بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لم يُسمّ البخاري كتابه بـ: وإنما عنونه بـ(الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله وسننه وأيامه)
ووصفه بالجامع لتنوع موضوعاته "فضائل، أحكام، آداب، تفسير،.."
و (المسند) لاتصال أحاديثه إلى النبي ﷺ.
و (الصحيح) لتوفر شروط الصحة
و(المختصر) لأنه لم يجمع كل الصحيح.
وهذا العنوان يكشف عن طبيعة الكتاب:
فهو كتاب متعلق بـ(أمور رسول الله) وليس بآراء المؤلف.
بشرط أن يكون كل خبر منها (متصلاً) إلى النبي ﷺ، مع عدالة كل راو وضبطه والسلامة من العلة وهذا هو (الصحيح) ثم إن موضوعاته شمولية فهو (جامع) وانتقى الأهم وترك غيره وإن كان صحيحاً لذلك هو (مختصر)
بما أن أحاديث متصلة؛ فكم بين البخاري وبين النبي ﷺ من راو؟
الجواب: الأحاديث متفاوتة، وأعلاها -في كتابه- الثلاثية: أي التي يكون بينه وبين النبي ﷺ فيها ثلاثة أشخاص فقط: (اثنان وصحابي).
وكثير من أسانيده رباعية وخماسية.
حسناً: كيف يتأكد الإمام البخاري أن أسانيده إلى النبي ﷺ صحيحة؟ ألا يجوز أن يكون بعض الرواة (غير ثقة) فيدسّ أحاديث فتروج دون انتباه؟
وإن قلنا إنه ثقة، أفلا يجوز أن يُخطئ بعضهم؟
وهذه الأسئلة هي الأبجديات التي يجيب عنها (أفخم) علم نقدي
-يستحق أن نفاخر به- ألا وهو علم الحديث.
وقد شرحتُ الجواب عن هذه الأسئلة في مقاطع كثيرة مطوّلة، وتحدثتُ -بإسهاب- عن آلية عمل الجهاز النقدي الحديثي.
و يجهل الكثيرون -حتى ممن يدافع عن الحديث ويدرسه- حقيقة الآلية التي يعتمدها أئمة الحديث في الحكم على الرواة، وهي آلية عجيبة، تعتمد على اختبار (الأخبار) التي يرويها الراوي بالإضافة إلى شخصه.
أحياناً يقال في شخص: لا أعرفه، وهو كذاب!
كيف حكم عليه بالكذب إذاً؟ من رواياته!
يظن البعض أن اشتهار الراوي بالعبادة يعني أن المحدثين سيقبلون أحاديثه! وهذه أضحوكة!
كم قالوا في راوٍ (إنه من العباد، وحديثه ضعيف) وقال الإمام مالِك: (أدركت ببلدنا هذا مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون فما كتبت عن أحد منهم حديثا قط؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يحدثون).
إذا كان المحدثون لا يقبلون حديث الراوي لمجرد كونه صاحب عبادة وفضل -ولو كان من أزهد الناس حقا وصدقا- فكيف يروج عليهم من هو متظاهر بالصلاح؟
هناك وسائل نقدية راجعة إلى أمور أخرى لا علاقة لها بصلاح الراوي وفساده.
من أعجب الأمور النقدية عند المحدثين أنهم إن حكموا على الراوي بأنه (عدل: مستقيم دينيا) و (ضابط: مُتقن وحافظ) فإن هذا لا يعني قبول كل أحاديثه، فهو يخضع لاختبارات مقارنة مروياته بمرويات غيره في كل مرة يروي فيها الحديث بالاشتراك، وهذا من أبرز ما عمله الإمام البخاري في صحيح البخاري.
لم يكن البخاري وهو يسمع الأحاديث يسجلها في كتابه الصحيح بمجرد سماعها من شيوخه، بل يُمحص ويتثبت:
ابتداء بفخص مستوى الشيخ في ذاته، فالضعيف يُجتنب،
وإن كان قويا فإنه يقارن حديثه برواية البقية، فإن خالفهم استعمل قوانين الترجيح، فيروي له ما أصاب فيه ويترك عن نفس هذا الشيخ ما أخطأ فيه
لم يكن دور البخاري في صحيحه دور (المخترع) بل دور (المحقق) فإن فهمت هذه، فاعلم أن تحقيقه لم يكن (حدسيا) مجردا، وإنما (علميا)، فإن وعيتها، فاعلم أن هذا (التحقيق العلمي) يعتمد على قوانين (موضوعية) وليست (ذاتية).
ولا نقاش يصلح مع من يتجاهل هذه النقاط أو يجهلها.
وما مضى بالأعلى فهو إشارات ليس إلا،
وهذا مقام لا يوفّى بتغريدات..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد