الأمثال الموضوعية في الحديث النبوي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

المثل نوع من الصور البلاغية البيانية التمثيلية، وقد تكلم العلماء كثيرا، وفصلوا فى تعريف المثل وضربه، وخلاصة القول فيه: أنه يفصل المجمل، ويوضح المبهم، ويقرب المراد للعقل فى تصويره بصورة المحسوس، يقول الأستاذ محمد قطب: "إن الأمثال فى ذاتها جاذبية ليست لغيرها من أنواع التعبير، والناس تحب المثل وتتأثر به أكثر من الصور المباشرة فى التعبير لأن فيه جمالا فنيا زائدا "(1). قال العلماء: "يجتمع فى المثل أربعة لا تجتمع فى غيره من الكلام، إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية"، أما ضرب المثل فله معان عند اللغويين، قال ابن منظور: ضرب مثلا أى: مثل لهم مثلا(2)، وقال مقاتل: ضرب مثلا: أى وصف وبين(3)، وقال البعض: ضرب المثل، وضع الشىء على الشىء، وقيل أيضا: نشره وإذاعته، وقيل: صوغه وإنشاؤه وابتكاره.

واشتمل القرآن الكريم على أمثال عدة، شبهت ومثلت لأصناف عدة من البشر، كالمؤمن والمنافق والكافر، كما شبهت ومثلت للكلمة الطيبة والخبيثة، ومثلت للجنة والنار، وغير ذلك، وأكثر أمثال القرآن الكريم كانت لإثبات الوحدانية لله تعالى فى عظيم خلقه، وبديع صنعه، وأنكرت على الكفار معتقداتهم الشركية والكفرية، ولعل أبرز هذه الأمثال قول الله تعالى: "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب" ( الحج: 73 )،

فهذا المثل يبين ضعف حيلة المشركين ومعبوداتهم من دون الله فى خلق ذبابة، أو استرداد ما يأخذه الذباب بأجنحته حين يقف على طعامهم !!، فالأمثال القرآنية نوع من الهداية الإلهية لحث الناس على الخير، وإبعادهم عن الإثم، ودفعهم إلى الفضيلة، وإبعادهم عن الرذيلة، وقد اعتبر بعض الأئمة الأمثال من علوم القرآن التى ينبغى أن يتعلمها من أراد أن يتعلم تلك العلوم، ومن هؤلاء الإمام الشافعى ـ رحمه الله ـ.

أما المثل النبوى فهو مؤكد للمثل القرآنى، وأهميته تأتى من باب تلك البلاغة، وهذا الإيجاز، وذاك الوضوح الذى تميز به كلام النبى صلى الله عليه وسلم عن كلام سائر الناس، روى مسلم فى صحيحه و الترمذى فى سننه عن أبى هريرة رضى الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لى الغنائم، وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بى النبيون " ، وجوامع الكلم كما قال الجاحظ: " هو الكلام الذى قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونزه عن التكلف ، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمد: {وما أنا من المتكلفين} (ص: 86) " (4) .

وتناول المثل النبوى ما تناوله المثل القرآنى ولكن بصورة مبينة ومفصلة، وهذا يتماشى مع الهدف الأسمى للرسالة المحمدية، قال الله تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون" {النحل: 44}، حيث أنزل الله تعالى الوحى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلفه بتبيينه وتوضيحه وتفصيله بشتى أنواع البيان.

 

وقد تناول الباحثون والمفكرون القرآن الكريم تفسيرا بصورة موضوعية، حيث يتتبع الباحث لفظة من كلمات القرآن الكريم، ثم يـجـمــع الآيات التي ترد فيها اللفظة، أو مشتقاتها من مادتها اللغوية، وبعد جمع الآيات، والإحاطة بتفسيرها، يحاول استنباط دلالات الكلمة من خلال استعمال القرآن الكريم لها، أو يحدد موضوعا ما، تناوله القرآن الكريم فى مواضع عدة، ويتناوله هو بالعرض بالبحث والتدقيق والدراسة والمناقشة والتحليل.

وعلى هذا النسق نحاول جاهدين أن نتدبر المثل النبوى فى موضوع واحد، لنرى أوجه التأكيد والبيان، ولنعرف حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس المفاهيم في الأمة، وحثها على التزام الصراط (2) المستقيم، والتزامها سبيل المؤمنين، وليكن " المؤمن" هو موضوع حديثنا فى المثل النبوى الشريف فى هذه السطور.

وقد استأثر المؤمن فى المثل النبوى بنصيب أكبر، إن لم يكن الأكبر على الإطلاق ـ من تلك الأمثال، لاهتمام النبى صلى الله عليه وسلم بقضية الإيمان، تماما كما اهتم بها القرآن الكريم، فقد ورد لفظ الإيمان بمشتقاته فى القرآن الكريم أكثر من ثمانمائة مرة، وهذا ليس بمستغرب، فالإيمان يلبس صاحبه لباس الطاعة لخالقه، فيأتمر بأمره، و ينتهى عن نهيه.

والمثل النبوى بِشأن المؤمن تعدد وتنوع،، بخلاف الأحاديث التى ذكرت المؤمن، ووصفته، ورغبته، ورهبته ، و حثته على فعل الخير، واجتناب الشرور والآثام ، وهى بالمئات ـ لاشك ـ.

 

نتناول جانبا من تلك الأمثال، لنتعرف على بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم فى ضرب المثل، وكذا لنرى التنوع فى ضرب المثل فى ما يتعلق بـ " المؤمن"، فتارة يتعلق المثل بالفرد، وتارة يجمع المؤمنين فى مثل واحد، وثالثة يتعلق بصفات المؤمن، وغيرها يتعلق بسلوكه، وقد يأتى المثل بصيغة الخبر، ويأتى أحيانا على صيغة السؤال الموجه إلى جمع من الصحابة من باب جذب الانتباه، ومن الأمثال أيضا ما يأتى مقارنا بين حال المؤمنين وغيرهم من المنافقين، ليجعلنا نحس بالفرق الشاسع، والبون الواسع بين الفريقين، وكل ذلك من أجل استخلاص العبر والعظات، والعمل على الرقى الأخلاقى للمؤمن، إذ أن جل الأمثال النبوية تهتم بالأخلاق، التى هى أساس الرسالة المحمدية، روى الإمام أحمد فى المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:  "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق  "، وروى أحمد، والبيهقى، والحاكم وصححه، عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

 

المثل الأول: {{الناصح الأمين}}: عن أبي هريرةـ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه"(5)، و روى أبوداوود في سننه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه" (6).

إن الذى يتدبر هذا الحديث يجد أن النصيحة تجسدت فيه فى ثوب المثل الذى استنبط منه العلماء فوائد شتى تبين كيف يبذل المؤمن النصيحة لأخيه ؟، واختيار المرآة بالذات فى المثل يؤكد لنا عظم هذه الفوائد التى منها:

·       أن المرآة توضح ما بالمستخدم لها والناظر فيها من جمال أو قبح، ولا تبالغ في المدح أو القدح، بل تنقل الصورة كما هى، وكذلك المؤمن للمؤمن، فهو يهدى العيوب إلى أخيه، وإن مدحه لا يفرط فى مدحه، حتى لا يُدخل إلى أخيه العجب والغرور.

·       أن المرآة لا تستحضر معها أحدا، كى تطلعه على عيوب من أمامها، إلا إذا استحضر صاحب المرآة شخصا آخر بجواره، كذلك المؤمن ينصح فى ستر، وفى خفاء لأنه يعلم أن النصيحة على الملأ فضيحة، وكما يقول الشافعى رحمه الله:

        تعمدنى بنصــحك فى انفرادى      وجنبنى النصيحة فى جمـــاعة

        فإن النصح بين الناس نـــوع      من التوبيخ لا أرضى استماعه

        وإن خالفتنى وعصيت قولـــى      فلا تجزع إذا لم تعط طاعــة(7)

·       أن المرآة لا تحفظ الصورة ولا تستدعيها مرة ثانية، كذلك المؤمن لايعير أخاه بذنب مضى أو تاب منه.

·       أن المرآة تشارك من أمامها أفراحه وأحزانه، فيستحيل أن ينظر أحد فى مرآة وهو يبكى فيجد نفسه يضحك، أو يكون مسرورا فيجد نفسه باكيا !!، والمؤمن يشارك أخاه أفراحه وأتراحه.

·       والمرآة لا تكشف سرا، بل تبين الأدران بدون إحداث ولو صوت خفى، وذلك من تمام كيفية نصح المسلم لأخيه.

(3)

·       والإنسان يعرض نفسه على المرآة كل فترة خاصة بعد القيام من نوم أو الذهاب إلى مكان، أو الإتيان من مكان، والمؤمن يطلب النصيحة الصادقة من أخيه بين الحين والحين، ليستقيم حاله، وليظل على جادة الطريق، وليقف على عيوب نفسه فيصلحها، وقد ورد القول عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "رحم الله عبدا أهدى إلىَّ عيوبى"، والمؤمنون مع بعضهم نصحة، والمنافقون غششة.

بهذا يتبين لنا أن اختيار المرآة فى التشبيه للمؤمن ليس من باب العشوائية، وإنما اختيار من أوتى جوامع الكلم، ومنحه الله تعالى حكمة القول والفعل صلى الله عليه وسلم.

 

المثل الثانى: {{العَضُد والساعِد}}: روى البخارى ومسلم فى الصحيحين عن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وزاد البخاري: "وشبك بين أصابعه".

والمؤمن بالنسبة لأخيه المؤمن كهذا البنيان المتماسك الذى استقام وثبت، لمتانة أساسه، ولاكتمال حوائطه وجدرانه، ولوجود سقفه الذى بدونه لا يمكن الحياة أو العيش فيه، وفى الحديث دلالة واضحة على معنى الترابط بين المؤمن وأخيه، والتعاون بينهما، والتناصح فى أمور الدين، وما يباح من أمور الدنيا، وهذا ينطبق على علاقات المؤمنين جميعا بعضهم ببعض، يقول الله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" {المائدة: 2}، وروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. والله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه"، وأكمل النبى صلى الله عليه وسلم الصورة التمثيلية بالتشبيك بين أصابعه، ليتوافق القول مع الفعل وليؤكد كل منهما الأخر، وهذا التمثيل بالحركة كثيرا ما كان يستعمله النبى صلى الله عليه وسلم، لأنه أوقع فى نفس السامع، فالذى ينظر إلى البنيان وصلابته وتماسكه مع بعضه البعض، يدرك تماما أن المؤمن مع أخيه يكون على هذا النسق وهذه الصفة.

إن تطبيق هذا المثل النبوى يمكن أن يشمل جميع أفراد المجتمع، ويشمل بيئاته أيضا، وتخيل معى  أيها القارىء الكريم  لو أن الأسرة المسلمة التزمت هذا الحديث وعملت به، والتزم به العامل فى عمله، والرئيس مع مرءوسيه، والمدرس مع طلابه، فالمجتمع ـ لاشك ـ سيكون كالبنيان المرصوص حقا، لا تزعزع أركانه مشكلة، ولا تفرقه دنيا، ولا يفرقه هوى.

 

المثل الثالث: {{حال المؤمن دنيا وأخرى}}:، روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما، عن كعب بن مالك رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الخامة(8) من الزرع، تفيؤها(9) الريح، تصرعها مرة(10)، وتعدلها أخرى حتى تهيج(11)، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية(12) على أصلها، لا يفيؤها شىء حتى يكون انجعافها(13) مرة واحدة "(14).

ويمثل هذا الحديث حال المؤمن فى الدنيا، حيث يتعرض لأنواع البلاء الذى يلم به مرة بعد مرة، وزمنا بعد زمن، تارة فى نفسه بالمرض والآلام، أو تسلط الظالمين عليه، أو الكيد له، أو حتى مقالة السوء عنه، وتارة فى ماله بكل غرم يصيبه، وتارة فى أهله وولده بشتى الابتلاءات، وهو مع كل هذا ثابت لا ينكسر، قوى الإيمان، يحيطه الله تعالى بعنايته ولطفه، والمثل النبوى شبه البلاء بالريح الذى يلاعب الزرع يمينا ويسارا، لكنه لا يتلفه، بل إن الريح فى غالب أحواله مفيد للزرع، يزيده نموا وصلاحا، ويساعد على دب النشاط فيه، ووصول أشعة الشمس إليه، ويظل هذا حال المؤمن فى الدنيا، حتى يأتى أجله، فإذا لاقى ربه وجد جزاء صبره على بلاء الدنيا، جنة يدخلها بغير حساب، قال الله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" {الزمر: 10}، ويؤكد على عظم الجزاء ما رواه الترمذى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض"، فكل أحوال المؤمن خير، ولا يزال البلاء ينزل بالعبد حتى يقبضه الله تعالى وما عليه ذنب، روى مسلم فى صحيحه عن صهيب بن سنان رضى الله عنه قال: (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"، وروى البخارى فى صحيحه من حديث أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".

"وأما الكافر والمنافق فما أشنع حاله، وما أسوأ عاقبته، يُترك كالبهيمة السائمة، يرتع فى مراتع اللهو، ويخوض فى بؤر الفسق، ويكرع(15) من المشارب الآسنة(16)، فهو غافل عن عاقبة أمره، لا يتأثر لحادث، ولا يرق لموعظة، ولا ينتفع بما يمر عليه من محن وأرزاء، ولا يزال ـ هكذا ـ فى جموده وتبلده، حتى تقرعه قارعة الموت، وتنزل بساحته المنون، فيموت ميتة جاهلية، لا تتبعه إلا الحسرة والندامة وسوء المصير، وما أشبهه فى ذلكم بالأرزة الثابتة فى أرضها، المجذية على أصلها، الصلبة الجذع والساق والفروع، لا تنال منها الزعازع(17)، ولا تؤثر فيها العواصف، ولا تزال هكذا حتى تنقطع من جذورها، فإذا هى هشة ممدودة على الأرض قد فارقها ما كان لها من شموخ وقوة "(18).

ومن حكم الله تعالى أنه يمهل ولا يهمل، ليعلم العاصى أن النعمة إذا رزقها الله تعالى إياه على عصيانه إنما هو استدراج فليحذر، وليسارع إلى التوبة قبل فوات الأوان.

 

المثل الرابع: {{المؤمن كله نفع}}:، روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم (وفى رواية: المؤمن) حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت (وذلك لوجود أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فى المجلس )، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة " . قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا "، وفى رواية "أحب إلى من حمر النعم".          

إن الذى يتدبر هذا المثل النبوى يجد فيه فوائد شتى، فالنبى صلى الله عليه وسلم استخدم فيه أسلوب السؤال، فقد كان ينوع أساليب التربية والتوجيه والتعليم لأصحابه، وذلك أنفع فى وصول المعلومة للسامع، وفيه لفت انتباه السامعين، واستحضار أذهانهم لاستدعاء المعلومة، أو تلقيها ، وتكرر ذلك فى أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كحديث:  " أتدرون من المفلس ؟... "(19)، وكحديث: " أتدرون من المسلم ؟.... "(20) وغير ذلك مما هو على شاكلة تلك الأحاديث.

قال العلماء: وشبه النخلة بالمؤمن أو المسلم في كثرة خيرها, ودوام ظلها, وطيب ثمرها, ووجوده على الدوام, فإنه من حين يطلع ثمرها، لا يزال يؤكل منه حتى ييبس, وبعد أن ييبس، يتخذ منه منافع كثيرة, ومن خشبها، وورقها، وأغصانها, فيستعمل جذوعا، وحطبا، وعصيا، ومخاصر، وحصرا، وحبالا، وأواني، وغير ذلك, ثم آخر شيء منها نواها, وينتفع به علفا للإبل, ثم جمال نباتها, وحسن هيئة ثمرها, فهي منافع كلها, وخير وجمال, كما أن المؤمن خير كله, من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه, ويواظب على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة, وسائر الطاعات, وغير ذلك، فبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرة في جميع أحوالها ؛ وكذلك بركة المؤمن عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته. والنخلة أصلها ثابت وجذورها ضاربة في الأرض؛ والمسلم ثابت في عقيدته. ولا تقتلعها الريح؛ والمسلم الصادق لا تزلزله أعاصير الفتن، ولا ترده عن عقيدته شبهات التشكيك والتضليل. وهي عالية باسقة ؛ وكذلك المسلم يتعالى على النقائص والدناءات، ويترفع عن المعاصي والسيئات. وثمرها طيّب؛ وما يصدر عن المسلم من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب. وإذا ضربت بحجر عادت على ضاربها بأطيب الثمر، وكذا المسلم يقابل الإساءة بالإحسان. ولا يسقط ورقها، وكذلك المؤمن لا تسقط له دعوة ؛ فهو بين ثلاث: فإما أن يستجيب الله له، وأما أن يؤخر إجابته لحكمه يعلمها سبحانه، وإما أن يعوّضه عنها ـ يوم (5) القيامة ـ خيرا منها(21). وأحوال المؤمن كلها نفع، إن تكلم نفع، وإن صمت عندما يقتضى المقام الصمت نفع أيضا، والنخيل فى حركته قد يسقط ثمرة تؤكل، أو يلقح غيره من النخيل بطلعه، وقد يسكن ولا يتحرك للحفاظ على ثمرته ألا تتلف، وعلى جذعه ألا يقع فيَهلك أو يُهلِك. فالخير كثير وموصول فى المؤمن كما هو فى النخلة سواء بسواء.

 

المثل الخامس: {{المؤمنون جسد واحد}}: روى البخارى ومسلم فى صحيحيهما عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، هذا الحديث الشريف الذى برز فى ثوب المثل فيه من المعانى العظيمة ما يصعب حصره فى مقال، لأن فيه حث على تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحضهم على التراحم والتعاضد فى غير إثم ولا مكروه، وهو يبرز ما ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين المؤمنين كافة، ليس فى بلد واحد، بل فى سائر بلاد المسلمين، وأن التقصير فى ذلك يعد من شوائب الإيمان

وضعفه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-: " ولهذا كان المؤمن يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوؤهم ومن لم يكن كذلك لم يكن منهم"(22)، فالمؤمن يجتهد فى أن يطهر قلبه نحو المؤمنين جميعا، يفرح للخير يأتيهم، ويحزن للضر ينزل بهم، ينصر المظلوم منهم، ويقيل عثرة المعسر، ويعين ذا الحاجة الملهوف، يقف مع الضعيف منهم، فالجسد كله يتألم لعضو واحد من أعضائه إذا أصابه ما يؤلمه، وكذلك الأمة جميعا تتألم لألم بلد واحد، إذا أصابه بلاء، أو تعرض لأى اعتداء، روى أبو داوود والنسائى عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، ألا لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلا، ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِه».

وفى الحديث تأكيد عل هذه الأخوة الإيمانية، والتماسك والترابط، فالدم المسلم حرمته واحدة، والعهد الذى يبرمه أحاد المؤمنين لإعطاء الأمان لأحد لا ينقضه ناقض، والبعيد منهم كالقريب، وهم جميعا يد واحدة ضد من يعتدى على الإسلام وأهله.

لقد نوع النبى صلى الله عليه وسلم فى أمثاله التى ضربها للمؤمن بمفرده، وللمؤمنين كأمة واحدة، لنعرف جميل الخلال والفعال، التى هى من سمات المؤمنين، الذين وصفهم الله تعالى بأجمل الأوصاف فى كتابه الكريم، قال تعالى: "إنما المؤمنون إخوة.."{الحجرات:10}، وقوله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"{الأنفال: 2}، وقوله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.." {التوبة:71}، وغير ذلك مما ورد فى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

فلتكن هذه النماذج من الأمثال النبوية دافعا لنا للتزود من الإيمان، والتشبه بخلق سيد الأنام ، "اللَّهُمّ إِنِّا نَسْأَلُكَ إِيمَانًا لاَ يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ نبيك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْد " ........ اللهم آمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الهوامش

     1) أ. محمد قطب / دراسات قرآنية / ص 169.

2) ابن منظور / لسان العرب / ج2 / ص17 / مادة ( ضرب ).

3) محمد بن جرير الطبرى / جامع البيان فى تفسير القرآن / ج1 / ص175 .

4) أبو عثمان الجاحظ / البيان والتبيين / ج 2 ص 17 ـ 18 / تحقيق عبد السلام هارون.

5) أورده ابن وهب في الجامع ، والبيهقي في الشعب 6/113/7645 ، والبخاري في الأدب المفرد 239، وغيرهم ، وله شواهد، تنظر السلسلة الصحيحة للألباني رقم 2 / 596.

6) أبو حامد الغزالى / إحياء علوم الدين بتخريج زين الدين الحافظ العراقى / ج2 / ص182 / طبعة المكتبة التجارية بمصر.

7) محمد بن إدريس الشافعى / ديوان الإمام الشافعى / قافية العين ص45 / طبعة دار الحكمة بدمشق / جمع وترتيب سليمان سليم البواب.

8) الخامة من الزرع: ما كان غضا رطبا من النبات.

9) تفيؤها: بتشديد الياء، يعنى: تميلها يمينا وشمالا.

10) تصرعها: تكاد تلامس الأرض من شدة ميلها.

11) تهيج: يحين وقت نضجها وحصادها.

12) الأرزة المجذية: بفتح الهمزة وسكون الراء هى شجرة الصنوبر.

13) انجعافها: انقلاعها وانكسارها.

14) الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه / كتاب المرضى / ما جاء فى كفارة المرض / بألفاظ متقاربة رقم( 5643 )، ومسلم فى صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم / باب مثل المؤمن كالزرع، والمنافق والكافر كالأرزة بلفظه، رقم(7094)، وورد هذا الحديث بألفاظ متقاربة فى كتب الحديث كمسند أحمد، ومسند البزار، ورواه أبو يعلى، و ابن حبان، الهيثمى والمناوى.

15) يكرع: يشرب حتى الارتواء.

16) الآسنة: الفاسدة الملوثة.

17) الزعازع: الرياح الشديدة.

18) دكتور ياسر محمد شحاتة / الأمثال فى السنة النبوية / ج1 / ص 81 ـ 82 / ط 1422هـ / 2001 م ، وعزاه إلى كتاب ( من روائع الأدب النبوى ) للأستاذ / كامل سلامة / / ط دار الشروق بجدة.

19) أخرجه مسلم فى كتاب البر والصلة، والترمذى فى كتاب صفة القيامة عن أبى هريرة.

20) أخرجه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

21) من كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلانى عند شرحه للحديث ( كتاب العلم )، وكتاب منهاج النووى على شرح صحيح مسلم ( باب: مثل المؤمن مثل النخلة).

22) شيخ الإسلام ابن تيمية / مجموع الفتاوى / ج2 / ص373.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply