بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمد لله بارئ النسم، وخالق الخلق من عدم، أحمده على فضله الذي عمّ، وعلى الهداية لدينه الذي تمّ، وأصلي وأسلم على المبعوث بجوامع الكلم، من مدت عليه الفصاحة رواقها، وشدت به البلاغة نطاقها، أهل الفضل والفضيلة، أهدي لكم السلام غصناً طرياً، وورداً جنياً، سلام عدد محاسنكم ومعاليكم وآثاركم الحميدة ومساعيكم، وأسأل الله أن يطيل مدتكم ويحرس مودتكم .
لما كان (علم التفسير أجلّ العلوم على الإطلاق، وأفضلها وأوجبها وأحبها إلى الله؛ لأن الله أمر بتدبر كتابه والتفكر في معانية والاهتداء بآياته وأثنى على القائمين بذلك وجعلهم في أعلى المراتب ووعدهم أسنى المواهب .فلو أنفق العبد جواهر عمره في هذا الفن لم يكن ذلك كثيراً في جنب ما هو أفضل المطالب، وأعظم المقاصد وأصل الأصول كلها وقاعدة أساسيات الدين وصلاح أمور الدين والدنيا والآخرة، وكانت حياة العبد زاهرة بالهدى والخير والرحمة وطيب الحياة والباقيات الصالحات)1،
وما أجمل قول ابن القيم رحمه في حثه لطلاب العلم وشداة المعرفة: (فما أشدها من حسرة وما أعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرءان ولا باشر قلبه أسراره ومعانيه فالله المستعان) 2،
ومن توفيق الله وفضله ومنته أن كانت زاوية لطائف قرآنية معكم في هذا الملتقى طيلة خمسة أعوام، أرجو أننا عشنا فيها مع كتاب الله، ومعانيه، وفوائده،كما قال سيد: (الحياة في ظلال القرآن نعمة، نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها، نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه، والحمد لله لقد منّ الله عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذقه قط في حياتي)، وفي هذا العام تأتيكم بثوب جديد بعنوان (أيام مع التفاسير)، فقد كنت في السابق أطوف بين التفاسير وألتقط من هنا وهناك، أما في هذه السنة، فاقتصرت على تفاسير محددة ننهل من معينها ونعب من مكنزها، وننتقى من فوائدها، ونقتنص من شواردها ، وليس المقصد من هذا إيراد جميع فوائد التفاسير المختارة فهذا مما يَعزّ، وإنما هي اختيارات والتقاطات، أسأل الله التوفيق والسداد فيها، وستأتيكم هذه المختارات يوميًا طيلة شهر رمضان المبارك بإذن الله، وإذا طالت فوائد التفسير نقسمه على عدة أيام، وأسأل الله سبحانه أن لايجعل عملنا علينا وبالاً وأن يرزقنا النية ، وأصلى وأسلم على نبينا محمد ما بلّ ريق فما، ومداد قلما .
التفسير الأول: تفسير نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام، للإمام محمد بن علي الكرجي القصاب، تحقيق الدكتور علي التويجري، وإبراهيم الجنيدل، والدكتور شايع الأسمري، الطبعة الأولى 1424هـ، دار ابن عفان، مطبوع في أربع مجلدات .
1. المؤلف هو الإمام الحافظ محمد بن علي الكرجي القصاب وسمي بالقصاب لكثرة ما قتل من الكفار في مغازيه(1/19).
ومماقيل فيه شعراً :
وفي الكرج الغراء أوحد عصره
أبو أحمد القصاب غير مغالــــب(1/22)
1. قال تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لويردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ماتبين لهم الحق).
دليل واضح لمن تدبره أن حرمان التوفيق أقعدهم عن الإيمان لما حسدوا عليه غيرهم وتبين لهم حقيقته، إذ محال أن يحسدوا غيرهم على ماهو باطل عندهم وفي أيديهم بزعمهم ما هو خير منه . هذا ما لايذهب على مميز(1/132).
2. في قوله تعالى إخباراً عن صالح: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا).
دليل على أن بناء القصور ليس بمنكر وأن البناء الطايل غير مؤثر في نسك الناسكين ، إذ محال أن يذكرهم آلاء الله في شيء بنيانه معصية وقد قال : (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ولو كان بناء القصور منكراً لكان داخلاً في الفساد لا في الآلاء(1/433).
3. قوله تعالى إخباراً عن يعقوب: (ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق). حجة في تسمية الجد أبًا ؛ لأن إسحاق جد يوسف وإبراهيم جد أبيه(1/609).
4. قال تعالى: (وكذلك مكنَّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولانضيع أجر المحسنين).
دليل على أشياء : منها: أن الطاعة تثمر الرزق في الدنيا ويعطى المؤمن الأجر عليها في الدنيا ولاينقص ذلك من ثوابه عند الله شيئًا، كما يعطى الكافر بالشيء يسكن له في الدنيا ولايكون له في الآخرة نصيب .
ومنها: أن نيل الدنيا إذا لم يشغل عن الآخرة غير مذموم ، ويكون المعطى به مرحومًا غير مسخوط عليه، وأنه وإن كان كذلك، فأجر الآخرة خير منه؛ لقوله من قائل: (ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون)(1/619).
5. (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين). فيه دليل على أن التكبر متولد في الإنسان من قلة معرفته بنفسه، وفكره فيما خُلِقَ منه.(2/46).
6. قال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون). دليل على أن من أفتى بغير علمٍ فعمل بفتواه كان إثم العامل عليه (2/53).
7. قال تعالى: (ولله يسجد مافي السموات ومافي الأرض من دابة والملائكة وهم لايستكبرون). دليل على أن من سجد لله فقد برئ من الكبر ، ووطن نفسه على الذل، ولم ينازع ربه في كبريائه وعظمته، ويؤيده ما قال قبل هذه الآية: (يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سُجِّدًا لله وهم داخرون)(2/59).
8. قال تعالى: (ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). فيها عظة للمغتمين بكثرة ولادة الأولاد خشية العجز عن القيام بنفقاتهم ومؤناتهم، وفي ضمانه نفقتهم أمان للمضمون له ما يتقيه من العجز، ويحذره من دخول الفقر عليه بسبب أولاده، وبشارة يسكن إليها المؤمن ويزول اضطراب قلبه بما لايخلف ضامنه من وعده (2/128).
9. قال تعالى: (نحن أعلم بمايستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) دليل على أن الإنصات للموعظة والإقبال على الواعظ واجب، وأن الكلام عندها أو محادثة بعضهم بعضاً في مجمع يعظ فيه واعظ مذموم وتهاون بالموعظة ولهو عنها ، وفي ذلك زوال منفعتها وفهم ما أودع فيها (2/173).
10. قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) إلى قوله: (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً). دليل على أن الفزع إلى الله في الشدة دون الرخاء خلق من أخلاق الكافرين، وأن المؤمن مندوب إلى مراعاة حق الله عليه، والتعرف إليه في الرخاء ليجاب عندالشدة (2/178).
11. في قوله تعالى: (فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا). في قصة الخضر مع موسى صلى الله عليهما أدلة منها: أن قلوب المؤمنين مجبولة على إنكار المنكر، وغير مالكة للصبر على احتماله، لأن موسى وعد الخضر أن يصبر على مايراه منه، فلما رأى ما رأى أنكره عليه (2/215).
12. قال تعالى في سورة الكهف في بيان قصة موسى والخضر (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر). اسم المسكنة واقع على من له البلغة من العيش، لأن الخضر صلى الله عليه قد سمى من له سفينة يعمل فيها مسكيناً وقد أخبر الله عنه به في جملة ما أخبر من الحق (2/219).
13. قال تعالى لمريم: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً). دليل على أن الرطب للنفساء نافع (2/238).
14. قال تعالى: (فنادى في الظلمات أن لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) دليل على أن التهليل والتسبيح يجليان الهموم وينجيان من الكرب والمصائب ، فحقيق على من آمن بكتاب الله أن يجعلها ملجأ في شدائده، ومطية في رخائه ثقة بما وعد الله المؤمنين من إلحاقهم بذي النون في ذلك حيث يقول: (فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) (2/311).
15. قال تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير). من الفوائد أن المغتم بالشيء قد يتسلى بأن يكون له في مصيبته شريك ألاترى أن الله كيف عزى رسول الله بمشاركة من مضى قبله من الأنبياء في تكذيب قومهم إياهم ، واحتمال مضضهم وأذاهم، فدل على أن رسول الله وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يغتمون من تكذيب قومهم إياهم (2/331).
16. قال تعالى إخباراً عن فرعون وملئه: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون). دليل على أن الله يجري نقض ضلالة الضالين على ألسنتهم فلا يشعرون بها ، ولا أتباعهم ليحق كلمته على من قضى عليه الشقوة .
ألا ترى أن فرعون مع ادعائه الربوبية قال مع ملئه (أنؤمن لبشرين مثلنا) ولم يحترز من تسمية نفسه بشرا، وقد سماها رباً لا ملؤه (2/354).
17. قول إبراهيم في دعائه: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين). تخويف للمؤمنين شديد أن يعملوا ولا يتكلوا، إذا كان خليله طامعاً في غفران خطيئته غيرحاتم بها على ربه، فمن بعده من المؤمنين أحرى أن يكون أشد خوفاَ من خطاياهم (3/529).
18. قال تعالى: (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أنداداً ليضل عن سبيله). تقريع لمن يهمل الدعاء في الرخاء، ويفزع إليه في الشدة، وليس ذلك من أخلاق المؤمنين، إذ من أخلاقهم إكثار الدعاء في الرخاء عدة للشدة. فلا ينبغي للمؤمن أن يستن بالكافر، ولا يفزع إلى الدعاء إلا عند الشدائد (4/11).
19. قوله سبحانه في عقاب فرعون: (فأخذه الله نكال الأخرة والأولى) فالآخرة هاهنا قوله: في سورة النازعات: (أنا ربكم الأعلى) والأولى قوله في سورة القصص: (ما علمت لكم من إله غيري)(4/477).
20. قال تعالى: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فهذه بشارة للمؤمن جليلة وغنيمة عظيمة، أن يكون الإنسان في خسر، ويكون هو في زيادة؛ لأن الخسر النقصان، وذلك أنه ما دام شابًا، أو كهلاً مطيقًا فهو يزيد بعمل الخير، والمسارعة إلى الطاعة، فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له ما كان يعمله في وقت الطاعة، وإن له ولد صالح يدعو له فهو يلحقه في قبره، أو كان ممن وقف وقفًا في سبيل الخير، أو علّم علمًا فهو يجري له أجره إلى يوم القيامة (4/540).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
(1) العلامة السعدي ـ القواعد الحسان المتعلقة بتفسير القرآن .
(2) بدائع الفوائد ـ ابن القيم .
تمت المختارات والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد