بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الدين في الأصل حث على حسن الخلق كما تواتر هذا الأمر في الكتاب والسنة قال تعالى: (َوقُولُوا لِلنَّاِسُ حْسنًا). وقال تعالى: (َواْلَكاِظِميَن اْلَغْيظََواْلَعافِيَنَعِن النَّاِسَوَّاللهُ يُِحُّب اْلُمْحِسنِيَن). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن). رواه الترمذي.
والدين له معنيان خاص وعام فأما المعنى العام فيشمل كل خضال الخير وأبواب البر وأما المعنى الخاص فيراد به
المواظية على أداء الشعائر الظاهرة والاجتهاد في النوافل واجتناب المحرمات ويتمثل في علاقة العبد بربه وهذا هو
المقصود في هذه المقالة وكثير من الناس يطلق التدين على الشخص المتمسك بمظاهر التدين وهو ما يسمى عرفا
بالمطوع.
ويلتبس على كثير من الناس من العوام والمتدينين ويشكل عليهم مسائل في هذا الباب لما يرونه من تطبيقات وتصرفات غريبة من بعض المنتسبين للدين وقد كان الدين وحسن الخلق متلازمان غالبا على أهل القرون المفضلة ثم ضعف حسن الخلق وقل الإتصاف به عند بعض المتأخرين من أهل الديانة.
وضعف حسن الخلق عند المتمسك بالدين له أسباب وعوامل كثيرة من أهمها مفهومه القاصر للتدين وطبيعة البيئة التي
نشأ فيها ومستوى التربية الخاصة التي تلقاها وضعف العلم الشرعي وقلة النصح والتوجيه في الوسط الذي يعيش فيه.
ويجدر أن نقرر هنا أن الدين أمر والخلق أمر آخر من حيث اتصاف المؤمن بهما فقد يكون المؤمن ذا دين ولكنه ليس له خلق حسن وقد يكون ذا خلق حسن ولكنه ليس له دين وهذان الصنفان كثيران في الناس في هذا الزمن والصنف الثالث من يجمع بين الدين وحسن الخلق وهذا قليل في الناس ويؤكد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). رواه الترمذي. وسئل النبي صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال: (تقوى الله وحسن الخلق). رواه الترمذي.
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما والواقع يشهد لهذا ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم فضل حسن الخلق كفضل المواظية على النوافل فقال: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم) رواه أبوداود.
فليس بالضرورة أن يكون المتدين يحمل خلقا حسنا كما يظنه كثير من العوام وليس بالضرورة أن يكون المقصر في الدين سيئ الخلق كما يظنه كثير من المتدينين فلا تلازم بينهما دائما وإن كان التدين الصحيح يحث على حسن الخلق ويحمل المرء عليه إن كان ذا همة وعزيمة صادقة فقد يكون المؤمن ناسكا صواما قواما ورعا لكنه سيئ العشرة بخيلا عنيفا لحوحا عيابا كثير الشكاية لا يصفح ولا يعرف الإحسان وكذلك العكس قد يكون المؤمن متلبسا بالفسق الظاهر لكنه دمث الخلق حسن العشرة كريم النفس كثير الإحسان متغافل متسامح مع الآخرين صادق اللهجة ولهذا قال الفضيل بن عياض:
(ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله وخف على الناس وأحبوه وإن العابد إذا كان سيئ الخلق ثقل على الناس ومقتوه).
ولما أساء بعض العوام مفهوم العلاقة بين التدين والخلق استقر في أذهانهم أن كل متدين حسن الخلق ثم لما رأوا منه سوء الخلق صاروا يذمون التدين ويعيبون المتدينين وينفرون من التمسك بالسنة وهذا خلل في الفهم وقصور في الرؤية وحيف في الحكم وإسائة إلى الشرع وسوء ظن بالله أن ما بدر من المتدين من سلوك سوء الخلق ليس له ارتباط بالدين ولم يأمره الدين بذلك وإنما هو تقصير من شخصه وضعف وخور في تربية نفسه على الفضائل والذم يعود على نفسه فقط ولا يعم سائر المؤمنين وهو مؤاخذ شرعا ولا تزر وازرة وزر أخرى. ومنهم من يظن أن جميع تصرفات المتدين موافقة للشرع
وينبغي اتباعه عليها وهذا خطأ لأن المتدين إنسان بطيعه فقد يتصرف وفق العادات والرغبات ولا يقصد بذلك التقرب لله وقد تضعف نفسه ويخالف الشرع ويعصي الله ولا يفعل ما أمره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والإقتداء المشروع يجب أن يكون في الأفعال والأقوال التي أمر الشرع بها وحث عليها.
وفي المقابل أساء بعض المتدينين فهم العلاقة بين التدين والخلق فنظروا إلى كل مبتلى بالذنوب الظاهرة بأنه سيئ الخلق
وحكموا عليه بضعف الأمانة والكذب والخداع وهذا اتهام بالظن وظلم في الحكم وقد نهى الشرع عن سوء الظن
بالمسلمين كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). متفق عليه.
وكونه مقصرا في جانب لا يدل على تقصيره في الجوانب الأخرى.
والمؤمن سيئ الخلق ناقص الإيمان ومقصر في شعبة عظيمة من شعب الإيمان وإن كان معه خير كثير ولا يبلغ الدرجات والمنازل العليا في الآخرة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة قالوا بلى يا رسول الله قال أحسنكم خلقا). رواه ابن حبان.
والمتأمل في واقعنا اليوم يجد بعض المتدينين وإن كانوا قلة والحمد لله أسائوا لسمعة الدين عند العامة واشتهر عنهم الكذب والمراوغة وإخلاف المواعيد في سبيل أكل أموال الناس بالباطل عن طريق المساهمات العقارية وإدارة المحافظ وغيرها.
ومنهم من يتظاهر بقول الحق وإظهار العدل إذا كانت القضية والخصومة لا تتصل بمصلحته أما إذا كانت القضية ضد
ماله أو عشيرته أو جماعته سكت عن بيان الحق وربما تكلم بالباطل وتأول ذلك. ومنهم من يتاجر بالدين ويظهر عليه
الطمع ويجعل الدين مطية له في تحقيق مصالحه ومنافعه ولا يكن همه ومقصده إعلاء كلمة الله فإن كان له في العمل
مصلحة سعى فيه وإن كان هذا العمل والجهد يخلو من المصلحة تركه وأعرض عنه والله مطلع على سريرته.
ومنهم من أورثه المنصب ورتبة العلم الكبر والفخر وازدراء الناس فتراه يخاطب آحاد الناس بعنف ويستخف بحوائجهم ولا يلقي لهم بالا ويحسن خلقه مع أهل الدنيا وأهل الولاية ممن يرجو منهم مصلحة ويؤمل منهم نفعا والله المستعان. ومنهم من يقسو على أهله وولده ويعنف عليهم ويشدد عليهم في ترك المباحات وفعل الفضائل ويحرمهم من مظاهر الحياة الكريمة مع يساره وكثرة ماله فينفر أهله من التدين ويعطيهم انطباع سيئ عن المتدينين.
وقلة من العامة قد ابتلي في قلبه بدسيسة سوء ومقصد خبيث قد أبطن في قلبه بغض أهل الديانة وذمهم ويسعى في الظاهر إلى تتبع سقطاتهم فإن وجدها فرح بها فإذا وقع من متدين سوء خلق أو خيانة أو تعد على حرمة الغير جعل يذم سائر أهل الديانة ويستهزئ بمظاهر السنة وإن وقع نفس السلوك من العوام اعتذر عنهم بالجهل وهذا يدل على مرض قلبه وفساد قصده وسوء ظنه بالله والله يتولى أمره.
ولا يحل للعامي أن يرد الحق ويترك اتباع الشرع والعمل بالسنة لأجل سوء الخلق من بعض المتدينين لأن الواجب عليه
اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا وقد أمر بالدين والخلق وتقصير المتدين على نفسه لا يتعدى إلى غيره.
ولا يصح للعامي أيضا أن يستدل على صحة دين المقصر وصواب طريقته بحسن خلقه لأنه مؤاخذ شرعا على
الإسائة والتقصير في الأوامر والنواهي.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو القدوة الحسنة للمؤمنين يجمع في شخصه الكريم بين وصف التقوى والاجتهاد في النوافل وبين وصف حسن الخلق والإحسان إلى الخلق والعفو والصفح عن المسيئ والتغافل عن هفوات الناس
وكان يغلب عليه الحياء والهيبة والسكينة وهكذا اقتدى به الخلفاء وسائر الصحابة رضي الله عنهم والمؤمن الحق يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق كما يتبعه في التقوى.
وينبغي على المتدين أن يتقي الله ويتفقد خلقه فيما بينه وبين الناس ويربي نفسه على الفضائل ويحاسب نفسه ويستنصح أهل الفضل ويتحقق من عيوبه التي يهديها له خصومه ويجتهد في التخلص من أخلاقه السيئة ويتأمل كثيرا في فضل حسن الخلق ومفاسد سوء الخلق ويعود نفسه على الاعتذار حين الخطأ والتخلص من مظالم الناس ويجب عليه أن يعود نفسه على قول الحق والصدق ولو على نفسه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد