بنو أمية النجباء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

بين الفينة والأخرى يخرج لنا بعض الناس بأمور يثير بها الفتنة، ويخالف بها الحقائق، ويغالط الوقائع، ومن تلك الترهات الطعن في بني أمية ملوك الإسلام العظام وسبهم عن بكرة أبيهم ولعنهم واختلاق الأحاديث والأقوال الشنيعة فيهم، ورميهم بكل قبيحة ورذيلة، وكُلي ظلم وبغي، والكذب عليهم كذبات لا يسترها الليل وإن طال، ولا مغيب الشمس ولو حُرمت الشروق والزوال. وأعظم منه تفسير القرآن بأهواء وآراء ما أنزل الله بها من سلطان، كتفسير قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) بأنهم بنو أمية!! وزادوا في الافتراء فوضعوا الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم في ذم بني أمية؟! يقول الإمام ابن القيم (ت 751هـ) في [المنار المنيفـ 117]: »وكل حديث في ذم بني أمية فهو كذب، وكل حديث في مدح المنصور والسفاح فهو كذب«. ومعلوم أن من بني أمية خيار هذه الأمة وأبطالها كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص أحد السابقين الأولين وكان خامس خمسة في الإسلام (انظر: سير أعلام النبلاءـ1/260) وأخواه أبان وعمرو واستشهدوا ثلاثتهم يوم أجنادين رضي الله عنهم.

ومنهم معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، وأخوه يزيد بن أبي سفيان ووالدهما أبو سفيان صخر بن حرب وغيرهمـ رضي الله عنهمـ ثم بعدهم ملوك الإسلام وأمراء المؤمنين.

ومعلوم أن خلفاء بني أمية من خيار ملوك المسلمين، ولا أدل على ذلك ولا أظهر، من كثرة فتوحاتهم، وما خصهم الله عز وجل به ويسره على أيديهم، من نشر الإسلام وتمكينه في الأرض، حتى أصبح المسلم عزيزا، ولا تجرؤ أمّةيـ وإن عظمتـ على انتقاص قدره، أو هضم حقه. وعهد بني أمية من خير عهود الإسلام، ففيه انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وانحسر الكفر وكبت. وفيه انتشر العلم والفقه، ودُوًّن الحديث، ودُوًّن التفسير، وعمَّ الرخاء في العالم الإسلامي، حتى بلغ الحال بالمسلمين في بعض عهود بني أمية، ألا يجدوا محتاجا يأخذ زكاة أموالهم، لغنى المسلمين وكفايتهم، على الرغم من اتساع الرقعة وكثرة المسلمين. ويشهد لفضلهمـ على الجملةـ قوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) [رواه البخاري ومسلم].

وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير من عماله في البلدان من بني أمية، وكذا عمال أبي بكر وعمال عمر وعثمان وماتوا وهم عنهم راضون. بل هم بنو عمومة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجتمعون مع النبي صلى الله عليه وسلم في نسب واحد، وجد واحد، فكلهم من قريش وفضل قريش على غيرهم ظاهر. ويشهد لفضل بني أمية على العموم، قول الله تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور)، فالله قد مكن لبني أمية في الأرض، وبدّل خوفهم أمنا، ونصرهم في جهادهم، حتى فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، من (كاشغر) على حدود الصين في الشرق، إلى الأندلس وجنوب فرنسا في الغرب، ومن بحر قزوين في الشمال، إلى المحيط الهندي في الجنوب. فهل بعد هذا النصر نصر؟! وهل بعد هذا التمكين تمكين؟!

وهذه الأمور وغيرها زادت غيظ الحاقدين والمتربصين بالمسلمين، فأخذوا يلفقون الأكاذيب والأباطيل، محاولين تشويه عصر بني أمية، ونشروها بين الناس، خاصة عندما اشتد عود دعوة العباسيين في آخر عهد الدولة الأموية. وهكذا استمرت هذه الحملة بل الحملات، حتى بعد سقوط الدولة الأموية. وكان ممن يروج هذه الشائعات أهل البدع بعمومهم، فقد أقضَّت هذه الدولة الفتيَّةُ مضاجعهم، وكسرت شوكتهم، وأبطلت شبههم، كما أقضَّت مضاجع إخوانهم من الروم والفرس وسائر الكافرين. يعاونهم في ذلك كل طوائف الضّلال، من منافقين أبطنوا الكفر، وأظهروا الإسلام خوفا من المسلمين، ومن مبتدعة كرهوا ما كانت عليه الدولة الأموية من نشر السنة، والعقيدة الصحيحة ومحاربة البدع. إن الدولة الأموية التي فتحت أوروبا والأندلس، ووصلت إلى جنوب فرنسا، هذه الدولة لا يمكن أن تسلم من أيدي المستشرقين الذين أبغضوها، لأنها أدخلت الإسلام في أوروبا. بل بعض الجهال تأثروا ببعض الدعوات التي أطلقها الحاقدون في بني أمية، فعيَّر بعضهم بني أمية بأنهم عادوا الإسلام في بداية عهده! وأنهم لم يسلموا إلا في أواخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. أبناء الطلقاء يقول الدكتور عبد الشافي بن محمد عبد اللطيفـ أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهرـ في كتابه (العالم الإسلامي في العصر الأموي) ص(بـد) راداً على أولئك الجهال وغيرهم: (لئن كان بعض الأمويين عادى الإسلام في البداية، وتأخر إسلامهم إلا أنهم لما أسلموا عام الفتح، أظهروا من حسن البلاء في الفتوحات، وقاموا بأدوار بارزة في رفع راية التوحيد، وأبدوا من الحب لدين الله، والجهاد في سبيله، ما لفت إليهم الأنظار، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسند إلى كثير منهم أجل الأعمال وأخطرها، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون الثلاثة من بعده. ولكن على الرغم من ذلك كله، فإن بعض الكتاب والمؤرخين، سواء ممن اندفعوا وراء رغبة العباسيين، والتقرب إليهم بالإساءة إلى الأمويين، أو ممن سيطر عليهم الهوى، وأعماهم التعصب المذهبي لم يستطيعوا التخلص من نظرتهم إليهم قبل إسلامهم، فراحوا يعيرونهم بأنهم (الطلقاء وأبناء الطلقاء!) ونسوا أن الإسلام يجُبّ ما قبله، بل وصل ببعضهم إلى حد اتهامهم بالكفر).

ثم قال الدكتور عبد الشافي كذلك في ص(7ـ8) من كتابه المذكور: »ومع أن الجميع أسلموا بعد فتح مكة، وحَسُن إسلامهم، وأبلوا بلاء حسنا في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الله، إلا أن بعض الناس نسي كل عداوات قريش للرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر إلا عداء بني أمية!! وكأنهم وحدهم الذين وقفوا هذا الموقف!! ومع أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، إلا أن بعض ذوي الأهواء، لا يريد أن يفهم ذلك، ولا يكفون عن ذكر المواقف السيئة لبني أمية، التي كانت قبل إسلامهم، وكأن القوم ما أسلموا!! وما جاهدوا في الله حق جهاده!! حتى إن هؤلاء المدعين لتأصيل العداوة بين البيتين (بني هاشم وبني أمية) قديما، نسوا أن بعض بني أمية، كانوا من السابقين إليه من بني هاشم، فقد كان عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، من السابقين إلى الإسلام، وكذلك كان أبناء سعيد بن العاص: خالد بن سعيد، وعمرو بن سعيد، من السابقين إلى الإسلام، فقد أسلم خالد بن سعيد بن العاص وكان خامسا في الإسلام كما تقول ابنته أم خالد: »كان أبي خامسا في الإسلامـ أي أسلم بعد أربعة سبقوه فقطـ وهاجر إلى أرض الحبشة، وأقام بها عشر سنين، وولدت أنا بها«. وكذلك أسلم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وهاجر الهجرتين، ثم لحق بهما أخوهما، أبان بن سعيد [السير للذهبيـ 1/261]، وكذلك خالد وأبان ابنا سعيد بن العاص، من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم. لكن على الرغم من إسلام هؤلاء الرجال من بني أمية، منذ البداية، وتضحياتهم وهجرتهم إلى الحبشة، وعلى الرغم من إسلام جميع بني أمية عند فتح مكة، وترحيب الرسول بهم، وفرحة بإسلامهم، والاعتماد عليهم في جلائل الأعمالـ كما سنذكره بعد قليلـ إلا أن كل ذلك لم يشفع عند أصحاب الأهواء، حتى الكلمة الطيبة، التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في معرض العفو العام عنهم وفي اليوم الذي سماه يوم بر ووفاء، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) حتى هذه الكلمات، جعل بعض الناس منها، سُبَّة في جبين بني أمية وحدهم! وجعلوا يعيرونهم بأنهم الطلقاء، وأبناء الطلقاء! ولم يفهموا أن هؤلاء الطلقاء وأبناءهم، قد أسلموا، وحسن إسلامهم، وكانت له مواقف مشهودة في نصرة الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعده في الفتوحات في عهد خلفائه الراشدين.. ثم قال الدكتور عبد الشافي ص (9): (فتعيير الأمويين بأنهم الطلقاء، وأبناء الطلقاء، يكشف عن الحقد الدفين، عند بعض الغلاة... فبنو أمية يدخلون في جملة مسلمة الفتح، الذين وعدهم الله بالحسنى في قوله تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير).

الله سبحانه وتعالى يعدهم بالحسنى، جزاء قتالهم وجهادهم، حتى مع تأخر إسلامهم، رحمة منه سبحانه وتعالى. ولكن بعض أصحاب الأهواء من المؤرخين، يأبى إلا أن يرميهم بالكفر، نعيذ أنفسنا وإياهم بالله من ذلك). الأمويون في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكذلك الأمر عند الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد استخلف جماعة منهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنةـ 7/192): »وقد استعملهم أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه«. قلت: أمَّر أبو بكر خالد بن سعيد على بعض الجيوش في غزو الشام [السيرـ 1/260] ويزيد بن أبي سفيان جعله الصديق أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم لغزو الروم [السيرـ 1/329]. قال الدكتور عبد الشافي في كتابه السابق (12ـ13): (لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبويع أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة، فسار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، في استعمال بني أمية، والاستعانة بهم في جلائل الأعمال. وقد استجابوا للصديق، ولكنهم فضلوا الجهاد في سبيل الله على الأعمال الإدارية، فاشتركوا في معارك الإسلام الكبرى، في عهدي الصديق والفاروق، سواء في حروب الردة، أو في معارك الفتوح في الشام وفارس..). ثم ذكر أمثلة ذلك، وعزاها لبعض كتب التاريخ والسير، ثم قال ص (14) : (وهكذا استمر الأمويون يعملون في عهد أبي بكر، مجاهدين في سبيل الله مفضلين ميادين القتال على الأعمال الإدارية، ولو كانوا يبحثون عن المناصب، والجاه والمال، لقعدوا في ولاياتهم، وأعمالهم الإدارية، كما طلب منهم أبو بكر). الأمويون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما توفي الصديقـ رضي الله عنهـ في سنة 13هـ وبويع الفاروق بالخلافة سار على نهج صاحبيه في استعمال بني أمية، والثقة بهم فلم يعزل أحدا منهم من عمل، ولم يجد على أحد منهم مأخذا، والكل يعرف صرامة عمر في مثل هذه الأمور وتحريه في أمر ولاته وعماله، وتقصيه أعمالهم وأخبارهم ومحاسبتهم بكل دقة وحزم، فاستمرارهم في عهده يدل في أمانتهم وكفايتهم، فقد بقي يزيد بن أبي سفيان واليا على دمشق كما زاد عمر في عمل معاوية بالشام، فقد ضم إليه ولاية حمص فوق ما كان يتولاه من الأعمال. وهكذا استمر في خلافة الفاروق، وكانوا من خيرة عماله، ولا يعرف عنه أنه عزل أحدا منهم رضي الله عنه.

الفتوحات في عهد بني أمية بعد أن تم الصلح بين الحسن بن علي، وبين معاوية بن أبي سفيانـ رضي الله عنهم، وبايع الحسن معاويةـ وذلك عام (41هـ)، فكان لأهل السنة عام الجماعة، وكان لآخرين عام الفرقةـ: انطلقت جيوش الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، غازية في سبيل الله، ففتحت «سوسة» و«جلولا» و «فزان» و«قصوركوار» و«خاور» و«غبرامس» و«ميلة» و«تلمسان» في بلاد المغرب الإسلامي، وغيرها. ثم لما وافت المنية خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين وخالهم معاوية بن أبي سفيانـ رضي الله عنهماـ سنة (60هـ) تولى ابنه يزيد، ومع ما قيل فيه حقا وباطلا، إلا أنه كان شجاعا، ذا همة علًيَّة، ونفس أبيَّة، تتطلع نفسه للقتال، فاستمر في إعداد الجيوش للجهاد، وإرسال الكتائب تلو الكتائب، ففتح الله للمسلمين في عهده «المنستير» و«الزاب» وتيهرت و «طنجة» وغيرها إلى المحيط الأطلسي. ثم توالت الفتوحات، واستمرت في سائر عهود خلفاء بني أمية، حتى بلغت الفتوحات في عهدهم أقصى حد استطاعه المسلمون تقريبا، حتى أن خلفاء بني العباس، لم يستطيعوا زيادة تلك الفتوحاتـ مع حرصهم على ذلكـ زيادة تذكر، بجانب فتوحات الأمويين، فاقتصر العباسيون على حماية الثغور، والمحافظة على هذه الرقعة العظيمة، التي بلغت حدود الصين شرقا، والأندلس وجنوب فرنسا غربا، وبحر قزوين شمالا، والمحيط الهندي جنوبا. بل ربما لو سلمت دولتهم من ثورات الثائرين هنا وهناك، والدعوات السياسية السريةـ بعد استقرار الأمر لبني أمية بعد وفاة يزيدـ التي أشغلتها عن الجهاد والفتوحات، وأضعفت التفاف الناس عليها، لكان قد عمَّ الإسلام الأرض قاطبة. وغالب تلك الثورات كانت ثورات (....) لم تظفر من الدولة الأموية بشيء أكثر من إشغالها عن الجهاد والفتوحات، وأعظم به من ظفر، مما يدل على أن وراء الأمر مكيدة! وغالب أولئك الثائرين يطلبون لأنفسهم، ما يحرمونه على غيرهم! فيطلبون ملك الأب والجد! ويحرمون على الأمويين توارث الخلافة والحكم، إذ أنه مخالف لحقيقة الخلافة!! فحل لهم، ما حرم على غيرهم. وإن كان بعض أولئك صالحا، إلا أن أقل أحواله أنه مستدرج!! قال الدكتور عبد الشافي (587): «أما أبرز أمجاد الأمويين الباقية على الزمن، فهي جهودهم في ميدان الفتوحات الإسلامية، فرغم المصاعب الجمة التي كانت تعترض طريقهم، والقوى العديدة المعادية لهم، والتي كانت تشدهم إلى الوراء، فقد نفذوا برنامجا رائعا للفتوحات، ورفعوا راية الإسلام، ومدوا حدود العالم الإسلامي، من حدود «الصين» في الشرق، إلى «الأندلس»، و«جنوب فرنسا» في الغرب، ومن «بحر قزوين» في الشمال، حتى «المحيط الهندي» في الجنوب. ولم يكن هذا الفتح العظيم، فتحا عسكريا ليبسط النفوذ السياسي، واستغلال خيرات الشعوب، كما يدّعي بعض أعداء الإسلام، وإنما كان فتحا دينيا وحضاريا، حيث عمل الأمويون بجد واجتهاد على نشر الإسلام في تلك الرقعة الهائلة من الأرض، وطبقوا منهجا سياسيا في معاملة أبناء البلاد المفتوحة، هيأهم لقبول الإسلام ديناً، حيث عاملوهم معاملة حسنى في جملتها، واحترموا عهودهم ومواثيقهم معهم، وأشركوا في إدارة بلادهم، فأقبلوا على اعتناق الإسلام عن اقتناع ورضا. وبذلك تكون في العصر الأموي، عالم إسلامي واحد، على هذه الرقعة الكبيرة من الأرض، أخذ يشق طريقه تدريجيا نحو التشابه والتماثل في العادات والتقاليد والأخلاق، ومعاملات الحياة. وأخذت أممه وشعوبه، تنسلخ من ماضيها كله، وتنصهر في بوتقة الإسلام، الذي حقق لها العزة والكرامة والحرية والمساواة، مكونة الأمة الإسلامية) أ هـ. العلم والسنة في عهد بني أمية قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنةـ 347/8ـ239): «وبنو أمية كان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم. وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الأمر عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش»، ولفظ البخاري: «اثني عشر أميرا». وهكذا كان، فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة، معاوية، وابنه يزيد، ثم عبد الملك وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام النقص ما هو باق إلى الآن، فإن بنو أمية تولوا على جميع أرض الإسلام، وكانت الدولة في زمنهم عزيزة، والخليفة يُدعى باسمه عبد الملك وسليمان، لا يعرفون عضد الدولة، ولا عز الدين، وبهاء الدين، وفلان الدين، وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس، وفي المسجد يعقد الرايات، ويؤمر الأمراء، وإنما يسكن داره، ولا يسكنون الحصون، ولا يحتجبون عن الرعية. وكان من أسباب ذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام في القرون المفضلة، قرن الصحابة والتابعين، وتابعيهم أ هـ.

أسباب كثرة الافتراء على بني أمية أما سبب كثرة الافتراءات على الأمويين، فقد بينه الدكتور عبد الشافي في كتابه السابق ص (أـجـ) من المقدمة، في معرض كلامه عن سبب تأليفه كتابه ذلك حيث قال: «ولقد كان الدافع لهذا العمل، أن تلك الحقبة من تاريخ المسلمين، لا تزال في حاجة إلى دراسة واعية متأنية، يكون رائدها البحث عن الحقيقة التاريخية المجردة، مستقاة من أوثق مصادرها، وإلى كلمة حيادية منصفة، تقوم على تحليل الروايات، ومقارنة الحوادث، واستنطاق النصوص التاريخية، ذلك لأن معظم الكتابات المعاصرةـ وهي كثيرةـ التي تناولت هذا العصر، اتخذت موقفا معاديا للأمويين، معتمدة في ذلك على روايات خصومهم، أو آراء ذوي الهوى والميول من المؤرخين، فجاء تاريخ خلفائهم وولاتهم مشوها، يشوبه كثير من الزيف والتحريف، والبعد عن حقائق التاريخ، وقد تضافرت عدة عوامل أسهمت في ذلك التشويه، وصبغت عصر بني أمية بألوان قاتمة مظلمة، منها:

1ـ أن معظم الأمويين، وقفوا من الرسالة المحمدية موقف العداء المطلق، وحملوا لواء معارضتها، وشن الحرب ضدها أكثر من عشرين عاما، ولم يدخلوا الإسلام إلا عند فتح مكة سنة (8 هـ). ومع أنهم أسلموا، وحسُن إسلامهم، إلا أن بعض خصومهم، استغلوا هذا الموقف، واتخذوا منه ذريعة للنيل منهم، والتشهير بهم.

2ـ أن بني أمية دخلوا في صراع سياسي مع آل البيت، منذ مقتل عثمانـ رضي الله عنهـ فمالت عواطف كثير من المسلمين إلى آل البيت، نظرا لمكانتهم في نفوس الناس. وعمق هذا الشعور، ما تعرض له بعض أفراد آل البيت من المآسي، مما خلق شعورا يكاد يكون عاما، بالكراهية للأمويين، حيث لم يكن من السهل على أي مسلم، مهما كان مذهبه واتجاهه السياسي، أن يرضى عن حادث مقتل الحسينـ رضي الله عنهـ ذلك الحادث الذي شغل حيزا كبيرا في كتب المؤرخين، وأساء إلى سمعة الدولة الأموية.

3ـ ما وقع فيه بعض خلفاء وولاة بني أمية من أخطاء جسيمة

4ـ كثرة أعداء بني أمية، من الخوارج، ومن الحاقدين عليهم، والطامعين في الحكم، مثل المختار الثقفي، وابن الأشعث، وابن المهلب وغيرهم، مما اضطر الأمويين إلى الدخول معهم في معارك طاحنة، والتنكيل بهم. وفوق ذلك الموالي من الفرس، الذين لم ينسوا زوال دولتهم على أيدي العرب، فصبوا جام غضبهم على الأمويين، واتهموهم بالتعصب ضدهم. تجمعت كل هذه العناصر الموتورة، وكان لكل منها، شعراء وخطباء، ونقلة للأخبار ورواة، وراحت تبث الشائعات في جوانب العالم الإسلامي، وتضخم الأخطاء الصغيرة، وتفتعل الأكاذيب، وتلفق الروايات عن العصر الأموي ورجاله. كما شارك دعاة بني العباسـ إبان المرحلة السرية لدعوتهم، والتحضير للثورة على الدولة الأمويةـ في هذا التيار، وأخذوا يركزون على تشويه سمعة الخلفاء والولاة، ليخلقوا رأيا عاما معاديا للدولة، وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا.

5ـ ظلت هذه الأخبار والشائعات، يتردد صداها على ألسنة الناس، حتى بدأ عصر التدوين، فدون المؤرخون كل ما وصل إلى سمعهم، وسواء أكان حقا أم باطلا. وكان من سوء حظ الأمويين، أن تاريخهم دُوًّن في عصر خصومهم العباسيين. وقد لعبت الخصومةـ التي بلغت حد استئصال شأفة الأمويين، ونبش قبورهمـ دورها في تشويه هذا التاريخ، وطمس معالمه. لقد أدت تلك العوامل مجتمعة، إلى تشويه كثير من جوانب التاريخ السياسي لعصر بني أمية، وتزييف عديد من حقائقه، وتلفيق الشائعات والأباطيل، حول خلفائه وولاته» أ هـ.

وقال الدكتور محمد السيد الوكيل، في مقدمة كتابه «الأمويون بين الشرق والغرب» (5/1ـ6): (لم تكن الدولة الأموية، نشازا في العالم الإسلامي، كما يدعي بعض المستغربين. ولم تكن حدا فاصلا بين نظام الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الرشيدة، وبين النظام الذي قامت على أساسه، كما يزعم بعض المتقولين! الذين يروجون لدعوة كاذبة، بأن الدولة الإسلامية، لم تكن إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين! وإنما كانت دولة إسلامية أصيلة، وإن حدث فيها بعض التجاوزات، التي لا تعيبها حقيقة كدولة، وإنما تؤخذ على بعض الخلفاء الذين حصل منهم هذه التجاوزات. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هؤلاء المتجاوزين بشر يقع منهم الخطأ، كما يقع من غيرهم، لارتفع هذا اللوم العنيف، الذي يوجه إليهم. نعم إن كذبة الأمير بلقاء مشهورة، وخطأه ليس كخطأ العامة، ولكنه ما دام غير معصوم، فالخطأ حاصل لا محالة، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقرر تلك الحقيقة حين يقول: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». على أننا ينبغي أن نعلم أن كثيرا من التهم التي ألصقت بالخلفاء، وبخاصة بني أمية، لم تثبت صحتها، وإنما كانت من وضع أعدائهم....).

ثم قال:(إن الذين استباحوا لأنفسهم الكذب، لا يتورعون عن إلصاق التهم بغيرهم، ولا يكفون عن تشويه حياة أعدائهم. ولست أريد من رواء ذلك تبرئة خلفاء بني أمية من كل ما ينسب إليهم، ولكني أريد توضيح حقائق لا ينبغي أن تخفى على الباحث، وهي أن كثيرا مما وجه للخلفاء من التهم، زيف لم يستطع أحد إثباته بطريق يمكن التسليم به).

ثم قال الدكتور الوكيل في ص(8ـ9): (إن الدولة الأموية التي فتحت بلاد الهند والسند، حتى وصلت حدود الصين شرقا، وواصلت فتوحاتها في المغرب العربي، بل وجاوزته إلى أوروبا، حتى فتحت الأندلس، ووصلت جنوب فرنسا، هذه الدولة، لا يمكن أن تسلم من ألسنة المستشرقين والمستغربين على حد سواء، لأن هذه الفتوحات المذهلة، أورثت الأعداء حقدا لم يستطيعوا إخفاءه، ولم يقدروا على تجاوزه، بل ظلوا يجترونه قرونا طويلة، حتى واتتهم الفرصة، بإصابة الدولة الإسلامية بالشيخوخة، التي تصيب الأمم دائما من غير تفريق، فانقضوا عليها وهي تحتضر، ليأخذوا منها ثأرهم، وهي على فراش الموت. ومهما قال الحاقدون عن الأمويين، ومهما أثاروا الزوابع والعواصف من حولهم، فإن تاريخهم حقبة مشرقة من أحقاب التاريخ الفذ. وسيرى الدارس لهذه الحقبة ما نشروه من الحضارة، وما خلفوه وراءهم من النظم، وما أنجبوا من القيادات، التي ساقت جيوشهم من نصر إلى نصر، حتى دان لهم أكثر من نصف الأرض المعروفة في تلك الفترة من الزمان. وإذا تركنا الأمويين في الشرق، لنلقي نظرة على دولتهم في الغرب، نرى ما لم يخطر لأحد على بال في تلك الفترة، نرى حضارة في العمران، في القصور الرائعة، والمساجد المبهرة، نرى الحدائق في البيوت والميادين، نرى الشوارع المرصوفة والأسواق العامرة) انتهى المقصود من كلام الدكتور. صقر قريش ويبقى بنو أمية رغم الإبادة! بعد أن قام بنو العباس بإبادة جماعية لبني أمية، تفلت بعض الأمويين وفروا هاربين، وكان من الأمويين الفارينـ رغم الأمان الذي بذله له أعوان العباسيينـ عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك المعروف بعبد الرحمن الداخل «صقر قريش»، لقد قطع النهر سباحة وانتهز من العباسيين غفلتهم فجمع الأعوان وجيش الجيوش وذهب إلى الأندلس، وغامر مغامرات عجيبة غريبة عنيفة حتى وصل إلى سدة الحكم، وأعاد الدولة الأموية من جديد، ولكن في الغرب لا الشرق. هكذا قامت دولة الأمويين في الغرب أقامها رجل واحد منهم. قال أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي لبعض جلسائه: أخبروني من صقر قريش من الملوك؟ فقال بعضهم: ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل، وأباد الأعداء!! قال: ما قلتم شيئا! وقال بعضهم: فعبد الملك بن مروان. قال: لا.. فقالوا: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي عبر البحار، وقطع القفار، ودخل بلدا أعجميا، منفردا بنفسه، فمصّر الأمصار، وجند الأجناد، ودوّن الدواوين، وأقام ملكا عظيما بعد انقطاعه بحسن تدبره، وشدة شكيمته... إن عبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين وأذل الجبابرة الثائرين. فقالوا جميعا: صدقت يا أمير المؤمنين. تلك شهادة له من عدو، آثر أن يقتل بني أمية، وأن يدفن آثارهم فلا يتكلم بها أحد، ولكن شجاعة عبد الرحمن وحزمه، جعلت الخليفة يشيد به، ويذكر محاسنه مرغما، والفضل ما شهدت به الأعداء. ومن العجائب في هذا أن عبد الرحمن الداخل حكم ثلاثا وثلاثين سنة، ومن بعده من بني أمية عمّروا في حكمهم بخلاف بني العباس. فمنذ دخل عبد الرحمن الأندلس إلى ولاية الناصر مات من بني أمية في المغرب سبعة خلفاء في الوقت الذي مات فيه من بني العباس اثنان وعشرون خليفة، ولله الحكمة البالغة. وعلى الرغم من سعي النصارى في أوروبا على إزالة هذه الدولة الفتية إلا أنها تخرج في كل معركة منهزمة سوى معركة واحدة في عهد عبد الرحمن الناصر. خاتمة: وبعد هذا فمهما قالوا عن الأمويين، ومهما أثاروا الزوابع والعواصف من حولهم، فإن تاريخهم حقبة مشرقة من أحقاب تاريخ أمتنا الفذ. ومما يجدر بنا أن نشير هو أن الطاعنين في بني أمية لم يُعلم عنهم أنهم نصروا الإسلام أو جاهدوا مع المسلمين، أو فتحوا مصرا بالسيف، أو ذكر له تاريخ في كتب السير والمغازي سوى أنهم كانوا يعينون النصارى والكفار على المسلمين ويسعون في سفك دمائهم، ويبقى ذكر بني أمية في سجلات التاريخ شاهدا على بطولتهم ودينهم وشجاعتهم وتمسكهم بالسنة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply