أفِراراً مِن قَدَرِ الله؟


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

اقتضت حكمةُ الله تعالى أن يكلِّف الإنسانَ بتصرُّفات فرَضها عليه وأَلْزمه بها، ومن مقتضيات التكليف أن يكون الإنسانُ مختاراً لتصرُّفاته، إن شاء فعَلَ وإنْ شاء لم يفعل، كما قال تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) فنبَّهه إلى طريق العلوم والمعارف وهو النظر إلى المحسوسات بالعينين، وإلى طريق التعليم باللسان الذي يُترجَمُ به عن الضمير، فهدَى اللهُ الإنسانَ بذلك إلى النَّجدين، أي أرشده إلى معرفةِ طريقَيْ الخير الشَّر، ليفعلَ ما يُحمَد، ويَترُك ما يُذَمُّ ويُستقبَح، وهذا هو الإلهام الذي أشار إليه الله تعالى بقوله: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) فجعل النفوس سويَّةً حين أوْدَع فيها العقل، فأَمْكنها بذلك قدرةً على إدراك العلوم والتمييز بين الأشياء،

حتَّى إذا أرسل اللهُ الرُّسلَ وأنزل الشرائع، لم يَبْقَ للجاحد ما يعتذرُ به، فيقْبَل الشريعةَ مَن يقبلها عن بيِّنة، ويضلُّ مَن يَضلُّ بعد حجَّةٍ قامتْ عليه، كما قال تعالى: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ))

ومن فضل الله على عباده أنه حين أودع فيهم مناطَ التكليف، وهو العقل والإرادة، فإنه كلَّفهم بما يُطيقون من الأعمال، قال سبحانه: ((لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) وهكذا فقد مَكَّنَ اللهُ الناسَ من الإيمان، كما مكَّنهم من الكفر، فمن رحمة الله بعباده أنه لم يرغم الكفار على التكليف قسْرا، بل قال سبحانه: ((لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغَيِّ)) فهذا تخييرٌ لهم بين الإيمان وبين العذاب، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وهذه الآيةُ لا تعني إباحةَ الكفر، وإنما هي تحذيرٌ من الكفر وتحريضٌ للإيمان، من غير قسْرٍ ولا إكراه، بل قال سيدنا عمر: “إنَّا لا نُعطِي على الإسلام شيئاً، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”

ولعلَّ سائلا يسأل: إذا كان الإنسانُ مريدا ومختاراً، فكيف ساقَهُ القضاء والقدر؟ وللجواب على هذا السؤال، يجب علينا أن نعلم ماذا يعني مصطلح القضاء والقدر، فمن يرجع إلى كتب علماء الشريعة، فإنه يجد أن هذا المصطلح لا يعني جبراً ولا إكراهاً، وإنما أمرَ الله عبادَه بالإيمان بالقضاء والقدر بمعنَى أنْ يؤمنوا أنه لا يقع شيءٌ في الوجود إلا وقد عَلمهُ الله قبل وجوده، وأنه لم يوجد ابتداءً إلا بقدرته سبحانه وإرادته، فَمَن آمن بهذا فقد آمن بالقضاء والقدر، فالقَضاءُ عقيدةٌ يُؤْمَنُ بها، لا أنَّه شيءٌ يُحتجُّ به، فحين كان سيِّدُنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في طريقه إلى الشام، سمع بنزول وَباءِ الطاعون بها، فرأى ألا يَدخُلَها، لئلا يتعرَّض هو ومن معه لهذا الوباء، فقال أبو عبيدةَ: أفِراراً مِن قَدَرِ الله؟ فقال عمر: “أَوَغَيرَكَ قالها يا أبا عبيدة، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيت لو كان لك إبلٌ، فهبطَتْ وادياً له عُدْوتان، إحداهما مُخْصِبة، والأخرى جَدْبَة، أليس إنْ رَعَيتَ الخِصْبة، رَعَيْتها بقدر الله، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَة رَعَيْتها بقدر الله!” وحين سأل شيخٌ سيِّدَنا عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاءٍ وقَدَر؟ أجابه سيِّدُنا عليُّ: والذي فلقَ الحَبَّةَ وبرأ النَّسْمة، ما قَطَعْنا واديا ولا عَلونا تِلْعةً إلا بقضاء وقدر، فقال الشيخ: عند الله أَحْتسبُ عنائي، ما أرى لي مِن الأمر شيء! فقال علي: ولِمَ؟ بل عظَّم الله أجركم في مسيركم وأنتم مصعدون وفي منحدركم وأنتم منحدرون، وما كنتم في شيء من أموركم مكْرَهين، ولا إليها مُضطرِّين، فقال الشيخ: كيف يا أمير المؤمنين، والقضاءُ والقدرُ ساقنا إليها؟ قال عليٌّ: “ويحك، لعلك ظننته قضاءً لازما وقدرا حاتما، لو كان ذلك، لسقط الوعْدُ والوعيد، ولبطل الثواب والعقاب ولا أَتَتْ لائمةٌ من الله لِمُذنب ولا مَحْمدةٌ من الله لِمُحْسن، ولكنَّ الله تعالى أَمَرَ بالخير تخييرا، ونهى عن الشر تحذيرا، ولَمْ يُعْصَ مَغلوبا، ولَمْ يُطَعْ مُكْرَها” فإن قيل: كيف لا نكون مكرَهين وكلُّ ما يقعُ في الكون مكتوبٌ في كتاب؟ كما قال تعالى: "وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ".

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply