بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن للحج مقاصد شتى وآثارًا عظيمة منها:
1. الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن أبينا إبراهيم وبنائه للبيت إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيمه لحرمة مكة، فيتذكر الحاج حين تردده في المشاعر وأدائه للشعائر تردُّدَ أولئك المطهرين في هذه البقاع الشريفة، فيرتبط في ذهنه سيرهم ويتجذر في قلبه الاقتداء بهم. روى مسلم عن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد، فقال أيُّ واد هذا؟ فقالوا وادي الأزرق، فقال كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم، -فذَكَر من لونه وشَعره شيئًا لم يحفظه داود (ابن أبي هند راوي الحديث عن أبي العالية عن ابن عباس)- واضعًا إصبعيه في أذنيه له جُؤار إلى الله بالتلبية مارًّا بهذا الوادي، قال ثم سرنا حتى أتينا على ثنية، فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا هَرْشى أو لَفْت، فقال: كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته ليف خُلبة مارا بهذا الوادي ملبيًا.
2. أن بياض اللباس ونقاءه إشارة إلى طهارة الباطن ونقاء القلب وبياض الرسالة والمنهج، وفيه طرح للزينة، وإظهار للمسكنة، وتذكر للموت حين يلبس الإحرام ذلكم اللباس الشبيه بالكفن، فكأنه مستعد للقدوم على الله جل وعلا.
3. أن الإحرام من الميقات تعبد ورق لله بطاعته؛ فالتشريع للشارع وحده، وفيه مظهر لوحدة الأمة وانتظامها وضبطها، وما في ذلك من الاجتماع والائتلاف، وإدراك عناية الله وفضله إذ حدد لها كل ما يعنيها في عبادتها، وفي هذا قطع للتردد والوسوسة.
4. تربية على القناعة في اللباس والسكن حين يلبس خرقة من قطعتين فتكفيه، ويسكن في مكان بقدر نومه.
5. أن الحج شعار التوحيد من أول لحظة يتلبس به الحاج: قال جابر بن عبد الله: (ثم أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، وقال أنس في وصفه لإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لبيك عمرة لا رياء فيها ولا سمعة). وفي هذا تربية للنفس على توحيد الله والإخلاص له؛ فإن الحاج يبدأ حجه بالتوحيد، ولا يزال يلبي بالتوحيد، وينتقل من عمل إلى عمل بالتوحيد.
6. أن يشعر الحاج وهو يلبي بترابطه مع سائر المخلوقات؛ إذ تتجاوب معه في عبودية الله وتوحيده، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر حتى تنقطع الأرض من هنا وهنا)، يعني عن يمينه وشماله.
وتحمل التلبية معانيَ عديدةً، منها:
- إجابة بعد إجابة وكررت إيذانا بتكرير الإجابة، فتتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك.
- انقياد لك بعد انقياد، مأخوذة من "لبَّبتُ الرجل" إذا قبضت على تلابيبه، والمعنى: انقدت لك وسَعَت نفسي لك خاضعة ذليلة، كما يُفعل بمن لُبب بردائه وقُبض على تلابيبه.
- أنها مأخوذة من لبَّ بالمكان، إذا أقام به ولزمه، والمعنى أنا مقيم على طاعتك ملازم لها، فتتضمن التزام دوام العبودية.
- أن معناها: حُبًّا لك بعد حب من قولهم: "امرأة لَبًة" إذا كانت محبة لولدها، ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه.
- أنها تتضمن الإخلاص، مأخوذ من لُبِّ الشيءِ، وهو خالصه، ومنه لب الرجل عقله وقلبه.
- أنها تتضمن الاقتراب، مأخوذة من الإلباب وهو الاقتراب، أي اقتراب إليك بعد اقتراب.
- أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها، ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها.
- أنها تشتمل على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله وعلى الاعتراف لله بالنعمة كلها، ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك، وأنت موليها والمنعم بها. وعلى الاعتراف بأن الملك كله لله وحده، فلا ملك على الحقيقية لغيره. (انظر مختصر تهذيب السنن لابن القيم 2/335-339).
7. تذكُّر الآخرة حين يجتمع الناس في صعيد واحد في عرفات وغيرها، ليس بينهم تفاضل ولا تغاير، الكل في هذا البلد سواء، لا فضل لأحد على أحد فيه.
8. أن الحج شعار الوحدة؛ فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم, فلا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك، الغني والفقير، الوجيه والحقير، في ميزانٍ واحد الخ.
فالناس سواسية في الحقوق والواجبات, وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام لا فرق بين الألوان والجنسيات وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر، وحدة في الشعائر, وحدة في المقصد, وحدة في العمل, وحدة في القول، الناس من آدم , وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى،
أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم موقفًا واحدا, بلباس واحد, لمقصد واحد, تحت شعار واحد, يدعون ربا واحدا, ويتبعون نبيًّا واحدا. وأي وحدة أعظم من هذه!، قال تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).
9. إرهاب أهل الكفر والضلال بهذا الاجتماع العظيم للمسلمين؛ فإنهم وإن كانوا مفترقين مختلفين فإن مجرد اجتماعهم على اختلافهم في وقت معين ومكان معين يدل على إمكان اجتماعهم في غيره.
10. بيان منزلة الاجتماع والتآلف بين المسلمين؛ فإن كل إنسان تجده يسافر وحده وأما في سفر الحج فيكون مع الجماعة.
11. التعرف على أحوال المسلمين من المصادر الموثوقة، فيسمع المسلم من أخيه مباشرة.
12. تبادل المنافع والخبرات بين المسلمين عامة.
13. اجتماع أهل الرأي والعلم والحلّ والعقد من جميع البلدان، لتدارُس أحوال المسلمين وحاجاتهم، وتضامنهم وتعاونهم.
14. بيان أن الإسلام دين النظام؛ ففي الحج ترتيب للمناسك والوقت، فلا يتقدم شيء على شيء، كل عمل في مكانه وفي وقته المحدد له.
15. أن فيه مظهرًا من مظاهر تحقيق عبودية الله تعالى والانقياد لأمره في إقامة الحاجّ الشعائر في عرفة ومزدلفة ومنى ورميه للجمار مع تركه وقتئذ للحرم الذي هو أفضلُ من تلك البقاع.
16. تربية النفس على النفقة في وجوه الخير والبعد عن الشح؛ فالحاج يبذل الأموال الكثيرة من أجل الحج، في الراحلة وفي الطريق وفي المشاعر.
17. اكتساب تقوى القلوب وصلاحها بتعظيم شعائر الله، يقول الله تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
18. تربية للأغنياء بترك تميزهم في لباسهم وسكنهم ومساواتهم للفقراء، في اللباس والمشاعر من طواف وسعي ورمي، فتزول هنا الفروق المصطنعة بين البشر، وفي هذا تربية لهم على التواضع، وإدراك حقارة الدنيا.
19. مداومة الحاج على الطاعة وذكر الله تعالى في أيام الحج وهو ينتقل من مشعر إلى مشعر ومن عمل إلى آخر، وهذا بمثابة دورة سنوية مكثفة في طاعة الله وذكره.
20. ـ تربية النفس على الإحسان إلى الناس فيرشد الضال، ويعلم الجاهل، ويساعد الفقير، ويقف مع العاجز والضعيف.
21. التخلق بالأخلاق الحسنة من الحلم وتحمل الأذى من الخلق؛ فإن الحاج لابد له من أن يتعرض لمزاحمة أو مخاصمة أو غير ذلك، قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
22. التربية على الصبر وتحمل المشقة من حرٍّ وطول طريق وبعد عن الأهل وتردد بين المشاعر وزحام فيها.
23. التدرب على ترك العادات والتقاليد والمألوفات؛ فإن الحاج ملزم بكشف رأسه وترك لباسه. وسيترك ما اعتاده من سكن وطعام وشراب.
24. أن في سعي الحاج بين الصفا والمروة تذكرة أن من أطاع الله وتوكل عليه واعتصم به فإنه لا يضيعه بل يرفع ذكره؛ فهذه هاجر أم إسماعيل عليهما السلام لما قالت لإبراهيم: (آلله أمرك بهذا)؟ قال: (نعم) قالت: (اذهب فلن يضيعنا)، فرفع الله ذكرها وصار الناس يسعون مثلها وفيهم الأنبياء عليهم السلام.
25. تربية النفس على عدم اليأس من روح الله مهما اشتدت الخطوب وعظمت الكروب؛ فإن الله بيده الفرج فهذه أم إسماعيل كاد وليدها أن يَهلِك، وبدأت تركض من جبل إلى آخر تتطلع للفرَج، فأتاها من حيث لا تحتسب؛ إذ نزل الملك فضرب الأرض فخرج ماء زمزم.
26. الشرب من ماء زمزم، وما فيه من شفاء لأمراض القلوب والأبدان.
27. غفران الذنوب: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
28. فتح باب الأمل لأهل المعاصي وتربيتهم على تركها ونبذها في تلك المشاعر؛ إذ يتركون كثيرا من عاداتهم السيئة مُدّةَ الحج وأداء المشاعر.
29. أن يتذكر الحاج أنه في هذه المشاعر في ضيافة الرحمن؛ فاجتماع الحج لم تدع له حكومة ولا هيئة ولا ملك ولا رئيس, إنما دعا إليه رب العالمين، قال تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَفْدُ الله عز وجل ثلاثة الغازي والحاجّ والمعتمر).
30. موالاة المؤمنين وتعظيم المسلم حرمة أخيه المسلم، يتمثل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
31. أن مَوْسم الحج مَوْسم الذي تبرز فيه المفاصلة التامة مع أهل الشرك والكفر ويُحظَر حضورُهم بأيّ وجه كان، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم)، وقال أبو هريرة: (بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين, بعثهم يومَ النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد