم تتعرض ديانة ما في العالم للإدانة كما تعرض الدين الإسلامي منذ حقبة السلام العالمي.. ولم يكن هناك أفضل من المسلم ليكون المتهم الأول في أي حادث سيئ...

وتكفي القرائن التي تثبت عروبة أو إسلام شخص ما ليستحق التفتيش والاتهام والصراخ في وجهه بأنه إرهابي ومجرم (كما فعلت جودي فوستر بالراكب الباكستاني في فيلم(flight plan). المسلم دائماً يرفض الآخر ويتهمه بالكفر حتى إشعار آخر... وفي جوانب وحينما يكون نفطياً.. فإنه متغطرس غني متأنق من جهة ومتخلف من حيث هبطت عليه الثروة فجأة، ولم يكن أمامه وقت كافٍ, ليتخلص من أوساخه الداخلية التي سببها له ارتباطه بالعروبة والإسلام..

حينما تحدث دعاة التسامح و"اللاتعصب" من الغربيين عن أنه حان الوقت لينتهي الحديث عن المسلم وفقاً للصورة المنمّطة بعد حقبة الحادي عشر من سبتمبر استبشرنا نحن المسلمين بموجة التثقيف الغربية التي يتزعمها دعاة التسامح لمحاولة فهم العقل المسلم أخيراً..

وأن حقبة التعصّب الديني ستنتهي إلى غير رجعة بإذن الله، وأن زمناً قادماً من التسامح والتفاهم بين الأديان سيتكفل بأن تنتهي نسبة كبيرة من الحروب، وأن نعيش رخاءً دينياً نسبياً في زمن قادم...

كل هذه الأحلام الجميلة تبخّرت في اللحظة التي اختارت فيها الدنمرك أن تكون (صليبية) بمنتهى القسوة.

وأنا حينما أقول: إنها صليبية فأنا أعني ما نبهنا إليه الكثيرون من أن الدول الإسكندنافية مازالت تتخذ (الصليب) رمزاً وطنياً لها في أعلامها رغم ما يقال عن "لادينيّتها" (أو علمانيّتها).

حين يكون ذلك الرمز حاضراً لدى الدنمركي بهذه القوّة، فإن معالجة أي تصرّف بمعزل عن ذلكم الرمز الديني الوطني أمر صعب على العقل المسلم...

وأصعب منه أن نتخيّل أن يتخذ أي هجوم أوروبي ضد الإسلام صبغة دينية وأسوأ منها(صليبية)..

نحن لم ننس بعد كيف أثرت كلمة الرئيس الأمريكي بوش (الغلطة) حين وصف حربه ضد الإرهاب بالـ(صليبية)، وكيف استغربنا نحن المسلمين أن يبدو الغربي متديناً لهذه الدرجة، وفي وضع سياسي لا يحتمل الثرثرة بما هو ديني...

الآن تفعل الدنمرك نفس الشيء، وتجعل من تصرف أرعن وإساءة مقصودة للدين الإسلامي تعبيراً عن حرية التعبير، و"اللا خوف" من المسلم ومن إيذاء مشاعر الآخر بمسوّغات عدة..

حين تكون خلفية تلكم الإساءة دينية صليبية فالأمر سيكون مروّعاً ووخيما للغاية..

هذا ما سيحدث، وبهذا الشكل سيقرأ المسلمون الحادث ولا أستبعد أن نبدأ عهدا (صليبياً) جديداً.. تتحارب فيه الأديان كما لم تتحارب من قبل..

أمر آخر - بالحديث عن التعصّب الديني- كيف يبدو المسلمون في حميّتهم وغضبتهم للقضية الآن؟!

وما هي منطلقاتهم؟

الآن يبدو المسلمون وفي مظاهراتهم المحتجة وتنديداتهم الكلامية ومطالباتهم بالاعتذار أكثر تحضّرا وهدوءا وتعقّلاً من عاصوف (حرية الرأي والتعبير) الأوروبية التي لم نسمع بها بهذه الطريقة والوقاحة المنقطعة النظير!

الآن يظهر الوجه المختفي من الليبرالي الغربي ذي الحيادية والنزاهة واللامِساس... ويبدو أكثر شناعة وعناداً من صليبي متعصّب كان الليبرالي يتبرأ من تعصّبه الديني الدموي الفظيع لقرون طويلة..

-مرتبكون... ولا يعرفون ما يفعلون!

وجه آخر كشفته الحادثة ويمكننا أن نفرح به جداً لنعرف أننا لسنا الوحيدين الموصومين بالحيرة والتخبّط في دفتر التاريخ المعاصر..

يبدو لنا الغربي الآن مرتبكاً لا يعرف ما يحترم... ما يقنن تصرفاته.. ما حدود حريته التي هي أكبر وأفضل ما لديه ليدافع عنه الآن..

الآن تضع الإساءة الأوروبية والحدث الشنيع قيمة (الحرية) في محاكمة عادلة يتضح فيها ارتباك البشريين أمام ما يفترض أن يحترموه... وأمام الحد الذي يفصل بين الاحترام وبين الخوف من التعبير...

والحد الفاصل بين حرية التعبير والرأي وبين (قلة الأدب) والمسخرة..

والحد الفاصل بين الخوف على المصالح الاقتصادية... والخوف الحقيقي على القيم الأوروبية، واحترام الذات الأوروبية لنفسها وضميرها ومنطلقاتها..

تبدو أوروبا الآن مرتبكة ومحتارة ولا تدري ما تفعل.. أمام ضميرها... أمام شعوبها... أمام قيمها... أمام المسلمين.. أمام علاقاتها الدولية واقتصادها..

كثير من الكتّاب ينبهون أيضا أن الكاتب الإنجليزي الذي شكك في مذبحة الهولوكست الشهيرة يواجه حكما بالسجن لمدة ستة عشر عاما لمجرّد تشكيك في أساسات (السامية) على الرغم من أن منطلقاته كانت حوارية مدعّمة بالكثير من الأدلة والشواهد التاريخية العلمية... ولم تكن دوافعه استفزازية أو دعوة للصراع بين الأديان أو احتقارها.... كما يحصل في القضية الموصوفة بأنها تعبير عن حرية الرأي، وعدم الخوف من الدين والأديان..

هذه الانتقائية المقززة التي تمارسها أوربا تجعلنا نشعر بالقرف بقدر ما نشعر بالأسف لحجم التخبط الذي تعيشه أوروبا، والذي كشفه الحادث بشكل سافر وشنيع...

كون كثير من المسلمين حولوا المعركة الآن إلى (أرمجيدون) دينية صليبية إسلامية يمارس فيها الغربي فوقية لادينية، واستقواء ضد الفئة المسلمة القليلة.. لا يعني أنه ليس بإمكاننا أن نربح المعركة بعد، وأن نحوّل التاريخ الذي كان ضدنا وضد صورتنا النزيهة كمتسامحين مدانين حتى إشعار آخر.. التاريخ الذي وقف ضدنا لمدة خمس سنوات بعد الحادي عشر من سبتمبر يمكن أن نكسبه إلى صفّنا أخيراً، ونبدو نحن الأعقل والأكثر جدارة بالاحترام... والأكثر تحضّراً وقدرة على شفاء العالم من حالة الانبهار بالغربي الذي لم تستطع ناطحات سحابه ومؤسساته المستقلة أن تكون محترمة كفاية... وأن توجد الآن حلاً لمشكلة أساسها قلة الوعي (التعبيري)... بدلاً من التحدي المرتبك جداً والمتمثل في إعادة نشر الصور المسيئة بين اليوم والآخر، وفي أكثر من جريدة أوروبية..

أخيراً.. رغم كل الاستياء الذي سببه الحادث المثير إلا أنه حدث (مفيد) وضروري لنا كمسلمين في حقبة العولمة أن نضع قوانيننا أخيراً فيما يتعلق بالإساءة للأديان... وأن تبدأ حملة جيدة وقوية وصارمة لتحدي المد اللاديني الذي يريد انتزاع قدسية الأديان واحترامها من قلوب العالمين...

"اللاديني" هو الخطر القادم الذي يتربص بأجيالنا القادمة، والذي يمكنه أن يكوّن عالماً فوضوياً لا يحكمه إلا قانون متحوّل لا يحلّ حلالاً، ولا يحرّم حراماً...

حين لا يجد "اللاديني" من يقف أمامه بمنتهى الصرامة ليوقف سخريته بالأديان عند حده، فسنجد أنفسنا ندخل غمار حرب طويلة، وفي جبهات عدة يكون المتهم الأول والأخير فيها هو المتدين والدين بإثارة النعرات، والفرقة والتي لم يبدأها إلا "اللاديني"، ولكنه لم يجد وقفة صارمة وقانوناً محدداً وخطاً أحمر عريضاً لا يتجاوزه..

إنها دعوة لوقفة عالمية تتّحد فيها الأديان ضد من يريد الإساءة إليها، وينتقص من قداستها بدعوى حرية التعبير... دعوة لتفكير منطقي طويل وعادل في الحدود التي يمكن فيها وزن أي ممارسة نقدية ضد الأديان، وما هو الحد الذي يمكن اعتباره إساءة يتم تجريمها... وما هو الحد الذي يمكن اعتباره حواراً مقبولاً وتعبيراً عن الرأي محترماً..

كل هذا لم يكن ليحصل لو لم يحدث هذا الحدث الجلل والتجربة العنيفة... التي تذكرنا جيداً جداً بحادثة الإفك التي وإن كرهها المسلمون وقت حصولها، إلا أنها كان لابد منها ليتبين من كذب ممن صدق، ومن كانت خبثت نيّته ممن صفت، ولم تتكلم إلا بما هو خير..

كانت تجربة قاسية عسى أن نخرج منها بفوائد في تاريخنا ونفسياتنا ومستقبلنا القادم، وكيف ندير أزماتنا بمنتهى النزاهة والتجرد للحق...

حقاً...(... لا تَحسَبُوهُ شَرّاً لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم... )!!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply