كتاب الإيمان بين السلف والمتكلمين


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كتاب ”الإيمان بين السلف والمتكلمين“ لأحمد بن عطية الغامدي، في المحصلة هو كتاب عرض قول السلف، ثم قول الجهمية، ثم قول أبي حنيفة، ثم الكرامية، ثم المعتزلة وهكذا، إلى نهاية الكتاب، غالب ما فيه محض اتكاء على النقول.

فيه فوائد، نعم، لكن عليه جملة من المآخذ، منها أن الكاتب حين يدعي أنه يحقق مذهب السلف في أول فصل من كتابه، لا يجدر به أن ينقل عنهم من كتب وسيطة، فضلا عن أن تكون تلك الكتب لمن ليس سلفيا في العقائد، مثل النووي، فالنقل عنه لغاية سرد روايات السلف في الإيمان كان بإفاضة، مع توفر المصادر الأولى عن السلف.

وأما كتاب الإيمان لابن تيمية، فلا يكاد يخلو فصل من النقل عنه، وكأن الكاتب يكتب مذكرة على كتاب الإيمان، وحتى روايات السلف حين كان الواجب أن يؤتى بها من مصادرها الأولى، يجعل الكاتب كتاب ابن تيمية وسيطا في أكثرها، وترى حضور كتاب الإيمان، أكثر من حضور كتب السلف أنفسهم، هذا وعنوان كتابه ”الإيمان بين السلف والمتكلمين“!.

وفي حين يجعل الكاتبُ منهجَ وعقيدةَ السلف هي المرجع والأساس، يخالف طريقتهم في مثل موضوع التمثيل بنقص الإيمان، فيقول:

وعليه فإن إيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أكمل من إيمان معاوية”. (١)

 

وليس هذا مسلك السلف، فإن السلف كانوا يمثلون بنقص الإيمان على سبيل التعيين برجل السوء، لا بخال المؤمنين، مثالُ ذلك ما تجده في السنة للخلال:

قال أبو عبد الله: كان الحجاج بن يوسف رجل سوء“ (٢)

وفي حين كان الحجاج رجل سوء، فإنهم إذا ضربوا مثالا للمرجئ على تفاضل الناس في الإيمان زيادة ونقصانا قالوا كما في رواية عن وكيع:

وقد كان وكيع يقول: ترى إيمان الحجاج مثل إيمان أبي بكر وعمر رحمهما الله؟!“ (٣)  فهذا مسلك القوم ومنهجهم واتساقهم.

أيضا فإن المؤلف لا يظهر عليه التدقيق في قراءة السلف حيث تجده يذم من وسمهم السلف بأهل الكلام والبدع بأصحاب العقول، والعقلانيين، وما شابه، وهذا مسلك لم يدل كلام السلف إلا على خلافه في غير موضع.

فتراه يقول عن أهل الكلام:

أما المتكلمون فهم أولئك القوم الذين فضلوا أن يسلكوا طرقا عقلية لإيضاح العقائد، وقد يصل بهم في أغلب الأحيان إلى الإعراض عن مسلك القرآن وتفضيل تلك المسالك العقلية على الأدلة النقلية، فمن تكلم في العقائد أو في بعضها بطريق العقل المجرد فهو متكلم“ (٤)

وعن المعتزلة يقول:

المعتزلة جماعة عقليون يمجدون العقل ويجعلونه مهيمنا حتى على الوحي“ (٥)

ومن ظن أن هذا الكلام له أصل في كتب السلف، صدّق من يصفهُم بالحشوية، فإلى أي حد يتفق السلف على مثل هذا المسلك؟

جاء في كتاب السنة للكرماني: "قلت لإسحاق: الرجل يقول للمشرك: إنه رجل عاقل. فقال: لا ينبغي أن يقال لهم، لأنهم ليست لديهم عقول" (٦)

فهذا المشر.ك، والكا.فر، يوصف بعدم العقل عند السلف، وفي هذا كان ابن تيمية يعمم قول إسحق بن راهويه السالِف حتى على صاحب البدعة، ويقعّد أن كل مبتدع فعلى قدر ابتداعه يكون نقصُ عقلِه، يقول أصحاب السعير ﴿لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير﴾ فالعقل المنجي من السعير منتف عنهم مثل انتفاء السمع/النقل.

ولذا لما رد الدارمي على الثلجي في مسألة قيام الكلام بالمتكلم، في القياس الذي ابتدعه المتكلم الثلجي، قال الدارمي:

فمن قاس هذا بذاك فقد ترك القياس الذي يعرفه أهل القياس، والمعقول الذي يعرفه أهل العقل“ (٧)

فنفى الدارمي أن يكون المتكلم الثلجي من أهل العقل، ونسب طريقته وقياسه هو لطريقة وقياس أهل العقل، فالسلف أعقل من أن يصفوا المبتدعة بأنهم ”عقليون“ كما في مقالات من كثير من المؤلفين في عقائد السلف من المتأخرين.

ومن أوسع كتب ابن تيمية كتاب ”درء تعارض العقل والنقل“ فالكتاب يقع في ١١ مجلدا لنفي تعارض العقل مع النقل، وفيه تقرير أن الشرع والوحي مركب من النقل والعقل، فلا يجوز أن يطلق مسمى الوحي والشرع على ما يقصد به النقل والسمع حصرا. وإنما ما يقابلُ النقل الشرعي: النقل البدعي، وما يقابل العقل الشرعي إنما هو العقل البدعي.

وعليه فيوصف أهل الكلام فيما ادعوا استنادهم فيه إلى العقل بأصحاب العقل البدعي، لا بأصحاب العقل، أو أن يقال فيهم أنهم ”عقليون“.

وما جاء به المتكلمون من عقليات، قال فيه ابن تيمية: ”الشُبه التي يقال لها براهين عقلية أو دلائل سمعية، فقد تكلّمنا عنها بالاستقصاء حتى تبيّن أنها من القول الهراء“ (٨)

فلم ينسبهم للعقل، ولا لطائفة العقلانيين، وما شابه، رغم تمسّحهم بمسمى العقل، وإنما بيّن أنهم عمدوا إلى شيء من الهراء ووسموه بالمعقول.

ومثل ذي اللفظة من المؤلف كثيرة الوقوع لدى المتأخرين الذين تكلموا بغير علم في المقالات والفرق والمصطلحات وعلم الكلام. وكل ذلك يخل بالبحوث.
                                                           وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply