بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وإذا أردتم ميزانَ عدلٍ لا يحيفُ، ومنهجُ إنصافٍ بلا تطفيف، فأحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّونَ لأنفسِكم، واكرهوا لغيركُم ما تكرهون لأنفسِكم، وأحسِنوا كما تُحبُّونَ أن يُحسَنَ إليكم، وأدوا إلى النَّاسِ ما تحبونَ أن يؤديهِ النَّاسُ إليكم، وامنعوا عنهم ما تحبونَ أن يمنعُونهُ عنكم، ولا تقولوا لغيركم ما لا تُحبُّون أن يُقالَ لكم، وافعلوا الخيرَ مع أهلهِ ومع غيرِ أهلهِ، فإن لم يكونوا من أهلهِ، فكونوا أنتم من أهله، ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبهُ لنفسهِ".. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}..
أيها المسلمون: كان عمرو بن العاص رضي الله عنه من أدهى دُهاة العرب.. أسلم رضي الله وكان رأسًا في قومه، مقدمًا في عشيرته.. فكان إذا لقي النبي صلى الله عليه وسلم في طريقٍ بشّ في وجهه، وإذا دخل مجلسًا فيه النبي عليه الصلاة و السلام رأى من الاحتفاء بمقدمه ما يُدخل السرور على نفسه.. وإذا ناداه النبي عليه الصلاة والسلام، ناداه بأحب الأسماء إليه.. وظل عمرو رضي الله عنه يحظى بهذا التعامل الراقي.. حتى خُيل إليه أنه أحبُّ الناس إلى رسول الله عليه الصلاة و السلام، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحبُّ إليك ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عائشة، قال عمرو: أعني من الرجال يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أبوها.. قال عمرو: ثم من ؟ قال: ثم عمر بن الخطاب قال: ثم أيّ.. فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يعدد رجالًا، فلان ثم فلان، بحسب سابقتهم إلى الإسلام.. قال عمرو: فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم..
فانظروا يا عباد الله: كيف استطاع عليه الصلاة والسلام أن يملك قلب عمرو بأخلاقه الكريمة وذوقه الراقي وتعامله الحسن، حتى ظن أنه أحب الناس إليه..
معاشر المسلمين: أدبُ النفس، ورفعةُ الذَّوق، وجمالُ التعامُل من أجلِّ ما وهبَ الله عبدَه من نعمٍ.. ومُراعاة المشاعر، وحُسن المُعاملة ! مقصدٌ شرعيٌّ من مقاصِد الدين عظيم..
الذَّوقُ مسلكٌ لطيفٌ، وفعلٌ حميدٌ ، يجسِّدُ علو الأدب ، ورقي التعامل ، وحُسنَ المعشَر، وكمالَ الخلق ، وروعة التصرُّف ، وتجنُّب كل ما يُحرِجُ أو يجرَح المشاعر... والناسُ تُحبُّ ليِّنَ الجانِب، منبسط الوجه، والقلوبُ تميل بطبعها لمن تواضَعَ لها، فالمقابلة بالوجه الجميل، والمُصافحةُ بالكفِّ النبيل، والتحدُّثُ باللسان الفضيل، يفتحُ القلوب للنصح والتوجيه ويُمهِّدُ السبيل..
إخواني وأحبابي في الله: إن من علامات الإيمان ومن دلائل السعادة والتوفيق: أن يُرزَق العبدُ ذوقًا راقِيًا، وأدبًا عاليًا ، وخلقًا مهذبًا ، يحترِم المشاعر، ويقدر المواقف ، ويُدخِل السُّرورَ على نفسِه وعلى الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين ، والحياءُ شُعبةٌ من الإيمان.. وهذا والله هو شأن من يستمتِع حقًا بالحياة.. وهل رأيتُم أرفعَ ذوقًا ، أو أرقَى سلوكًا ، أو أهنأ حياةً من أُسوتنا وقُدوتنا المصطفى صلى الله عليه وسلم
ألم تقرؤوا في سيرته أن الأَمَةَ المملوكة كانت تأخذُ بيده عليه الصلاة والسلام فتنطلق به حيث شاءَت؟!.. وكان يبدأ من لقِيَه بالسلام، ويبدأ أصحابَه بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَه حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ ، ولا يصرِف وجهَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِف وجهَه. "ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَه بين يدَي جليسِه".. ويقول أنس رضي الله عنه: ما التَقَمَ أحدٌ أُذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: يُناجِيه فيُنحِّي رأسَه حتى يكون الرجلُ هو الذي يفعل ، وكان ضحِكُه تبسُّمًا..
معاشر الأحِبَّة: عسى أن لا يكون في كثرة الإمساس ما يُذهب بالإحساس.. ففي تعاليم ديننا وتوجيهاتُه من التوجيهات واللطائِف ما لا ينقضِي منه العجَب.. بِدًا من العبادات الكُبرى، مرورًا بكل التشريعات الأخرى.. حيث يلحظ المتأمل ترابطًُا وثيقًا بين العباداتُ من جهة وبين الذوق الرفيع والسلوك المهذب من جهة أخرى..
شرائعٌ وعباداتٌ هي أركانُ الدين وقِوامُه، مُختلفةٌ في مظهَرها، مُتَّفقةٌ في جوهَرها، هي مدارِجُ الكمال، ومراقِي الطُّهر، وتجسيدُ للذوق واللباقة ورقي الروح... فالصلاةُ تنهَى عن الفحشاء والمُنكَر، وفيها من مظاهرُ الذَّوق ورفيع الأدب الكثير؛ كأخذ الزينة والسواكِ، والتطِّيب بأحسن ما تجد، والمشي بسكينةٍ ووقار، وتسوية الصُّفوف، وسدّ الفُرَج، وتعهد ما يُكرهُ من الروائح والمناظر، وتجنُّب أكل الثُّوم والبصَل، وكل ما له رائحةٌ كريهةٌ ، ولقد قال المُصطفى صلى الله عليه وسلم لمُتخطِّي الصفوف: "اجلِس فقد آذيتَ".. فإذا كنتَ يا عبد الله تُريد تحصيلَ الفضيلة في عبادتك فإياك أن يترتَّب على ذلك إيذاءٌ لغيرك..
أما الزكاة فقد قال فيها الحق تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} و{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وهو مما يُحافِظُ على رقي الـمُعطِي ويحفظ كرامةَ الـمعطَى ولا يجرحُ مشاعره..{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}.. بل إن مفهومَ الصدقة في ديننا أوسعُ من التصدُّق بالمال؛ فتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وإرشاد الضالّ صدقة، وإماطةُ الأذى عن الطريق صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، وبصرُك للرجل رديء البصر صدقة.. وفي ذلك من الذوق واللباقة مالا يخفى..
أما الصيام فهو بالدرجة الأولى صيامٌ عن الزُّور كلِّه قولًا وعملًا: "ومن لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه".. وإنما الصيامُ عن اللَّغو والرَّفَث ".. وإن سابَّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل: إني صائِمٌ" ، والحجُّ زادُ الإيمان والتُّقَى، ومدرسة الذوق والأخلاق والهدى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ، وعليكم بالسكينة ، لا تؤذوا إخوانكم..
معاشر المُسلمين: ومما يتجلَّى فيه مظاهر الذَّوق والأدَب الرفيع في دينِنا: آدابُ تناول الطعام.. غسلُ اليدَين، والأكل مما يلِيه، وأن لا يَنفُخَ في الطعام، ولا يتنفَّس في الإناء، وأن لا يأتي ما يُستقذَرُ أو يُستنكَرُ أو يُستكرَه ، وما عاب صلى الله عليه وسلم طعامًا قط ، إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه... ومن دلائل الأدب العالِي والذَّوق الرَّفيع: آدابُ الزيارات والاستِئذان ، من طرقٍ للباب بلطف، والاستئذان والسلام ثلاثًا، وعدم الوقوف مُقابِل الباب؛ فإنما جُعِل الاستِئذان من أجل البصر، وتخيُّر أوقات الزيارة: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} ، والجلوسُ حيثُ ينتهِي به المجلِسُ أو حيث يُجلِسُه صاحِبُ البيت، فالقومُ أعلمُ بعورات بيوتِهم، ولا يُقيمُ أحدًا من مجلسِه ليجلِسَ فيه، وافسَحوا يفسَحِ الله لكم: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا}.. ولا يتناجَى اثنان دون الثالِث؛ فإن ذلك يُحزِنُه: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}، ومن اللِّياقة واللباقة في آداب الجوار والجيران: أن لا يستطيل على دارِ جاره، ولا يُتبِعَ نظرَهُ فيما يحمِلُه ، وأن يتعاهده بالهدية خصوصًا ما يظهرُ رائحتهُ ويُعلمَ به.. ففي الحديث "إذا طبخت مرقةً ؛ فاكثر ماءها وتعاهد جيرانك"، ومن آداب الجوار غَضُّ الطرفَ وستُر ما ينكشِفُ من عورة الجار.. ومن زارَ مريضًا فمن الكياسَة: أن يُدخِلَ الأملَ إلى نفسه ويدعو له بالعافية.. ففي الحديث: طهورٌ لا بأس عليك.. ومن آداب الزيارة أن يُخفِّف الجلوسَ، فإن المريضَ يُعاد، والصحيحَ يُزار.. كما أن مما تتجلَّى فيه اللَّباقةُ وحُسن الذَّوق: قيادةُ المركَبات، ومُراعاةُ إيقافِها في مواقفِها، والتِزامُ قواعِدٍ المُرور، وضوابط السَّير، وحُسنِ الوقوف المُنظَّم، وحُسن استِخدام المرافِق العامَّة والمُحافظةُ عليها... ناهِيكم بما أنعمَ الله به على أهل هذا الزمان من وسائل الاتصال وما يجبُ من مُراعاة الأدبِ في استِعمالِها مُحادثةً وإرسالًا واستِقبالًا واستعمالًا..
أيها المسلمون: هذه بعضُ المعاملات التي يظهرُ فيها حُسنُ تصرُّفِ الرجُل وكياسَتهِ ولباقَتُهِ.. فالأدبُ زادكم الله من فضله وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ.. وقد قال أهلُ الحكمة: "الفضلُ بالعقل والأدب ، لا بالأصل والحسَب.. ومن قعَدَ به أدَبُه.. لم يرفعه حسَبُه ".. وفي محكم التنزيل {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}...
بارك الله..
الحمد لله وكفى..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أجمل أبيات الحكمة قول المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيبًا.. كعجز القادرين على التمام.. نعم أحبتي.. يعجزُ البعضُ من أصحابِ الهمم العالية في العبادة.. يعجَزون أن يربِطوا بين حُسن التعبُّد، وحُسن الخُلق وسُمُوّ الذَّوق، فترى هذا المُتعبِّد حفظَه الله ووفقه يحرِصُ على إتمام العبادة حرصًا رائعًا.. لكنَّه ربما تساهل كثيرًا في ارتكِاب أعمالٍ يأباها الخُلُق الكريم والذوقُ السليم.. ومن لم تُزكِّهِ عبادتُه ، وتُهذِّبُه ديانتُه ، فما الذي حصَّلَه يا تُرَى ؟! وحديث المُفلِس فيصلٌ في المسألة، وهو من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقد شتَمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا. وحين يأتي القِصاصُ؛ فماذا سيبقى من حسناته؟!.. وهل يبدو تقيًّا صالحًا من كان شره أقرب من خيره ، وضرره أكبر من نفعه.. كيف وقد أقسم المصطفى صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله ، قال: من لا يأمن جاره بوائقه.. ومٍن أجلِّ مقاصد العبادات وأعظم حكمها: أن لا تختلِف القلوبُ، وأن لا تتكدَّر النفوسُ، فكسب القلوب مُقدمٌ على كسب المواقف ، "سوُّوا صفوفَكم، ولِينُوا بأيدي إخوانِكم، ولا تختلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم"، "وإن المؤمنُ ليُدرِكُ بحُسن خُلُقه درجةَ الصائم القائم"..
والبشاشة مصيدة المودة ، والبر شيءٌ هينٌ: وجه طليقٌ وكلام لين..
وآفةُ ذي الحِلمِ: طيشُ الغضب، ومن ساءَ أدبُه ضاعَ نسَبُه، والمرء بآدابه لا بثيابه ، وشرُّ الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركَه الناسُ اتِّقاء فُحشِه... وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث تثبت لك الود في صدر أخيك.. أن تبدأه بالسلام ، وتوسع له في المجلس ، وتدعوه بأحب الأسماء إليه..
ألا فاتقوا الله رحمكم الله؛ فإن الرجُل النبيلَ لا يفقِدُ خُلُقه مع من لا خُلُق له، وهل تكونُ المُداراةُ إلا مع السُّفهاء وأصحاب الطِّباع الشَّرِسة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}..
معاشر المؤمنين الكرام: نحن عادة ما نقوم باختيار أفضل أنواع الطعام لنرتقي بصحتنا.. فلما لا نختار أفضل الكلمات لنرتقي بأخلاقنا وتعاملنا.. فما ما أجمل أن يسير المرء بين الناس وعطر أخلاقه يفوح منه.. وﺇﺫﺍ كان ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ يجذب العيون، فإن اﻷﺧﻼﻕ ﺗأسر ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ.. واعلم أن من أعظم احتياجات الإنسان الطبيعي حاجته للتقدير.. وإذا علمت أن الكل يحبُّ الثناء: فلا تبخل إذن بأجمل العبارات لكل من يستحقها.. وتعمد أن تدخل السرور إلى قلب كل من تقابله ، واعلم أنها من أحبَّ الاعمال إلى الله.. وتذكر أن الطريقة التي تتكلم بها ، ربما كانت أكثر تأثيرًا من الكلام نفسه.. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}... ويا ابن آدم عش ما شئت... وأحبب من شئت... واعمل ما شئت... البر لا يبلى والذنب لا ينسى.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد