مصابيح الهدى والضلالة المدقعة

318
4 دقائق
14 ربيع الثاني 1447 (07-10-2025)
100%

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يحتاج الإنسان إذ يمضي في طريقه إلى مصابيحَ للهدى، يقتفي آثارها ويحاول جاهدًا أن يحذوَ حذوها.

لكنّه يحتاج كذلك بين الفينةِ والأخرى، علاماتٍ للضلالة المدقعة. يقيس الباطل بأفعالها، وينظر مواطن الضّعف في نفسِه من نقاط التّماسّ بينه وبينها، فيرتدع وينتهي. ويحرص أن يباعد بين سلوكِه وسلوكها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

في المنشورَين السابقين نموذجان يظهرُ للرّائي أوّلَ الأمرِ أنّهما متناقضان لكن عند التدقيق يتبيّنُ أنّهما ينبثقان من نبعِ قُبحٍ واحد.

هنا محاولةٌ لا أحسبها تقدرُ على احتواءِ كلِّ السّوءِ فيهما. لكنّ صعوبةَ المنال لا ينبغي أن تثنيَ عن بذلِ الاستطاعة.

- خلل البوصلة بين مركزيّة الطّفل ومركزيّة الأمّ.

- من أساسيّات الإسلام تربية أفرادِه صغارًا وكبارًا على تجاوز الذّات إلى ما هو أسمى منها وأجلّ.

- طلبُ رضى الله عزّ وجلّ.

- بذلُ شيءٍ من الدّنيا طلبًا للآخرة.

- خفضُ الجناحِ للمؤمنين.

- إماطةُ الأذى عن الطّريق.

تتكاثرُ هذه المعاني حتّى لا تكاد تحصرُها. وكلُّها بلا استثناء قائمٌ على إدراكٍ عميقٍ أنّ ذاتَ الفردِ ورغباتِه وتفضيلاتِه ليست هي المطلوب الأسمى وإنّما يلزمُ أنّ يدرّبَ المرءُ نفسَه على سهولة التضحيةِ. حتّى يبلغَ حدًّا تكون هذه التضحيةُ طبعًا يقعُ بغيرِ تكلّفٍ ولا كثيرِ ثرثرة.

إذا نظرتَ في هاتين الوالدتيْن. تجد الأولى جعلت من رغبةِ الطفل البلهاء -كما هي أكثرُ رغباتِ كلّ الأطفال- مركزًا في ذاتِها. بل اعتبرت تجاوزَها لرغبته خطًا قاتلًا. ثمّ انصياعَها لها فيما بعد هي الحلّ المثالي الذي -ويا للعجب- تبشّر به وتدعو إليه.

أمّا الثانية. فلا تقلُّ عنها في شيء. جعلت من رغبتِها البلهاء -وليست أكثر رغباتِ الأمّهات كذلك لكن عِش رجبًا ترَ عجبًا- في مشاهدة المسلسلات وشرب القهوة "على رواق" والنوم حين يخطر لها. مركزًا في ذاتِها. يجعلُ من أمرِ إرسالِ ابنتِها إلى الحضانةِ شيئًا طبيعيًّا، لا للاضطرار. لا لتطلّبِ النّفعِ لها في الحضانة -اتّفقنا مع وقوع النفع أو اختلفنا، بل لمجرّد إشباعِ هذه الذات المتضخّمة التي لم تفهم أنّها لم تخلَق لتُشبَع، وإنّما خُلِقَت لتبذل سببًا ترجو به الجنّة. أمرٌ بديهيّ لا يخفى. لكنّه خافٍ بعيد.

- مشكلة الذّاتيّة المبالغ فيها أو قل إن شئت "النسبيّة المطلقة":

الأولى تقولُ معقّبةً على انتقادِها إن طفلَها "قويّ الشخصيّة جدًّا جدًّا". ماذا تعني بذلك؟. تعني أنّ الحلولَ التي قد تنفعُ طفلًا لا تنفعُ الآخر، وأنّ الأطفالَ أطيافٌ واسعةٌ. وهذا في ذاتِه حقّ. لكن تبنّيه على إطلاقِه يوقعُ القائلَ به في مشكلةٍ كبرى:

حين تقول هناك طيفٌ واسع، فإنّ هذا الطيف لا يزال يشمل ما هو طبيعيّ، ثمّ ما هو شاذّ. يعني قد يكون الطفل متمسّكًا برغبتِه في شيء، ويتكرر منه هذا السلوك.

لكن هناك حدٌّ فاصلٌ نقول عنده: لقد انتقلنا من مجرّد التمسّك إلى العناد المرضي الذي ينبغي أن يُعالَج ويُهذّب. والعكس بالعكس، فإنّ طفلًا قد يكون سمحَ النّفسِ يتنازل عن كلِّ شيءٍ حتّى إذا بلغَ حدًّا معيّنًا قُلنا: هذا طفلٌ لا يرى نفسَه جديرًا بشيء. وهذا ينذرُ بأمراضٍ ينبغي أن تعالج وتهذّب. هكذا هي الدنيا في كلّ شيء. أما أن نقول إنّ كل شيءٍ طيف ونعني بذلك أن كلّ شيء "طبيعي" ينبغي أن يُقبلَ كما هو. هذا بعيد. بعيدٌ جدًّا.

والأمثلةُ على هذا النوعِ من الخلل أوسعُ كثيرًا من هذا الذي بين يديْنا. أنصِت بالسّمع قليلًا تسمع ما لا يخطرُ على البال:

"أنا ولدي لا يأكل الخضار". ولدها ذو العامين ونصف.

"أنا بنتي هاي نيد".

"أنا ولدي لا يصلح أن آمرَه بشيء".

"أنا بنتي لا تحبّ أن يمسَّ أحدٌ أشياءَها".

"أنا ولدي لا يحبّ أن يمشي في مجموعةٍ إلّا إذا قرّر هو خطّ السير".

"أنا بنتي شديدةُ الحساسيّة من كلّ شيء".

كل هذا يُقالُ على مسمعٍ من هؤلاء الأطفال المساكين الذين يحبِسُهم آباؤهم وأمّهاتُهم في سجونٍ تظلُّ في أذهانِهم مدى الحياة بلا ذنبٍ سوى جهل الأبوين فقط.

من خطورةِ هذه الذاتيّة المفرطة التي تدعو إلى "تطبيع" كلّ شيء أن السلوكَ الخاطئ يُلبَسُ زيًّا مخالفًا له تمامًا، فإن السلوك الذي تصفه الأختُ هنا بالقوّة ليسَ من القوّةِ في شيء، القوّةُ أن يملك الطفلُ أن يخالفَ أبويهِ إذا غلب في ظنّه المصلحةُ في غيرِ رأيِهما شريطةَ أن تكونَ المسألة مما يحتملُ الظّنّ ولا يُقطعُ فيها برأي على سبيل اليقين. ونعم، حتّى الطفل ذو الأعوامِ الثلاثةِ يفهمُ هذا إذا كان والداه من أهل البصيرة.

أمّا أن يصرّ الطفل ألّا يساعده أحدٌ في إتمام لباسِه ولا يقدرُ هو عليه ثمّ يمضي يصرخ ويخبط ويضرب وينزعُ لباسَه مع بيان الحاجة إلى الإسراع. هذه ليست قوّة. هذا ببساطة طفلٌ لم يُربِّهِ أحدٌ على أنّ رغبتَه غير مقدّسة. وأننا قد ننزلُ عليها في حين، وقد نتجاوزُها في حين، ومناط النزول أو التجاوز عند الأبوين لا عنده. فإذا استقرّ ذلك عنده لم يقع منه مثلُ هذا السلوكِ إلّا يسيرًا.

أمّا الثانية فمرةً أخرى لا تقلّ عن الأولى في شيء:

حين تقول امرأةٌ لا تشكو فاقةً ولا حاجةً إلى الكسب ولا مرضًا مقعِدًا. وحاضرةُ الزّوج. أن القيامَ على شأن بنتٍ واحدةٍ بلا إخوة. في عمرِ العامين. طبيعيّةٍ ليست من ذوات الاحتياجات الخاصّة. هي "نهايتها الرسميّة". وتمضي تصف أنّ هذه الرعاية ستصل بها إلى "الهستريا" و"تلف الأعصاب". فإنّنا لا نقول: آه نعم. إن من النّساء من يحتملنَ شيئًا لا تطيقه غيرهنّ. ونعم طيف الاحتمال واسع، وكلُّ قدرٍ من الاحتمال طبيعي. إنّما نقول: هذه نقصٌ مَرَضيٌّ في القدرةِ على احتمال ما ينبغي أن يكون محتملًا بلا غضاضةٍ ولا تكلّفٍ ولا كثيرِ شكوى. وإن الملايين من الأمّهات متعلّماتٍ أو غير متعلّمات. مسلمات وغير مسلمات. حاضراتٍ وأكثرُ منهنّ ماضيات. يحتملن أضعافَ ذلك سنواتٍ طِوال ولا ضرر.

مرّةً أخرى نقول. إن التي تشكو مثل هذه الشكوى ينبغي أن تهذّبَ نفسَها وتدرّبها على احتمال المحتمل الطبيعي. وتدركَ الغايةَ من حياتِها. التي هي أوسعُ من القهوة والمسلسلات والتمشية الصباحيّة هذا لو سلّمنا أصلًا أن رعاية الطفل تحولُ دون كل رفاه. وما هي بذلك لمن وعى وفهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


مقالات ذات صلة


أضف تعليق