محب الدين الخطيب يهاجم الدعوة للعامية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إن الاستقرار في الفصحى دليل على بلوغها درجة الكمال، فتطور اللغات في التاريخ يشبه تطور الأنهار في مجاريها، فلكل منهما في تطوره دوران:

الدور الأول: دور التكوين، وتحدث فيه التغيرات الجوهرية.

والدور الثاني: دور الاستقرار، والتطور في هذا الدور قاصر على الإصلاحات والتحسينات، ولا يجوز له أن يمس الأساس الذي حددت معالمه في نهاية الدور الأول.

واللغة العربية استكملت الدور الأول من تطورها قبل أن توجد اللاتينية واليونانية والسنسكريتية فضلا عن الفارسية والفرنسية والإنجليزية، وكانت عند ظهور الإسلام أكمل لغة بدوية وأجملها في الدنيا.

أما تطورها في دورها الثاني فهو حاجة من حاجات كل لغة ما دامت النفس البشرية ومدارك أهلها في تقدم واعتلاء.

ولكن ليس من اختصاص التطور في هذا الدور أن يمس جوهر لغة استقر كمالها كاللغة العربية، أو يخرج على سننها أو يعبث بجمالها، بل يتناول توسعها باتساع حاجات أهلها.

والعربية قابلة لهذا التطور الذي يضمن لها الغذاء المستمر والنماء الدائم بما عرف من نظام تكوينها ومرونة صيغها واطراد الاشتقاق فيها بنوعيه الأصغر والأكبر.

وعن حقائق لها أهميتها في الرد على القائلين بتطوير اللغة العربية بطرق صناعية وتتلخص هذه الحقائق في:

1) أن اللغات ترجمان المدارك، تسمو بسموها وتنحط بانحطاطها.

فاللغة الواحدة تسمو أو تنحط مع مستوى الكاتبين بها والمكتوبة بهم والموضوع الذي يتخاطبان له، ولذلك تعددت الأساليب في اللغة الواحدة (أسلوب القصص الشعبي، الصحافة اليومية، العلوم، التاريخ، الشعر والأدب الرفيع، الفلسفة والعلوم العقلية العميقة) وأيما لغة –مهما بلغت من الكمال- إذا انحط المستوى الفكري والعقلي للمتكلمين بها لابد أن تنحط حتى تبلغ مستواهم لتترجم عن مداركهم الضيقة النطاق، فاللغة في طلوع المدارك العقلية وليست المدارك العقلية في طلوع اللغة.

2) أن تسهيل اللغة في لفظها وأسلوبها حتى تكون مفهومة للناس لا فرق بين مثقف وغير مثقف- ميسور لمن يكتب بالعربية الفصحى إذا توخى في مخاطبته الجمهور الأسلوب الطبيعي متخيرا له الألفاظ المأنوسة عند من يكتب لهم، ولابد –مع هذا- من العناية برفع مستوى المدارك في الجماهير، فذلك خير لهم من أن تنحط باللغة وبالصحافة والخطابة إلى مستواهم في الفكر وإلى لغتهم التي هي ترجمان ذلك المستوى.

3) أن العامية موجودة بالفعل إلى جانب الفصحى في جميع الأمم لأنها ترجمان مستواهم العقلي والثقافي، وأنه لم يخطر على بال قادة الحركة الفكرية وحملة الأقلام في أية أمة اكتملت لغتها أن يتسامحوا في فصحاهم فيهبطوا بها إلى مستوى غير المثقفين، بل إن روح العطف منهم على العامة والنصح لهم تحملهم على بذل العناية في رفع مستوى الجماهير في مداركهم وفي لسان تلك المدارك –أي لغة- بكل ما لديهم من وسائل الخطابة والكتابة، ليقترب جمهورهم من الفصحى في سهلها الممتنع، فينهلوا من مواردها القريبة من أفهامهم مبسطة مذللة.

4) العامية لا خطر منها على الفصحى ما دامت الثقافة –والفصحى لسانها- في حالة هجوم على الجهالة ولسانها، وهي دائبة عليها تنقصها من أطرافها، فالطبقة غير الأمية من عامتنا لا تقل الآن في ثقافتها ودنو لغتها من الفصحى عما كانت عليه طبقة فقهاء الكتاتيب وأئمة القرى قبل خمسين عاما، كما أن الذي يراقب تطور العامية في الخمسين سنة الأخيرة لا يشك في أنها تسير مسرعة نحو الفصحى.

5) أن في اللغة نظام طبقات كما في الثروة، وكلما تقارب الناس في مداركهم اقترب طرفا العامية والفصحى، ويتضح ذلك من مقارنة العربية قبل الإسلام وفي صدره، وبعد ازدهار الإسلام واتساع نطاق العروبة، فإنه لا شك أن العامة كانت لها لغة لا تسموا إلى بلاغة أكثم بن صيفي وذي الإصبع العدواني وعبد القيس بن خفاف البرجمي، إلا أنهم كانوا متقاربين في الألسنة كتقاربهم في المدارك، ومن لم يكن له مثل لسان أكثم كانت له مدارك تقدر حكمة أكثم حق قدرها، فلما اتسع نطاق العروبة وتفاوتت طبقات أهلها في مداركهم كتفاوتهم في معايشهم، اتسعت مسافة الخلف بين فصاحة الطبقة العليا في لغة المنابر وإسفاف الطبقة الدنيا في لغة الأسواق، ومن  هذا المحجر نبتت العامية.

6) أن ما يخيل إلى بعضنا من جمود الفصحى ما كان قط من جمودها، وإنما كان من جمود أهلها الذين انحطت مداركهم في حادثتين تاريخيتين:

الأولى: جعل اللغة الرسمية للدولة الإسلامية غير لغة القرآن ففقدت العربية بذلك سندها في الدولة.

والثانية: أن سلاطيننا الذين عاصروا نهضة الغرب عند ولادتها في بدايتها تجاهلوها وتخلفوا عن قافلتها، فكان هذا أيضا من أسباب انحطاط مدارك الشعوب العربية الخاضعة لذلك الحكم، وكان العرب كلما أمعنوا النظر فيما يتم في الغرب من قوة وتقدم وما هم فيه من فاقة وحرمان يخامرهم اليأس ويسيئون الظن بأنفسهم.

7) أن التطور في اللغات لا يكون صناعيا يماشي الأهواء، بل هو طبيعي يعاصر الدهور وتعاصره، وأن علينا قبل أن نعمل على تصحيح العامية وترقيتها بجهودنا الصناعية حتى تكون منها لغة الكتابة والحياة، أن نوالي تثقيف المتكلمين بالعامية في أعماق الحقول ومترامي القرى فإذا ارتقت مداركهم –بعد امتلاء معدهم بالغذاء وتسربل أجسامهم بالكساء- ترتقي بطبيعة الحال لغتهم التي هي ترجمان مداركهم، فيكون الذي نشتهي أن يكون من تقريب الألسنة.

 

يقول الأديب الانجليزي جورج أورويل: إن النضال من أجل لغة إنجليزية سليمة ليس أمرا اعتباطيا

ويقول شمعون بيريز: إن الرهان الأكبر على الدولة العبرية وقد فرضت وجودها وسط محيط معاد هو أن تحافظ على لغتها

 

المصادر

- مقالة «لغة القرآن فقدت مرونة التطور ويفكرون في مجمعنا اللغوي الجليل بالعدول عنها إلى العامية» مجلة الفتح، العدد 850

- مقالة «لأن أكون مخطئا أحب إلي من أن أكون ظالما» مجلة الفتح العدد 852 وهو رد على مقالة محمد فريد أبو حديد تحت عنوان «لقد ظلمتني»

- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر .. د. نفوسه زكريا

تقريظ أبو فهر محمود محمد شاكر

-رواء مكة  ... حسن أوريد.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply