عبداللهِ الشهراني.. مسيرةٌ مَرْضيّة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

لقد قضى الشيخ عبدالله الشهراني رحمه الله نحْبَهُ ولم نقضِ نهمتنا منه، فكان درسًا قاسيًا في أولوية إدراك الكِبار قبل تجرّع غُصص رحيلهم!، لقد كنا نستقي من فِكرهِ نميرًا مُختلفًا، فاللهم عوّضنا، وقدِّس روحه في أنهار الجنة.. آمين

لا يُخطئ الناظِر أن الشباب كانوا قيمةً مركزيّة عنده رحمه الله، وقد اقتطع لهم جزءًا كبيرًا من عمره ؛ إيمانًا بهم وبدورهم وثِقلهم، وفي الوقت ذاته كان كبيرًا في أعينهم وقلوبهم، ولعلَّ عدم انقطاعه عن تنمية نفسه معرفيًا، مع احترامه البالِغ لعقولهم وشخوصهم كان سببًا رئيسًا، إضافة إلى ما جمعَ الله لهُ من قوةٍ في عقله وشخصيته وروحه وديانته!

نصحَ لهم، فكان ما يُشير به عليهم هو ما يُشير به على أحد أبنائه من صُلبه، ما رأيتهُ مُطففًا أبدًا!

كان يتوجّع حين يراهم يهرعون إلى ما فيه حرقٌ لطاقاتهم وأعمارهم، وكان يؤذيه أن يراهم يقعون في أخطاءٍ سُبقوا بها، كان يتأذى إلى حد البكاء!

قلبهُ، ومالهُ، ووقته، وجاهُهُ كانت للشباب، علاقته بهم كانت مبادئية لا نفعية، الخاسر الأكبر من موته هم الشباب، لقد كان ركنًا شديدًا يأوون إليه!

تأثيره كان أوسع من شُهرته بمراحل، بل إن الفاصل بينهما جسَّدَ وأكَّدَ أنَّ الشُهرة لا تعني التأثير، وأن ثمَّة مؤثرين كُثُر يعملون في الظِلّ، لقد كانت جنازته مَهيبة شاهدة على أنَّ جاه الرجل في السماء لا يُقاس بأرقام الأرض! ولقد طُلب في برنامج يوتيوبيّ قبل وفاته بأشهر، وألحَّ عليه أحد المهتمين وكان يهدف إلى إظهار الشيخ وتوسيع دائرة النفع بعلمهِ وفِهمهِ، وقال له: ”إن الأعمار تمضي!”، فأجابه الشيخ بأنَّ: ”الأعمار لا تُقاس بهذه الطريقة!.

ربانيّتهُ، وخوفه من مقام الله، ومتانة ديانته، كانت سِمة ظاهرة.. قُبيل موسم حجٍ كانت له محاضرة حول فضائل يوم عرفة، فتحدَّث عن أحوال السابقين في عرفة فأثَّر وتأثَّر، ثم رأيتهُ بعدها بأيامٍ في المشهد –في عرفة–، فكان ممن يقول ويفعل!، كان وجههُ يومئذ شاحبًا مُنتقعًا، وكانت له حال من التضرّع والافتقار مُختلفة .

في حجّةِ وداعهِ كان يُردد :

أذَبتُ خطاياي في زمزم.. ولبيتُ بالقلب قبل الفَمِ

وطفتُ وفي أضلعي حرقةٌ.. تُسَبِّحُ لله عبرَ الدمِ

وقبَّلتُ ما قَبَّلَ المصطفى.. سلامٌ على ذلك المبسمِ!

تحدَّث يومًا عن (فقه المراجعات والتراجعات)، حتى إذا بلغَ حديثهُ أسباب التراجعات، فكان أولها: رِقَّةُ الديانة، ثم أسهب وأطنب وأكَّد، حتى لمستُ في كلامه التجربة العريضة حول مركزّية هذا السبب في كثيرٍ من الزلل الحاصل في صفوف السُراة، ولمستُ انعكاس تدينٍ متين في قلبه، فما كان ليفيض بتلك المعاني الإيمانية لولا ثباتها في فؤادهِ؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه! بل أبعد من ذلك ؛ فإذا تحدَّث في شأنٍ إداريّ، فإنه لا بد وأن يعجنهُ بحديثٍ إيماني، كان يؤكد على أن القيم الشرعيّة كالإخلاص وبقية الأعمال القلبية، والتوفيق الذي لا يُستوهب إلا من الله بالافتقار إليه، والاستعانة بقيام الليل على الأعباء والمهام… وغيرها، لا تَسقُط في ظلِّ مأسسة الأعمال الخيريّة وتطويرها، وقلَّما سمعتُ حديثًا من هذا النوع!

مِن تجسِّد فقهه وزهده في آنٍ، أنَّ عينهُ حين كانت على دينهِ لمْ ينْسَ دُنياه، كانت الدنيا في يده يتحكم بها، لا في قلبه تتحكم به!

كان شديد التوقير للعلم وأهله، ولم يفتر عن طلبه، وقد شهدتهُ وهو في أواخر العِقد الخامس من عمره يسأل معالي الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير مسائل حديثيّة، ورأيته حاضرًا في درسٍ فجريّ يُقيّد في دفتره ويدوّن .

كانت الأسابيع الأخيرة من حياته مُختلفة عما عهدناه عليه، بدأت تتغير ملامح شخصيته، اقترب أكثر مِن الهدوء، وأطال الصَمت.. أشياء تتغيّر لم نُحسِن التقاطها ووضعها في سياقها الصحيح، لقد كانَ الصفاء الروحيّ الذي عُرِفَ في المُقبلين على الموت قَبْلهُ!

ظهرَ لنا بعدَ صعوده رحمه الله، أنَّه قبل رحلته الأخيرة إلى بيشة كان قد فوَّض أعماله كاملة، لقد أوكلَ جميع الأعمال التي كانت تحتَ إدارته إلى غيره.. لقد اشتمَّ، فكان يستعد لشيء آخر!

مضى الشيخ، وبقيت مشاريعه والتي تجلَّت أهدافها في : تعبيد القلوب لله عز وجل، ورفع مستوى التديّن في المجتمعات المسلمة، وتنمية الشباب واستثمار أيامهم فيما فيه صلاح أنفسهم ومجتمعاتهم ودينِهم ودُنياهم شاهدة له.. وَعظنا حيًا وميتًا :

وأنتَ اليوم أوعظ منك حيًا!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply