بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عباد الله، إن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن أهل المعاصي من الموحدين الذين تغلب سيئاتهم حسناتهم، واستوجبوا النار بأعمالهم، لا يخلدون في النار كباقي الكفرة والمشركين؛ ولكنهم يمكثون فيها بقدر معاصيهم، ثم يأمر الله تعالى بإخراجهم من النار وإدخالهم الجنة.
روى البخاري عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: "وعزَّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأُخرجنَّ منها مَن قال: لا إله إلا الله".
وروى مسلم عن أبي سعيد الخُدْري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الله أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه،..."
فأهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت حسناتهم، فخفت موازينهم، فهؤلاء يدخلون النار مدداً يعلمها الله تبارك وتعالى، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ويخرج الله برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط.
وأهل النار الخالدون فيها خلودا أبدا فهم الكفرة والمشركون. كما قال الله سبحانه في شأنهم: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ). وقال تعالى: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)
وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا)،
وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ). وغيرها من الآيات.
ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف تبارك وتعالى عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ) ، كما أضافه إلى الخلد، فقال: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
وثبت في الأحاديث الصحيحة أنه إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقوم مؤذن بينهم فيقول يا أهل النار خلود لا موت، ويا أهل الجنة خلود لا موت، ويقال بعد ذبح الموت كما عند البخاري، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم".
ولما كان الكفرة المشركون خالدين في النار فإن النار تعتبر سكنا ومأوى لهم، (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ)، وهي مأواهم تتولى أمرهم: (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ). وهي بئس المهاد: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ).
وللنار دعاة على رأسهم الشيطان الرجيم: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). وأصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، (أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ، وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة، ففرعون مثلاً: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ).
وكل قادة الشر والفساد الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق التوحيد والإيمان فمؤمن آل فرعون ذكر القرآن عنه: (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) ، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به.
ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
وهناك أشخاص بأعيانهم في النار، فمن هؤلاء فرعون موسى، (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) ومنهم: امرأة نوح وامرأة لوط، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ). ومنهم: أبو لهب وامرأته: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ).
ومنهم عمرو بن عامر الخزاعي، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار فقال: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب" رواه البخاري، وقال: "إن أول من سيب السوائب، وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر بن لحي وإني رأيته يجر أمعاءه في النار". رواه البخاري ومسلم.
ولقد أطال القرآن المبين في تبيان جرائم وأعمال الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النار، فمن أعظمها:
الكفر والشرك بالله تبارك وتعالى وتكذيب المرسلين فقد أخبرنا تبارك وتعالى في سورة تبارك أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: (ألم يأتكم نذير)، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين، وما جاؤوا به: (قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ). وقال: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً). وقال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا).
وقد أخبرنا تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ، فيجيبون قائلين: (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ). فعدم القيام بالتكاليف الشرعية وعلى رأسها الصلاة مع التكذيب بيوم الدين من جرائم أهل النار .
وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) فطاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر وصناديد الشرك في مبادئ الضلال والكفر من أسباب الخلود في النار.
وقد وعد الله المنافقين وعداً قطعه على نفسه لا يخلفه: (وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).
والكبر صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ). وفي صحيح مسلم في ذكر احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله لهما، قالت النار: "يدخلني الجبارون والمتكبرون" وفي رواية قالت: "أوثرت بالمتكبرين والجبارين. وقال الله لها: أنت عذابي أعذب بك من أشاء".
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، ... ؟ فأجاب: عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة؛ أي: اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، والاستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات...).
الخطبة الثانية :
عباد الله لقد حف الله عز وجل الجنة وحجبها بالمكاره, وحف النار وحجبها بالشهوات ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حجبت الجنة بالمكاره, وحجبت النار بالشهوات", ولمسلم: "حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات" ، والطغيان وإيثار الحياة الدنيا وشهواتها من موجبات النار كما قال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى).
قال تعالى: ( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى). فحذار من موجبات النار فإن أقدامكم على النار لاتقوى .
هذا وصلوا رحمكم الله على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبدالله ..
8 -7-1440هـ جامع الأميرة موضي السديري بالرياض.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد