بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من المهم لدى طالب العلم -خاصة علم الفقه- وهو يبحث في مسألة خلافية: أن يعرف كيف نشأ هذا القول الذي خالف به صاحبه المعتمد من قول فقهاء مذهبه؟
فقد يكون صاحبه تأثر بشيخه الذي تفقه على مذهب آخر، وقد يكون اجتهد في دراسة أدلة المسألة النقلية فرأى رجحان القول الذي لم يأخذ به إمام مذهبه... إلخ هذه الأسباب.
ومن لطيف ما وقفت عليه أن ينشأ قول في المذهب بسبب لفظة زيدت سهوا في كتاب معتمد في المذهب، فينقله من بعده على أنه قول آخر، ويكون أصل نشوئه من هذه اللفظة المزيدة سهوا.
ومن الأمثلة على ذلك: مسألة ابتلاع المصلي ما بين أسنانه من الطعام أثناء صلاته.
وهذه المسألة مما اختلف فيه قول صاحب الإقناع عن صاحب المنتهى.
فذهب الفتوحي في المنتهى أنها لا تبطل الصلاة به مطلقا ولو لم يجر به ريق حيث قال (ولا ببلع ما بين أسنانه بلا مضغ ولو لم يجر به ريق) (٦٥/١) والمراد: لو أخرجه من بين أسنانه وكان له جرم واضح فابتلعه قصدا فلا يؤثر على صلاته )وذهب الحجاوي في الإقناع أنها لا تبطل به الصلاة إن جرى به ريق حيث قال (ولا بأس ببلع ما بقى في فيه أو بين أسنانه من بقايا الطعام بلا مضغ مما يجري به ريقه وهو اليسير، وما لا يجري بريقه بل يجري بنفسه وهو ما له جرم تبطل به) [ينظر: كشاف القناع ٤٧٤/٢]
(يعني إن كان يسيرا ودخل مع الريق لحلقه فلا تبطل، أما إن كان له جرم ولم يجر مع الريق فلا يجوز للمصلي ابتلاعه)
صاحب المنتهى وقبله: العُسكري في المنهج الصحيح (٣١٩/١) والشويكي في التوضيح (٣١٨/١) تابعوا المرداوي في التنقيح ص٩٧، حيث قال (ولا بلع ما بين أسنانه بلا مضغ ولو لم يجر به ريق نصا)
والمنقح تبع ابن مفلح في الفروع (٢٩٧/٢) حيث قال (ولا تبطل بما بين أسنانه بلا مضغ مما لم يجر به ريقه)
أما الحجاوي في الإقناع فقد تبع المجد في شرح الهداية، وهو المفهوم من كلام صحاب الرعاية والإنصاف والمبدع. كما نقله البهوتي في الكشاف (٤٧٤/٢)
قال ابن نصر الله في تعليقه على الفروع (هذا بعيد) ثم نقل كلام المجد في شرح الهداية حيث قال في مسألة ترك سكرة في فيه تذوب ويبتلعها: (أنها تبطل صلاته). ثم قال عقب ذلك: (وكذا إذا اقتلع من بين أسنانه ماله جرم وابتلعه بطلت صلاته. وبه قال الليث، والثوري والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك فيما حكاه الطحاوي: لا تبطل صلاته. إلحاقا له بما يجري به الريق. ولنا أن هذا يمكن لفظه من غير مشقة، فأشبه ما لم يكن بين أسنانه ولذلك أبطلنا به الصوم على أصلنا، وأما ما يجري به الريق من ذلك فإنها لا تبطل به ؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه). انتهى كلام المجد.
ثم قال ابن نصر الله بعده: (وما ذكره المصنف -أي صاحب «الفروع»- يحتاج إلى تحرير، ولعل صوابه (مما یجري به ريق) فتكون لفظة: «لم» زائدة، كما قال في «الرعاية») انتهى كلامه رحمه الله
وكلام ابن نصر الله ليس في المطبوع من حاشيته على الفروع لكن نقله الحجاوي في حاشية التنقيح ص٩٨.
وقد ذكر الشيخ ناصر الميمان وفقه الله في تحقيقه للتوضيح للشويكي خمسة أمور تدل على أن عبارة ابن مفلح (مما لم يجر به ريقه) تحريف تتابع الناس فيه، وأن العبارة الصحيحة هي (مما يجري به الريق)
فتبين أن المنقح ومن تبعه مشوا على هذا القول الذي نشأ بسبب هذه اللفظة المزيدة سهوا من ابن مفلح رحمه الله في الفروع.
وأختم بتنبيهين:
(الأول): ورد في التنقيح: (ولا بلع ما بين أسنانه بلا مضغ ولو لم يجر به ريق نصا)
والحقيقة أن المنصوصة هي مسألة ما جرى به الريق كما ذكره المرداوي في الإنصاف (٢٢/٤) ونبه عليه الحجاوي في حاشية التنقيح ص٩٨
(الثاني) الفتوحي في شرحه لكتابه المنتهى قال: (وقال الحجاوي : وما لا يجري به ريق -وهو ما له جرم- تبطل به) (٢٢٠/٢)
فقوله (ولو لم يجر به ريق) الغرض منه: الرد على الحجاوي كما ذكره الخلوتي في حاشية المنتهى (٣٣٢/١)
وقال الخلوتي أيضا: (ومن هنا تعلم أن ما اشتهر عن الحجاوي أنه اطلع على المنتهى وجعله مسودة للإقناع وزاد عليه فيه ما فيه، نعم كل منهما قد اطلع على كتاب الآخر، بدليل هذه، وبدليل ما في حاشية الحجاوي على التنقيح عند الكلام على قيام الليل في باب صلاة التطوع) انتهى كلامه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد