بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
من سنن الله التي لا تتبدل: الابتلاء، ومن رحمة الله عز وجل بعباده أنه يبتلي بشيءٍ يسير، ولو ابتلى سبحانه وتعالى بشيء كثير لهلك العباد، قال عز وجل: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات) [البقرة:155]
والمؤمن كلما كان أقوى إيماناً ازداد ابتلاءً وامتحاناً، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حرَّهُ بين يدي، فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك، قال (إنا كذلك، يُضعفُ لنا البلاء ويُضعفُ لنا الأجر) قلتُ: يا رسول الله أيُّ الناس أشدُّ بلاءً ؟ قال: (الأنبياء) قلتُ: يا رسول الله ثمَّ من ؟ قال: (ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلي بالفقر، حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحوبها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء) [أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني]
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.) [أخرجه الترمذي] فالبلاء فيه خير لمن وفقه الله، فصبر واحتسب الأجر، فخرج من دنياه خفيف الأوزار، قال أهل العلم: إذا أراد الله بعبده خيرًا أسرع له العقوبة بأنواع المكاره، وبصبِّ البلاء والمصائب عليه في الدنيا؛ ليخرجَ منها وليس عليه ذنبٌ، ومَن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به والمنَّة عليه.
هذا وللسلف أقوال في البلاء جمعتُ ما يسر الله الكريم لي منها أسأل الله أن ينفع بها
من أسباب البلاء:
** قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المعاصي...من أسباب جلب البلاء وخصّ منها الزنا لأنه أعظمها في ذلك.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضاً لسهام البلاء ليعلم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع. وقال رحمه الله: قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد:11] فدلالة لفظها أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على عباده حتى يُغيروا طاعته بمعصيته، كما قال في الآية الأخرى: (ذلك بأن ربك لم يكُ مُغيراً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الأنفال:53] وإشارتها أنه إذا عاقب قوماً وابتلاهم، لم يغير ما بهم من العقوبة والبلاء حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعصية إلى الطاعة، كما قال العباس عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة)
أربع يعصمن من البلاء:
قال الإمام القرطبي رحمه الله: قيل: كل بلدة فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
وجوب الصبر على البلاء لئلا يفضي إلى ما هو أشدّ منه:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الصبر على البلاء، وترك التضجر من الآلام، لئلا يفضي إلى أشدّ منها.
لا بدّ من الصبر على البلاء:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: للبلايا نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل، فلا بد للمبتلى من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء، فإن تقلقلت قبل الوقت لم ينفع التقلقل...فلا بد من الصبر، والجزع لا يفيد، بل يفضح صاحبه، فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع.
من أسباب الصبر على البلاء
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها. الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق، فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو الصبر بلا خلاف بين الأمة...فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه، وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) [الشورى:30] وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلاً.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لا يحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهية هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره، قال الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة:216]
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا ؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه...وجعل أولياه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ...وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعماً عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب في تلك الساعة
العاشر أن يعلم أن سبحانه يربى عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
وقال رحمه الله: هذه ثلاثة أشياء تبعث على الصبر على البلاء:
أحدها: ملاحظة حسن الجزاء، وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخفُّ حملُ البلاء لشهود العوض. الثاني: انتظار روح الفرج، يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقُّبه يخفف حمل المشقة، ولا سيما عند قوة الرجاء والقطع بالفرج
الثالث: تهوين البلية بأمرين:
أحدهما: أن يعدَّ نعم الله عليه وأياديه عنده، فإن عجز عن عدِّها وأيس من حصرها، هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرةٍ من بحر
الثاني: أن يذكر سوالف النِّعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي، وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال.
الصبر على البلاء عنوان السعادة:
قال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مباركًا أينما كنت، وأن يجعلك ممن إذا أعطى شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر؛ فإن هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
من فوائد البلاء:
** قال العلامة ابن رجب رحمه الله: ولنختم بذكر نبذة يسيرة من لطائف البلايا وفوائدها وحكمها.
فمنها: تكفير الخطايا بها، والثواب على الصبر عليها.
ومنها: تذكر العبد بذنوبه فربما تاب ورجع منها إلى الله عز وجل.
ومنها: أنها توجب للعبد الرجوع بقلبه إلى الله، والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة، وذلك من أعظم فوائد البلاء، وقد ذم الله من لا يستكين له عند الشدائد، قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76] وقال: (وَلَقَد أَرسَلنا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذناهُم بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعونَ) [الأنعام:42] وكان بعضهم إذا فتح له في الدعاء عند الشدائد لم يحب تعجيل إجابته خشية أن ينقطع عما فتح له.
ومنها: أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه، والرضا به، وذلك مقام عظيم جداً
ومنها: زوال قسوة القلوب وحدوث رقتها.
ومنها: أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى مخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده. فالبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك أعلى المقامات وأشرف الدرجات.
ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل إجابة دعائه فلذلك يسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله.
** قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء.
وقال رحمه الله: النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيِّدُه من رديئه حتى يُفتن في كير الامتحان.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: النفوس تكتسبُ من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
وقال رحمه الله: ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه، ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته: من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظُلمه يتهم ربه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه،...فمن رحمته: أن نغّص عليهم الدنيا وكدَّرها، لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها، ويرغبوا في النعيم المقيم في دار جواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليُعطيهُم، وابتلاهم ليُعافهُم، وأماتهم ليُحييهم.
وقال رحمه الله: لو علم العبد أن نعمه الله عليه في البلاء ليست بدون نعمته عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه بقوله (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج به خبثه ونحاسه، ويُصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره ؟
** قال الحافظ ابن حجر: قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد والحكم الربانية أشياء عظيمة: منها: أن الله هيأ لعبـاده المؤمنين منازل في دار كرامته لا تبلغها أعمالهم، فقيض لهم أسباب الابتلاء والمحن ليصلوا إليها.
من أسباب دفع البلاء:
** قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله: الفزع إلى الله...عند نزول البلاء
** قال ابن حجر رحمه الله أمروا باستدفاع البلاء بالذكر والدعاء والصلاة، والصدقة
** قال ابن القيم رحمه الله: ومن علاجه أن يعلم أن الذي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليهلكه به، ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله، وليراه طريحاً ببابه، لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعاً قصص الشكوى إليه.
وقال رحمه الله: الدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وله مع البلاء ثلاث مقامات:
أحدها: أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه.
الثاني: أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد، ولكن قد يخففه، وإن كان ضعيفاً.
الثالث: أن يتقاوما، ويمنع كل واحد منهما صاحبه.
وقال رحمه الله: من منازل (إياك نعبدُ وإياك نستعين): منزلة الذِّكر...به يستدفعون الآفات، ويستكشفون الكربات، وتهون عليهم به المصيبات، إذا أظلهم البلاءُ فإليه ملجؤهم، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون، ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون، يدعُ القلب الحزين ضاحكاً مسروراً.
وقال رحمه الله: للصدقة تأثيرٌ عجيب في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل مِن كافر، فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعًا من البلاءِ، وهذا أمرٌ معلوم عند الناس، خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلُّهم مُقِرُّون به؛ لأنهم قد جرَّبوه،
وقال رحمه الله: في الصدقة فوائدُ، ومنافع لا يحصيها إلا الله؛ فمنها أنها تقي مصارعَ السوء، وتدفع البلاء، حتى إنها لتدفَعُ عن الظالم.
وقال رحمه الله: النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الكسوف بالصلاة، والعتاقة، والمبادرة إلى ذكر الله تعالى، والصدقة، فإن هذه الأمور تدفع أسباب البلاء.
وقال رحمه الله: وقد دخل في قوله: (مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) الاستعاذة من كلِّ شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان، أو غيره، إنسياً كان أو جنياً، أو هامة أو دابةً أو ريحاً أو صاعقةً، أو أي نوع كان من البلاء.
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم (يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان) فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة. وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد: منها: أن المنفرد بالطاعة عن أهل المعاصي والغفلة قد يُدفعُ به البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم.
أهل الغفلة عن الله، والابتداع في دينه، هم أهل البلاء حقاً:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والنظر إلى أهل البلاء، وهم أهل الغفلة عن الله والابتداع في دين الله فهذان الصنفان هم أهل البلاء حقاً فإذا رآهم وعلِمَ ما هم عليه عظمَت نعمةُ الله عليه في قلبه وصفت له وعرف قدرها فالضد يُظهرُ حسنه الضِّدُّ.
العاقل لا يتمنى البلاء لمن يكره، لأنه بذلك يتعجل جلب الشقاء والهم لنفسه:
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: رأيت...إلا من عصم الله تعالى وقليل ما هم، يتعجلون الشقاء والهمَّ لأنفسهم في الدنيا...من تمنى أشدّ البلاء لمن يكرهونه وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تُعجل لهم شيئاً مما يتمنونه أو يوجب كونه، وأنهم لو صفوا نياتهم، وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم، وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم، و لاقتنوا عظم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يُريدونه و يمنع كونه. فأيُّ غبنٍ أعظمُ من هذه الحال التي نبهنا عليها ؟ وأيُّ سعد أعظمُ من الذي دعونا إليه ؟
الفقيه من رأى البلاء نعمة:
قال سفيان الثوري رحمه الله: لم يفقه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة. قال ابن العلامة القيم رحمه الله: قيل: إذا استكمل العبدُ حقيقة اليقين صار البلاءُ عنده نعمه، والمحنةً منحة.
من سعادة العبد أن يرده البلاء إلى ربه:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والامتحان إلى ربه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به، والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع، وقد عُوِّض منها أجلَّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائياً عنه، وانطراحه على بابه وقد كان عنه معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.
وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته، وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه.
فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما مثله سبـب
وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة: (وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة:216]
وإن لم يرده ذلك البلاء إليه، بل شرد قلبه عنه، ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه، والضراعة إليه، والتذلل بين يديه، والتوبة والرجوع إليه، فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهواته، ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعتهُ عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء، فبليةُ هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل، وبالله التوفيق
شدة البلاء كرامة للعبد:
قال كعب الأحبار رحمه الله: ما كرم عبد على الله إلا زاد البلاء عليه شدة.
مما يهون البلاء إذا نزل بالإنسان:
** قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله:
من نزلت به بلية فأراد تمحيقها فليتصورها أكثر مما هي تهن.
وليتوهم نزول أعظم منها ير الربح في الاقتصار عليها.
وليتلمح سرعة زوالها فإنه لولا كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة.
وليتخيل ثوابها....العوض في الدنيا...وتلمح الأجر في الآخرة.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه وأجل لقاء المبتلى سبحانه - هان عليه ما هو فيه وخف عليه حمله.
استلذاذ البلاء:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: المبتلى إذا قويت مشاهدته للمثوبة سكن قلبه واطمأنَّ بمشاهدة العوض حتى يستلذ بالبلاء ويراه نعمه، ولا يستبعد هذا فكثير من العقلاء إذا تحقق نفع الدواء الكريه فإنه يكاد يلتذَّ به، وملاحظته لنفعه تغنيه عن تألمه بمذاقه.
المسلم لا يستعجل البلاء، ويسال الله العافية منه، فإن نزل به رضي وسلم:
قال ابن رجب رحمه الله: الرضا بالقضاء قبل وقوعه: فهو عزم على الرضا، وقد تنفسخ العزائم عند وقوع الحقائق، ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبد البلاء، بل يسأل الله العافية فإن نزل البلاء تلقاه بالرضا.
الشاكر الذي يشكر على البلاء:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: قيل: الشاكر الذي يشكر على العطاء، والشكور الذي يشكر على البلاء.
بلاء يحتاج إلى صبر:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر. وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب. ولقد عَرَض لي من هذا الجنس، فإنه نزلت بي نازلة فدعوتُ وبالغتُ فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده. فقلت له: إخسأ، يا لعين،...ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك...ووسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك...في محاربة العدو لكفى في الحكمة.
الإيمان القوي يظهر أثره عند الابتلاء:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: المؤمن...كلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه، وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً، وسيره لا يتغير، لأنه يعلم أنه مملوك، وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته...فإن اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة، كما جرى لإبليس. والإيمان القوي يبين أثره عند قوة الابتلاء...فهناك يبين معنى قوله: (ورضوا عنه)
قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية، فإذا نزل البلاء تباينوا.
الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة بنزول بلاء ليستعد له العبد:
قال الإمام القرطبي: الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسرّ رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقاً به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه، فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل، تدل على محنته، فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك.
عاقبة الرضا بالبلاء:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: المؤمن يمشي مع البلاء كيفما مشي به...فتكون عاقبته العافية من البلاء، وحسن الخاتمة، ويوقى ميتة السوء.
ومن تواضع لعظمة الله وصبر على بلائه كانت عاقبته الجنة وسلم في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد