لن نؤمن بإله بمواصفات الأديان القديمة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هكذا يتم إعلان التمرد على الإسلام في كثير من الأوساط "الملحدة"، وكثيرا ما تأتي ذي الأحجية للتدليل على أنه لم تكن هنالك حصرية إسلامية في موضوع الصفات بل وقع اقتباس من الديانات المتقدمة؛ والتي "كانت تتصور إلها بصفات يتصف بها البشر".

طبعًا إلحاد "زوج دورو" دوما ما يحب مداعبة العبثية، بلا بحث، ولا تأريخ، ولا تدقيق، ولا اطلاع طفيف على النظريات "الإلحادية"، بل دومًا ما ترى أمامك ملحدًا؛ صِفتُهُ: رجلٌ يحمل بين كتِفَيه حذاءً بدل رأس. فلنرى مدى صحة ذي الأحجيات.

 

لعل أقدم ما يمكن أن نبدأ منه من مقالات حفظت حول اللاهوت وتفي بالغرض، هي المقالات اليونانية، ولنأخذ على سبيل المثال أرباب الفلسفة ممن سيطرت عقائدهم اللاهوتية بصورة محكمة على من بعدهُم، أعني بالخصوص؛ أرسطو، الذي "كان له تأثير كبير على تصورات الفلاسفة حتى نهاية العصور الوسطى؛ أي خلال عشرين قرنًا" بتعبير جورج بولتزير.

 

لقد كانت الأرسطية، التي لم تحفظ منها إلا الميول المثالية، وكذلك المثالية الأفلاطونية، والأفلاطونية المحدثة، تُعتبَر الممثل الرسمي عن ديانة ما قبل المسيح بقرون، إلى ما بعد العصور الوسطى عند شيوعها بعد حركات الترجمة، إنها الفلسفات التي نشأت على يد رجال كانوا يقولون بتعدد الآلهة، بل حتى بوجود نصف إله!، وحيث أن الآلهة متعددة؛ لقد كان لكل ما لا تفسير له من وجهة نظر علم الطبيعة؛ يُجعَل إله باسمه؛ فإله الرعد، وإله الشمس وإله الريح وهلم جرّا، لكن! المحرك الأول لكل ما يتحرك، بأي صفات كان؟

 

في هذا المنعطف؛ يخبرك أرسطو أن الإله: محرك لا يتحرك، في حين أن إله الإسلام؛ ينزل ويجيء ويأتي ويتكلم بحرف وصوت، وعليه ينبني أن العرب –كما يؤكد الدارمي– تقول: أمارة ما بين الحي والميت الحركة، كمقولة فلسفية مسلَّمة لدى كل مسلم؛ تقارع مقالة الأرسطية، فالحركة التي هي من صفات الإله –عز وجل– عند المسلمين، ليست صفةً لإله الديانات "القديمة" على الإسلام، فضلا عن أن تكون صفة لحيّ. فهذه واحدة.

 

أرسطو، يؤسس علم "ما بعد الطبيعة" الذي يفترق عن "علم الطبيعة" في أخص صفات المشاهدات من الموجودَات؛ وهو الحس، فإن كان الحِس صفة لازمة كي نُقرَّ بوجودِ بشر، فإن الإله لدى أرسطو يتصف بـ "ما بعد الحِس"، فإنه لا يُرى ولا يُسمَع، بل إنه معقول كالذهن، كُليٌّ، فإن كان من يعبدُه المسلمون قد كلم موسى تكليما بحرف وصوت، وسمعه موسى، ويَرَاه المُؤمنون كما يرون القمر، وينظرون إلى وجهه بأعينهم، أفيشمله قول اليوناني "لاهوت ما بعد الطبيعة"؟ لقد قال ابن تيمية: لم يفرّق الأنبياء بين عالم الغيب وعالم الشهادة بأن الأول معقول والثاني محسوس. فكلاهما محسوس، والغيب ما غاب عن الحس لا ما امتنع الحس به، وقد أتحفنَا رحمه الله إذ قال:

"وأما علم ما بعد الطبيعة وإن كانوا يعظمونه، ويقولون هو الفلسفة الأولى وهو العلم الكلي الناظر في الوجود ولواحقه، ويسميه المتأخرون: العلم الإلاهي، وزعم المعلم الأول لهم أرسطوا أنه غاية فلسفتهم ونهاية حكمتهم. فالحق فيه من المسائل قليل و غالبه علم بأحكام ذهنية لا الحقائق خارجية". –نقض المنطق.

فهذا عالم ما بعد الطبيعة، يقول بمعقولية وذهنية ومطلقية الإله، وهذا الإسلام يقول بتعيّن الإله، وأن وجوده حقيقي خارج الذهن. فهذه ثانية.

إن الأفلاطونية، التي تقول بعالم المثل، وأن الإله مثال، ذهن، فكرة، وجوده غير محسوس ولا متعيّن، ولا يوصف بأين ولا كيف ولا متى، يدرك ابن سينا أن الإسلام لا حل لجعله يتفق معها، فلا التأويل صالح ولا التحريف، وإنما؛ آيات أصول الدين في الحقيقة تعارض الأفلاطونية والأرسطية جميعا في الأصل والفرع، فيرى ابن سينا أن يقول بكذب الإله لمصلحة الجمهور من المسلمين؛ فقال لهم أنه ذو صفات عينية حقيقية كي يؤمنوا، لأن الذهن البشري لا يؤمن بإله عبارة عن شيء مجرد عن كل صفة؛ فهذا عدم. فهذا الشاهد يتضح من مقالات المشّائين، الأفلاطونيين العرب، أن صفات الإله في الإسلام كثبوت الأين (في السماء/على العرش/حيث) والمتى (قبل/بعد/ثم) والكيف (يدان، وجه، عينان) بما يسمى بظواهر النصوص؛ يناقض صريحا ديانة أفلاطون وأرسطو ممن كانوا أهل ديانات قديمة، فإن الإله عندهم "مجرد" عن كل صفة. فهذه ثالثة.

 

والرابعة التي تثبت استبدال المعترض رأسه بحذاء عتيق. أن تلك الأرسطية التي سيطرت على لاهوت القرون الوسطى، والتي كانت قديمة إلى حد التأريخ لها بثلاث قرون قبل المسيح، والتي عبرت عن مثالية محضة، حيث تصف الإله والغيب بما ينطبق على الأذهان، فيوصف بالسلوب، بل يوصف بثبوت أصلا، وإنما هو مجرد، ولا يتحرك، بل هو بتعبير من كان ماديًا ملحدًا (أعني روجيه جارودي) محض شيء ميت، ولا يوصف بصفة عينية، ولا يمكن أن يُحَسَّ بِه، ولا أن يُرى. بل حتى علمه؛ إما أنه علم بالكليات، أو علم أزلي فقط، أو أنه يعلم نفسه فقط. كانت هي السبب الرئيس الذي صرّح صناديد الإلحاد بأن إلحادهم كان إلحادًا بهذا الإله الذي بهذه الصفات فحسب! ولقد كان نيتشه يقول: «من قال إن الله روح، فقد خطا الخطوة العظمى نحو الجحود»، يعني الإلحاد. ومن ثم فقولة «مات الإله»؛ متعلقة بإله أرسطو، الذي مثّله توما لاكويني، يقول صادق العظم –مادي، ملحد–: ”وإذا تتبعنا سياق هذا التفكير اتضح لنا أن نيتشه أعلن موت هذا الإله بالذات، ولم يعلن موت إله غيره“ [نقد الفكر الديني، صادق جلال العظم، ص١٨٩].

«مات الإله» أي إله؟ يقول الإلحاد: ”إن الإله الأرسطوطاليسي المحرك الثابت الرب البارد قد مات” [البديل، روجيه جارودي، ص٣٩]. لماذا قالها؟ لأنه محرك لا يتحرك. نعود إلى الدارمي: أمارة ما بين الحي والميت الحركة. فما فائدة عبادة ميت؟ ثم إن مقالات أهل السنة [الإسلام الصحيح] تقول بمعاني الحركة. فلأجل أي مقالات نشأ إلحاد جارودي؟ الإسلام، أم تلك الديانات القديمة...

أمّا عن مفصّل مقالات كل ملحد من صناديد الإلحاد الفلسفي، فكلها تخبر بأن الإلحاد؛ نتيجة لذلك التصور الأرسطي البدائي المثالي، الذي تمثّل في المسيحية بعد أن احتكّت بالسينوية والرشدية والجهمية، يقول سلافوي جيجيك ”أدّعي أن السبيل الوحيد الحقيقي كي تكون ملحدًا، هو المرور عبر المسيحية“ [دليل المنحرفين إلى الإيديولوجية، بواسطة القراءة الماركسية لسمرين].

فتمهّل وأنت تنظر في إلحاديّة فيورباخ، ماركس، أنجلز، لينين، بليخانوف، هولباخ...إلخ. أنها لم تنادي بالإلحاد إلا أمام مقالات "لاهوت بتصورات بدائية" تلك التصورات التي كانت مثالية تجريدية، ولم يكن قط لدى صناديد الإلحاد اعتراض على إله متعين موصوف بصفات حقيقية يُحس ويَتحرك ويُسمع ونحوه.

فإن كانت ذي تهمة كلامية، فهي معرّة عليهم، كقول الصاوي الأشعري ”الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر“ فإن هذا هو الفتح لباب الإلحاد أصلا، ومثل الذي يتصور التشبيه؛ يُناقَش في القدر المشترك والقدر الفارق. وغرضنا الإبانة على تهافُت تهمة الاقتباس من الأديان القديمة التي سببت الإلحاد، والتي تُساق معها فرية ”إله بصفات بشرية“. فإن ثبوت القدر الفارق ينفي التماثل. وإنما طرأ الإلحاد عند صناديده بسبب نفي القدر المشترك للقول بالتجريد، وليس هنالك من يدعي صفات بشرية أو يطالب بها أصلا.

 

"والدين الوحيد الذي يدرسه فيورباخ دراسة معمقة هو المسيحية، الدين العالمي للغرب الذي يقول بإله؛ هو نتاج حركة طويلة من التجريد". –لأنجلز، الذي قال أن ماركس نقد الدين وفق رؤية فيورباخ.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply