بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن المتخصصين في مجال التفسير وعلوم القرآن يكاد إجماعهم ينعقد على ظهور التفسير العلمي وكثرة المؤلفات والمحاضرات فيه من بين سائر أنواع التفسير الأخرى مما جعل كثيرًا من ا لباحثين المعاصرين يعدونه من أبرز وسائل الدعوة إلى الإسلام في عصرنا الراهن.
ويلاحظ أنه مع التضخم الكبير في عدد المؤلفات التي يمارس أصحابها التفسير العلمي إلا أن هناك إحجامًا من كثير من المتخصصين عن الدراسات النظرية التأصيلية في التفسير العلمي، وأعني بها الدراسات التي يغلب عليها جانب النقد والتقييم والتقويم للجهود المبذولة في هذا المجال.
لقد كان لبعض الباحثين المعاصرين فضل السبق في طرق هذا الباب منذ فترة طويلة نسبيًّا لكن وتيرة التأليف النشطة في المجال التطبيقي تبقي الحاجة قائمة لمثل هذه الدراسات التأصيلية النظرية.
وهذا البحث محاولة في هذا السياق أرجو أن يكون لبنة تتبعها لبنات في مجال التفسير العلمي.
وقد قسمت هذا البحث إلى مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، على التفصيل التالي:
مقدمة:
الفصل الأول: مفهوم التفسير العلمي وتاريخه:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالتفسير العلمي.
المبحث الثاني: العلاقة بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
المبحث الثالث: التفسير العلمي بين المنهج والاتجاه.
المبحث الرابع: تاريخ التفسير العلمي، وأبرز المؤلفات منه.
وفيه مطلبان.
الفصل الثاني: التفسير العلمي بين الرفض والقبول:
وفيه تمهيد وأربعة مباحث:
تمهيد في التفسير بالرأي وعلاقته بالتفسير العلمي.
المبحث الأول: أبرز المعارضين للتفسير العلمي وأدلتهم.
المبحث الثاني: تحقيق موقف بعض من صنِّفوا معارضين للتفسير العلمي:
وفيه أربعة مطالب.
المبحث الثالث: أبرز المؤيدين للتفسير العلمي وأدلتهم:
وفيه مطلبان.
المبحث الرابع: الترجيح بين أدلة المانعين والمجيزين:
وفيه مطلبان.
الفصل الثالث: أمثلة تطبيقية على التفسير العلمي المردود والمقبول:
وفيه مبحثان:
المبحث الأول: أمثلة تطبيقية على التفسير العلمي المردود.
المبحث الثاني: أمثلة تطبيقية على التفسير العلمي المقبول.
الخاتمة: وتتضمن أبرز النتائج والتوصيات.
وقد كان لدعم مركز البحوث التربوية بجامعة الملك سعود أثر طيب في إنجاز هذا البحث في الوقت المحدد فلهم مني جزيل الشكر والتقدير.
أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لخدمة كتابه الكريم، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الأول: مفهوم التفسير العلمي وتاريخه
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: التعريف بالتفسير العلمي.
المبحث الثاني: العلاقة بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي.
المبحث الثالث: التفسير العلمي بين المنهج والاتجاه.
المبحث الرابع: تاريخ التفسير العلمي وأبرز المؤلفات فيه.
المبحث الأول: التعريف بالتفسير العلمي
التفسير العلمي مصطلح حديث مكون من كلمتين أولاهما: التفسير الذي هو في اللغة: "كشف المغطى وبيانه"، كما قال ابن الأعرابي وابن منظور(1)، ولذا فقد فسَّر مجاهد قوله تعالى: (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا)[الفرقان: 33] بقوله: بيانًا(2).
ومن هنا فإن توسع بعض المعرِّفين للتفسير في الاصطلاح وإدخالهم علومًا أخرى ضمن حد التفسير يُعدُّ خروجًا بالتفسير عن حدّه الضابط الذي لا يتعدى: "بيان معاني القرآن"(3).
ومن أبرز تعريفات التفسير في الاصطلاح ما يلي:
1- تعريف ابن جزي الكلبي ت741ه: شرح القرآن وبيان معناه والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو نجواه(4).
2- تعريف أبي حيان الأندلسي ت 745ه: علم يُبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبيّة، ومعانيها التي تُحمل عليها حال التركيب وتتمات ذلك(5).
3- تعريف بدر الدين الزركشي ت 794ه: علم يُعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه واستخراج حكمه وأحكامه(6).
4- تعريف آخر للزركشي: علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها(7).
5- تعريف ابن عرفة المالكي ت 803ه: العلم بمدلول القرآن وخاصيّة كيفيّة دلالته وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ(8).
أما الكلمة الثانية التي يتكون منها مصطلح: التفسير العلمي, فتعني النسبة إلى العلم، الذي هو في اللغة مصدر مرادف للفهم والمعرفة والجزم والإدراك، وهو ضد الجهل أما في الاصطلاح فإن تعريف العلم يختلف باختلاف معرّفيه تبعًا لمجال تخصصهم(9).
ففي حين يرى أهل التدوين أن العلم هو: مجموعة المسائل المنضبطة بجهة واحدة في موضوعها أو غايتها فإن الفلاسفة ومن يسمّون بالحكماء يرون أن العلم هو: صورة الشيء الحاصلة في الذهن، أما المتكلمون فهو عندهم: صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به, ويقصرون الماديون العلم على: حصول اليقينيات المستندة إلى الحس، فيُخرجون الغيبيات وما لا تقع عليه الحواس عن مسمى العلم, أما علماء الشريعة فالعلم عندهم يتضمن: العلم بالله تعالى وآياته وأفعاله في خلقه وأوامره ونواهيه (10).
وهذا هو الصحيح فإن العلم إذا أُطلق دون قيد فالمراد به علم الشريعة، كما قال تعالى عن القرآن: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)[العنكبوت: 49]. وكما قال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11].
لكن الذي يعنينا في هذا المبحث هو التعرف على مفهوم: التفسير العلمي باعتباره مصطلحًا مركبًا من الكلمتين معًا.
ومن أبرز التعريفات التي وقف عليها الباحث ما يلي:
1- تعريف الدكتور صلاح الخالدي: تفسير الآيات تفسيرًا علميًّا وفق قواعد العلم الحديث وبيان المضامين العلمية للآيات وفق مقررات وتحليلات العلم الحديث(11).
2- تعريف آخر للدكتور الخالدي: النظر في الآيات ذات المضامين العلمية من الزاوية العلمية، وتفسيرها تفسيرًا علميًّا، وذلك بالاستعانة بالعلوم والمعارف والمكتشفات الحديثة في توسيع مدلولها وتقدير معناها(12).
3- تعريف أمين الخولي: التفسير الذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها(13).
وقد نقل موسى شاهين لاشين(14) ، ومحمد حسين الذهبي(15) تعريف الخولي دون إشارة إليه.
4- تعريف الدكتور محمد لطفي الصباغ: تحكيم مصطلحات العلوم في فهم الآية، والربط بين الآيات الكريمة ومكتشفات العلوم التجريبية والفلكية والفلسفية (16)، وهو تعريف منقول عن الخولي مع تصرف يسير في العبارة.
5- تعريف الدكتور عبد الله الأهدل: تفسير الآيات الكونية الواردة في القرآن على ضوء معطيات العلم الحديث(17).
6- تعريف الدكتور عبد المجيد المحتسب: التفسير الذي يتوخى أصحابه إخضاع عبارات القرآن للنظريات والاصطلاحات العلمية وبذل أقصى الجهد في استخراج مختلف مسائل العلوم والآراء الفلسفية منها(18).
7- تعريف الدكتور فهد الرومي: اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم الكونية ومكتشفات العلم التجريبي، على وجه يظهر به إعجاز للقرآن(19).
8- تعريف الدكتور أحمد أبو حجر: التفسير الذي يجاول فيه المفسر فهم عبارات القرآن، في ضوء ما أثبته العلم، والكشف عن سرٍّ من أسرار إعجازه(20).
9- تعريف الشيخ عبد المجيد الزنداني: الكشف عن معاني الآية أو الحديث، في ضوء ما ترجحت صحته من نظريات العلوم الكونية(21).
10- تعريف د. زغلول النجار: توظيف كل المعارف المتاحة لحسن فهم دلالة الآية القرآنية(22).
وبنظرة نقدية على التعريفات السابقة يمكن الوقوف عند الملاحظات التالية:
أولاً: يُلاحظ أنَّ إطلاق وصف [العلمي] على هذا اللون من التفسير دون سواه فيه مجافاة للحقيقة من جهة،وغضٌّ من قيمة العلوم الأخرى من جهة ثانية، ويُفهم منه أن ألوان التفسير الأخرى ليست علمية، كالتفسير الفقهي والعقدي واللغوي، ولذا فإن الأولى تقييده بالتجريبي أو الكوني، فيقال: التفسير العلمي التجريبي(23) ،أو التفسير العلمي الكوني.
مع ملاحظة صعوبة التقييد نظرًا لانتشار هذا المصطلح بشكل كبير، مما يجعل بعض الباحثين يستخدمه مع قناعته بعدم دقته، تبعًا للمقولة ا لمشهورة: خطأ مشهور خيرٌ من صواب مهجور.
ثانيًا: في تعريف الخولي والصباغ والذهبي ولاشين والمحتسب، جاء النص على تحكيم الاصطلاحات العلمية على آيات القرآن وإخضاع عبارات القرآن لها، وفي هذا عكس للقضية، فالنص القرآني هو الحاكم على التفسير لا العكس، كما أن الاصطلاحات العلمية تشمل أربعة أمور هي: الفرضيات، والنظريات، والمكتشفات، والحقائق العلمية؛ ولذا فلابد من تحديد المراد بالمصطلحات العلمية هنا.
ويلاحظ أن القضايا الفلسفية لا علاقة لها بالعلم التجريبي والكوني، ولا تدخل ضمن مسمى التفسير العلمي عند أصحابه.
وقد مال هؤلاء المعرِّفون الخمسة إلى الإيحاء للقارئ بموقفهم الرافض للتفسير العلمي، وهو ما فطن إليه أحد الباحثين حين قال: إن كل من يُعرِّف التفسير العلمي بهذا الشكل إنما يُعرّفه من وجهة نظره المانعة لهذا الاتجاه في التفسير(24).
ثالثًا: في تعريفَي الدكتور صلاح الخالدي يلاحظ تكرار كلمتي التفسير والعلمي في التعريف أكثر من مرّة، مع أن المطلوب هو إيضاح معنى هاتين الكلمتين، فقد تكررت كلمة العلم أربع مرّات في التعريف الأول، وأربع مرّات كذلك في التعريف الثاني، دون إيضاح أي أنواع العلوم يُقصد إليه في هذا اللون من التفسير.
رابعًا: في تعريف الدكتور فهد الرومي يُلاحظ أن مجرد كشف الصلة بين الآيات القرآنية وما يكتشفه العلم التجريبي ليس تفسيرًا للآية بالمعنى الاصطلاحي الدقيق للتفسير، الذي هو بيان المعنى المراد منها، وليس مجرد وصف الصلة بينها وبين ما يكتشف في علم ما.
وقد ركز التعريف على المفسر وليس التفسير، فتحدث عن (اجتهاد المفسر في كشف الصلة...) وهو عمل يقوم به المفسر، والمطلوب بيان تعريف التفسير العلمي، كما أن النص على أن يكون هذا الكشف على وجه واحد مخصوص هو (ما يظهر به إعجاز للقرآن يدل على مصدره وصلاحيته لكل زمان ومكان) يحصر التفسير العلمي في دائرة الإعجاز العلمي دون سواها، ويخرج كثيرًا من الآيات القرآنية التي يمكن استخدام بعض الحقائق العلمية في إيضاح معناها دون أن يكون في ذلك إعجازٌ بالمعنى الدقيق لمصطلح الإعجاز -كما سيأتي-.
خامسًا: في تعريف الشيخ الزنداني والدكتور الأهدل والدكتور أبو حجر: يُلاحظ أن عبارة (في ضوء ما ترجّحت صحته) عند الأول, وعبارة (على ضوء معطيات العلم الحديث) عند الثاني. وعبارة (في ضوء ما أثبته العلم الحديث) عند الثالث, هي عبارات عامة غير دقيقة، ولا يناسب استخدامها في التعريفات التي تتصف عادة بالدقة والتحديد، لتكون جامعة مانعة، فهل يراد بها الاستئناس بمعطيات العلم الحديث أم الاحتجاج بها؟ وهل يعد التفسير علميًّا إذا أشار من بعيد إلى بعض معطيات العلم الحديث دون ربط ذلك بمعنى الآية؟ كما أن جعل تفسير الآية القرآنية على وفق المعطيات العلمية غير مسلَّم به؛ فإن الآية لا يستمد تفسيرها من مجرد معطيات العلم الحديث. فهل ظل معنى الآية غامضًا ثم كشف عنه واتضح معناه بما ظهر من الكشوفات العلمية الحديثة؟
سادسًا: في تعريف الدكتور زغلول النجار توسع كبير في العبارة، أخرج التعريف عن كونه مانعًا، فهو يستخدم كلمة "توظيف" وهي كلمة عامة تشمل التفسير والإيضاح، وتشمل الاستفادة من المعطيات دون وصول إلى درجة الكشف والبيان.
كما أن هذا التوظيف لا يقتصر على الحقائق ا لعلمية عنده، بل إنه يرى أن المفسر إذا لم يجد الحقائق والقوانين فإنه لا حرج عليه من توظيف النظريات والفروض العلمية في تفسير الآية(25) ؛وهو توسع غير سائغ ولا مبرر.
والذي يظهر أن المراد بالتفسير العلمي هو: استخدام العلم التجريبي في زيادة إيضاح معاني الآيات القرآنية وتوسيع مدلولاتها.
وهذا التعريف نص على كون العلم التجريبي خادمًا للنص القرآني، وليس حاكمًا عليه، كما جاء في بعض التعاريف السابقة؛كما أن التعريف قصر أثر العلم التجريبي الحديث في زيادة إيضاح المعاني وتوسيع المدلولات، لأن معاني الآيات القرآنية كانت واضحة للصحابة والسلف الصالح، وإنما أسهم العلم التجريبي الحديث في زيادة الإيضاح وتوسيع الدلالة.
وإن أردنا أن نضيِّق الدائرة ونعرِّف التفسير العلمي بما يُفترض أن يكون عليه وليس بمجرد واقعه السائد، فإننا نضيف كلمة (حقائق) قبل كلمة (العلم التجريبي) لنحصر التفسير العلمي في دائرة الحقائق العلمية لا النظريات والفرضيات التي يجيز بعض المعاصرين توظيفها في فهم دلالة الآية القرآنية(26).
المبحث الثاني: العلاقة بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي
من أكثر الأسباب التي أدت إلى تباين المواقف حول التفسير العلمي قبولاً أو ردًّا الخلط بينه وبين الإعجاز العلمي، حتى في أوساط بعض المتخصصين في هذا المجال، بل إن منهم من يراهما شيئًا واحدًا.
فهل كل آية تتضمن إشارة علمية في قضية كونية أو طبية أو نحوها تحمل إعجازًا علميًّا بالمعنى الدقيق للإعجاز؟
وفي حين قصر بعض الباحثين الإعجاز القرآني على وجه واحد هو الإعجاز البياني اللغوي دون سواه(27) بدعوى أن معارف الناس وقت نزول القرآن لم تدرك ما تم اكتشافه فيما بعد من العلوم الكونية والطبيعية، فكيف يسوغ حينئذٍ أن يتحدوا بما لا يملكون آلته والوسيلة إلى بلوغه إلا أن الصواب أن الله تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن في جميع جوانب الإعجاز فيه: الإعجاز البياني، والتاريخي، والإخباري، والتشريعي، والتربوي، والعلمي التجريبي؛ وفي كل عصر يبرز جانب من جوانب الإعجاز القرآني تبعًا لاهتمامات الناس ومعارفهم.
ولو سلمنا جدلاً بقصر الإعجاز على الجانب البياني اللغوي، فكم هي نسبة الذين يتذوقون اللغة ويدركون أسرار البيان فيها اليوم بالنسبة للناطقين بالعربية؟ وكم هي نسبة العرب إلى غير العرب من المسلمين اليوم؟ بل وكم هي نسبتهم بالنسبة إلى أهل الأرض جميعًا الذين تحداهم الله تبارك وتعالى بالقرآن؟.
وعلى الضد من هؤلاء فإن من الباحثين من يؤكد على أن الإعجاز العلمي "قضية مسلمة لا جدال فيها أجمع عليها المسلمون"(28) ، ويذهب بعضهم إلى تعريف الإعجاز العلمي بما يجعله مماثلاً للتفسير العلمي كما حصل من ا لدكتور غانم قدوري الحمد حين قال أن "الإعجاز العلمي يتناول دراسة الآيات التي وردت فيها إشارة إلى قضايا علمية تتعلق بالفلك أو الطب، أو علمي النبات والحيوان ونحوهما"(29).
بل إن بعض الباحثين يتحفظ على مصطلح الإعجاز العلمي، ويرى استبداله منعًا للخلط واللبس بمصطلح: دلائل صدق القرآن(30).
ومن هنا فإن بيان العلاقة بين مصطلحي التفسير والإعجاز العلمي يزيل خطأً منهجيًّا وقع فيه بعض المتخصصين، وكانوا فيه على طرفين، والصواب هو التوسط بينهما، فليس التفسير العلمي مرادفًا للإعجاز العلمي وإلا لاعتبرا شيئًا واحدًا, كما أنهما ليسا منفصلين متباينين، بل إن بينهما عمومًا وخصوصًا ودائرة أحدهما أوسع من الآخر.
فكل إعجاز علمي فهو يُعرف من خلال التفسير العلمي, وليس كل تفسير علمي قابلاً لأن يكون إعجازًا علميًّا تقوم به الحجة على غير المسلمين.
ولا يشغب على هذا البيان ما يشترطه الأشاعرة في المعجزة من ضرورة وقوع التحدي بها، حيث قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهم يقولون: المعجزة هي الخارق المقرون بالتحدي بالمثل وعدم المعارضة"(31).
فإن القرآن من بين سائر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم قد انفرد بكونه متحديًّا به.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وسائر المعجزات لم يُتحدّ بها, وليس فيما نقل تحدٍ إلا بالقرآن"(32) وقال في موضع آخر: "بل لم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم التحدي إلا في القرآن خاصة.."(33).
إن تعريف الإعجاز العلمي ب "إظهار صدق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بما حمله الوحي إليه من علم إلهي ثبت تحققه ويعجز البشر عن نسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم أو إلى أي مصدر بشري في عصره"(34) يدل على وجود فرق بينه وبين التفسير العلمي ويظهر هذا الفرق إذا ركزنا على أمرين:
أحدهما: أن استخدام مكتشفات العلم التجريبي في بيان معاني الآيات القرآنية هو التفسير العلمي, وأن استخدام هذا التفسير العلمي في إثبات صدق النبوة وكون القرآن كلام الله لذكره ما لا يمكن للبشر أن يعرفوه في ذلك الوقت هو الإعجاز العلمي. فكأن التفسير العلمي وسيلة لغاية: هي الإعجاز العلمي.
والثاني: أن القرآن حجة الله على الإنس والجن أجمعين، وجزء كبير من الثقلين من غير المسلمين، وغير المسلم لا يقتنع بصدق النبوة بمجرد ورود بعض الإشارات العلمية في الآيات القرآنية التي يجتهد المفسرون في استخدامها لإيضاح المعنى وهو ما يُسمَّى التفسير العلمي.
إنما يُحتج عليه بما يثبت قطعًا استحالة معرفة البشر له وقت نزول القرآن، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يكشف الله للناس بعد ذلك من حقائق العلم التجريبي ما يكون مذكورًا في القرآن فهذا هو الإعجاز العلمي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
الحواشي:
(1) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (12/406) ولسان العرب لابن منظور (5/55).
(2) انظر: جامع البيان للطبري (19/12).
(3) انظر: أصول في التفسير للشيخ محمد العثيمين (ص:25).
(4) انظر: التسهيل لعلوم التنزيل لابن جُزي الكلبي (1/6).
(5) انظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/26).
(6) انظر: البرهان في علوم القرآن للزركشي (1/13).
(7) انظر: البرهان في علوم القرآن (2/148).
(8) انظر: تفسير ابن عرفة (1/59).
(9) انظر: مناهل العرفان (1/5).
(10) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/39).
(11) انظر: تعريف الدارسين بمناهج المفسرين (ص: 566).
(12) انظر: البيان في إعجاز القرآن (ص:267).
(13) انظر: التفسير معالم حياته ومنهجه اليوم (ص:19).
(14) اللآلي الحسان في علوم القرآن: لموسى لاشين (ص:377).
(15) التفسير والمفسرون: للذهبي (3/140).
(16) انظر: لمحات من علوم القرآن لمحمد لطفي الصباغ (ص:203).
(17) انظر: التفسير العلمي للقرآن لعبد الله الأهدل (ص:15).
(18) انظر: اتجاهات التفسير في العصر الحديث للدكتور عبد المجيد المحتسب (ص: 247).
(19) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر للدكتور فهد الرومي (2/549).
(20) انظر: التفسير العلمي للقرآن في الميزان للدكتور أحمد أبو حجر (ص:72).
(21) انظر: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، للشيخ عبد المجيد الزنداني وآخرين (ص:33).
(22) انظر: من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم للدكتور زغلول النجار (ص:35).
(23) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/547).
(24) التفسير العلمي في الميزان للدكتور أحمد أبو حجر (ص:71).
(25) انظر: السماء في القرآن للدكتور زغلول النجار (ص:3), وآيات الإعجاز العلمي في القرآن (ص:35).
(26) انظر: السماء في القرآن (ص: 3), وآيات الإعجاز العلمي في القرآن (ص:35).
(27) من مثل محمود شاكر في مقدمة الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي (ص: 16) ود. صلاح الخالدي في البيان في إعجاز القرآن (ص:267).
(28) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر (2/601).
(29) انظر: محاضرات في علوم القرآن للدكتور غانم الحمد (ص:249).
(30) وهو الدكتور مساعد الطيار في كتابه مفهوم التفسير والتأويل ص(8).
(31) انظر: النبوات لابن تيمية (2/951).
(32) انظر: النبوات لابن تيمية (2/794).
(33) انظر: النبوات لابن تيمية (1/541).
(34) وهو تعريف عبد المجيد الزنداني في مقابلة له مع مجلة "المسلمون" عدد 40 بتاريخ 26/2/1406ه، وانظر: تأصيل الإعجاز العلمي في القرآن والسنة (ص: 81)، حيث عرّف الإعجاز العلمي بأنه إخبار القرآن الكريم أو السنة النبوية بحقيقة أثبتها العلم التجريبي، وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد