بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
اتقوا الله -عباد الله- حق تقواه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: إن الحديث عن البطولة والأبطال؛ شهي إلى كل نفس، وحبيب إلى كل قلب، ولا تمل الأسماع روايته، ولا يُخلقُه الترداد، ففي ذات كل منا بطل مستكن في ضميره، فهو إما يحققه في واقع حياته، وإما أن يصنعه بخياله وأشواقه، وقل مثل ذلك في الشعوب، فهي ما تزال تبحث عن البطل في كل مكان، فإن لم تجده في الحقيقة اخترعته من خيالها، ثم ألصقت به من روائع البطولات ما لا يصدقه عقل، ولا يقره منطق، ثم ألهته بعد ذلك كما فعل الرومان واليونان بأبطالهم.
ولكننا نحن المسلمين لسنا بحاجة؛ لأن نخترع الأبطال لأنفسنا، ولا أن نبتدع لهم البطولات من عندنا، فتاريخنا من أحفل تواريخ الأمم بالبطولات، وأغناها بالأبطال، وهي بطولات على فذاذتها وروعتها، فهي حقائق واقعة موثقة بالأسانيد روتها في الغالب جموع عن جموع، يستحيل في العادة أن يتواطؤا على الكذب، وما ذاك إلا؛ لأن تاريخنا يمتاز عن تواريخ الأمم الأخرى بميزات ثلاث:
أولها: أنه تاريخ طويل دام أربعة عشر قرنا تتابعت حلقاته من غير انفصام، واتصل آخرها بأولها، برباط من كتاب الله، وحبل من لغة القرآن مما جعل الخلف يعيشون تجارب السلف على الدوام، فكان ذلك سببا في تكاثر البطولات لدينا وتنوعها في شتى المجالات.
وثانيها: أنه تاريخ عريض؛ لأنه تاريخ أمة امتدت من المحيط إلى المحيط، وانضوت تحت لواء قرآنها أمم وشعوب لها من الطاقات والمفاخر والمآثر ما يفوق كل تقدير.
وثالثها: أنه تاريخ عميق لأن دولته قامت على عقيدة التوحيد لله، فحفلت حياتها بالبطولات من كل لون وصنف.
أيها المسلمون: إن من يتأمل تاريخ الإسلام الطويل يجده حافلا بجمع كبير من قصص الأبطال الذين صاحبت بطولتهم تاريخ هذا الدين الطويل.
نعم، إنها بطولات عظيمة الباعث عليها؛ تقوى الله، والشعور العميق بالكرامة، والإحساس الشديد بالعزة، والحب الصادق لله، والزهد في الدنيا، والرغبة فيما عند الله.
إن الزهد في الدنيا هو من أجمل صفات الأبطال، فكم سجل التاريخ في أسفاره من بطولات الزهاد وتضحياتهم، مما يستلين القلوب القاسية، ويستدر الدموع العاصية.
أيها المسلمون: قدمت بهذه المقدمة عن البطولة؛ لأنني سأتحدث عن رجل أبرز صفة فيه البطولة؛ إنه البراء بن مالك بن النضر الأنصاري، الذي كان أشعث أغبر ضئيل الجسم، معرق العظم، تقتحمه عين رائيه، ثم تزور عنه ازورارا.
ذلك البطل الذي نوه بشأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ".
إنه المقدام الباسل الذي كتب الفاروق بشأنه إلى عماله في الآفاق، قائلا: "لا تولوا البراء بن مالك جيشا من جيوش المسلمين مخافة أن يهلك جنده بإقدامه".
إنه البطل الذي قتل في مقام واحد مبارزة مائة فارس في معركة "تستر" عدا من قتلهم في غمار المعارك مع المحاربين.
أيها المسلمون: لو رحت أستقصي لكم أخبار بطولاته لطال المقام، ولكثر الكلام، ولكن حسبي أن أعرض لكم قصتين من أروع بطولاته.
أما القصة الأولى: فقد بدأت منذ الساعة الأولى لوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حيث طفقت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجا، حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل مكة والمدينة والطائف، وجماعات متفرقة من هنا وهناك، ممن ثبت الله قلوبهم على الإيمان، فصمد الخليفة الراشد لهذه الفتنة العمياء، فجهَّز أحد عشر جيشا، ودفع بهم في أرجاء الجزيرة، ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والرشاد.
وكان من أقوى المرتدين بأسا وأكثرهم عددا بنو حنيفة، أتباع مسيلمة الكذاب، حيث جمعوا له أربعين ألفا من أشداء المحاربين، فهزموا أول جيش خرج إليهم، وكان بقيادة عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه- وردوه على أعقابه، فأرسل إليهم الصديق جيشا ثانيا بقيادة خالد بن الوليد، حشد فيه وجوه المهاجرين والأنصار، وكان من بينهم البراء بن مالك، فالتقى الجيشان على أرض اليمامة، في نجد، وما هو إلا قليل، حتى رجحت كفة مسيلمة وجنده، وزلزلت الأرض من تحت أقدام المسلمين، وطفقوا يتراجعون عن مواقفهم، حتى اقتحم أصحاب مسيلمة فسطاط خالد، واقتلعوه من أصوله.
وعند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم، وأدركوا أنهم إن هزموا فلن تقوم للإسلام قائمة بعد اليوم، وهب خالد إلى جيشه فأعاد تنظيمه، ودارت بين الفريقين رحى حرب ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيرا من قبل، وثبت قوم مسيلمة ثبات الجبال، ولم يبالوا بكثرة ما أصابهم من القتل، وأبدى المسلمون من خوارق البطولات ما لو جمع لكان ملحمة من أروع الملاحم، فهذا ثابت بن قيس: يتحنط ويتكفن، ويحف لنفسه حفرة في الأرض، وينزل فيها إلى نصف ساقيه، ويبقى ثابتا في موقفه، ويجالد عن راية قومه حتى خرَّ شهيدا.
وهذا زيد بن الخطاب ينادي في المسلمين، فيقول: "عضوا على أضراسكم، واضربوا في عدوكم، وامضوا قدما أيها الناس: والله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبدا حتى يهزم مسيلمة، أو ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، ثم حمل على القوم حتى قتل شهيدا.
وهذا سالم مولى أبي حذيفة يحمل راية المهاجرين، فيخشى عليه قومه أن يضعف، وقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أوتيتم من قبلي فلبئس حامل القرآن أكون، ثم كر على الأعداء كرة باسلة، حتى أصيب.
ولكن بطولات هؤلاء جميعا تتضاءل أمام بطولة البراء بن مالك -رضي عنهم جميعا-، وذلك أن خالد بن الوليد لما وطيس المعركة يحمي ويشتد، التفت إلى البراء، وقال له: "إليهم يا فتى الأنصار" فالتفت البراء إلى قومه، وقال: يا معشر الأنصار لا يفكرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم بعد اليوم، وإنما هو الله وحده ثم الجنة، ثم حمل على لواء المشركين، وحملوا معه، وانبرى يشق الصفوف، ويعمل السيف في رقاب أعداء الله، حتى تزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، فلجئوا إلى الحديقة التي سميت فيما بعد بحديقة الموت؛ لكثرة من مات فيها في ذلك اليوم، وأغلقوا عليهم أبوابها، وتحصنوا بعالي جدرانها، وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها، فتتساقط عليهم تساقط المطر.
وعند ذلك تقدم البطل الهمام "البراء بن مالك" وقال: "يا قوم ضعوني على الترس، وارفعوا الترس على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريبا من بابها، فإما أن أستشهد، أو أفتح لكم الباب".
وفي لمح البصر جلس على ترس، وقد كان ضئيل الجسم نحيله، فرفعته عشرات الرماح، فألقته في الحديقة بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة، فنزل عليهم كالصاعقة، وقاتلهم عند الباب وحده، وأعمل فيهم سيفه، حتى قتل منهم عشرة، وفتح الباب، وبه بضع وثمانون جراحة، فتدفق المسلمون على الحديقة من حيطانها وأبوابها، وأعملوا السيوف في رقاب اللائذين بجدرانها، حتى قتلوا منهم عشرين ألفا، ووصلوا إلى مسيلمة فأردوه صريعا، وحمل البراء بن مالك إلى رحله ليداوى فيه بعد أن فاته شرف الشهادة الذي يطمح إليه، وأقام عليه خالد شهرا يعالجه، حتى شفي منها، وظل بعدها تواقا للشهادة، طامعا في الحصول عليها، فقد تمنى أن يموت شهيدا في سبيل الله.
وكان متفائلا بذلك، قال أخوه أنس بن مالك: "دخلت على البراء وهو يتغنى -يعني ينشد ويحدو- فقلت له: قد أبدلك الله ما هو خير منه، فقال: "أترهب أن أموت على فراشي، لا والله ما كان الله ليحرمني ذلك، وقد قتلت مئة منفردا سوى ممن شاركت في قتله".
وطفق يخوض المعارك واحدة بعد الأخرى؛ شوقا إلى تحقيق أمنيته الكبرى، وحنينا إلى اللحاق بالنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان يوم فتح "تستر" من بلاد فارس، وفيها: حصلت له قصته البطولية الثانية، فقد تحصن الفرس في إحدى القلاع الممردة، فحاصرهم المسلمون، ولما طال الحصار، واشتد البلاء على الفرس، جعلوا يدلون من فوق أسوار القلعة، سلاسل من حديد، علقت بها كلاليب من فولاذ، حميت بالنار، حتى غدت أشدَّ توهجا من الجمر، فكانت تنشب في أجساد المسلمين، وتَعْلَقُ بهم، فيرفعونهم إليهم إما موتى، أو على مشارف الموت، فعلِق كلاب منها بأخيه أنس بن مالك.
فقالوا له: يا براء أدرك أخاك، فأقبل مسرعا، فما إن رآه قد رفعوه إليهم، حتى وثب على جدار الحصن، وأمسك بالسلسلة التي تحمل أخاه، وجعل يعالج الكلاب ليخرجه من جسده، فأخذت يداه تحترقان، وتدخنان فلم يأبه لها، حتى قطع الحبل ثم نظر إلى يديه، فإذا عظامه تلوح قد ذهب ما عليها من اللحم، وأنقذ أخاه من تلك الكلاليب.
وفي تلك المعركة قتل البراء يومها مئة مبارز، حتى إذا كان آخر الزحف، أتى المسلمون للبراء، وقالوا له: "أقسم على ربك يا براء ليهزمنهم لنا"؛ لأنه كان مجاب الدعوة، وإذا أقسم على الله أبر الله قسمه.
فقال: "أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبيك -صلى الله عليه وسلم-".
فبر الله بقسمه، ونصر المسلمين على الفرس، حتى أدخلوهم الخنادق، واقتحموها عليهم، وهزموهم شر هزيمة، وقبل البراء شهيدا فيها، حتى قال أنس -رضي الله عنه-: "شهدت فتح "تستر" وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح، فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس، وما أحب أن لي بتلك الصلاة حمر النعم".
أيها المسلمون: هذا هو البطل، وتلك شجاعته، وقد نال هذا البطل مناقب عدة:
أولها: محبة الله له؛ فعن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ".
وما نال تلك المنقبة العظيمة إلا بسبب إيمانه العميق الذي تنور به قلبه، وظهر في شدة جهاده للكافرين.
وثانيها: شجاعته النادرة التي اتصف بها، وإقدامه الذي لا يعرف الخوف، حتى حذر عمر أن يولى البراء قيادة جيش فيهلكه بإقدامه.
والسبب في شجاعته؛ صدق توكله على الله، ويقينه الجازم بالله، واعتقاده أنه لا يحصل له إلا ما كتب الله له، ولو اجتمعت عليه قوى الأرض كلها.
وثالثها: حصول الشهادة له كما توقع وطلب، وفي ذلك دليل على عظيم ثقته بربه، وكثرة لجوئه إليه، فإنه لما طلب منه المسلمون أن يدعو لهم بالنصر فعل ذلك، وزاد طلب الشهادة، فاستجاب الله دعاءه، وأكرمه بالشهادة.
وفي ذلك دليل واضح على زهده في الدنيا، وإقباله على الآخرة، إذ لو كان يريد الدنيا لطلب أن يمتَّع بأموال الكافرين والغنائم التي تسلب منهم، ولكنه آثر ما يبقى على ما يفنى، وذلك خير له وأبقى: (وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأعراف: 169].
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].
فرضي الله عن البراء، وجعلنا من أهل الآخرة العاملين لها، والمؤثرين لها على ما سواها؛ أنه سميع مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي خير المرسلين....
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].
أيها المسلمون: هذا غيظ من فيض من بطولات البراء بن مالك -رضي الله عنه-، ولنا مع بطولاته بعض الدروس والعظات؛ لعل الله أن يحيي بها قلوبنا، وينور بها بصائرنا، ويجعل لنا فيه الأسوة الحسنة، والقدوة التي تحتذى:
أولها: أن المؤمن له قيمة غالية عند الله، ومحبوب لديه؛ يدل على ذلك قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) [الفرقان: 77]ٍ.
وقوله تعالى في القدسي: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
فقد كان البراء محبوبا عند الله، مستجاب الدعوة، لو أقسم على الله لأبره، وقد سأل ربه، فتحقق له سؤله، فقد دعا الله أن ينصر المسلمين، وأن يرزقه الشهادة، فكان كما أراد.
وثانيها: أن قيمة العبد عند ربه ليست بحسب شكله وجمال مظهره، وإنما مكانته عند الله على حسب قوة إيمانه وعمله لدينه، وقد يكون بين الناس لا يؤبه له لشدة فقره أو دمامة خلقته، فيزدريه الناس ولا يهتمون به، فذاك زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ أَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَالرَّجُلُ لَا يُبْصِرُهُ، فَقَالَ: أَرْسِلْنِي مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟" فَقَالَ زَاهِرٌ: تَجِدُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ كَاسِدًا، قَالَ: "لَكِنَّكَ ِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ" أَوْ قَالَ صلى الله عليه وسلم : "بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ".
وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ؛ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ".
لقد كان البراء أشعث أغبر لا يؤبه له، يزدريه من رآه لنحالة جسمه، وضعف بدنه، ولكنه بسبب إيمانه القوي بالله، وإقباله على مولاه، وزهده في الدنيا، وتطلعه للآخرة؛ ينال محبة الله ورضاه، حتى أصبح مجاب الدعوة، لو أقسم على الله لأبر الله قسمه.
وما الذي يريده المسلم أكثر من أن يحبه الله، ويستجيب له إذا دعاه؟
فعلى كل مسلم يريد محبة الله أن يكون عمله لدينه وإخلاصه لربه أهم شيء لديه، حتى لو سخط الناس عليه، وازدروه واحتقروه، فإن ذلك لا يضره ما دام قلبه صادقا، وعمله لله خالصا، فإن الله -تعالى- يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"[مسلم].
وفي البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه-: أَنَّهُ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ هَذَا وَاللَّهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ.
قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".
وما ينبغي أن يعلم أن العبد الصالح إذا لم تكن له مكانة في الدنيا، فإن ذلك لا يعني أبدا السماح لأحد باحتقاره وازدراءه، بل هو أمر محرم، وصاحبه متوعد بالحرب من قبل الله؛ كما جاء في الحديث القدسي: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا، فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ".
وثالثها: أن الصلاة يجوز تأخيرها لعذر القتال حيث صلى الجيش صلاة الصبح بعد طلوع الشمس لانشغالهم بقتال العدو، وكان أنس بن مالك، وهو الصحابي المحافظ على الصلاة، يقول: "ما أحب أن لي بها حمر النعم".
ويدل على ذلك ما حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه في يوم الخندق، فلم يصلوا العصر إلا بعد غروب الشمس؛ فعَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ".
وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْأَحْزَابِ: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ".
فقد أخرها بعض أصحابه إلى ما بعد غروب الشمس، ولم يعنفهم، ولم ينكر عليهم.
أيها المسلمون: أقول هذا الكلام، وإلى الله المشتكى من أناس يؤخرون الصلاة عن أوقاتها من غير عذر، بل من أجل النوم، أو الرياضة، أو الوظيفة، وحب الدعة والراحة، والتهاون والكسل، والويل لهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم، ويعودوا إلى خالقهم، ويصلوا الصلوات كلها مع جماعة المسلمين.
ورابعها: أن أهل الصلاح والتقى هم الملجأ بعد الله للناس، في أوقات الشدائد والأزمات والمحن، وأنه يجوز اللجوء إليهم وقت الشدائد بطلب الدعاء منهم؛ كما فعل المسلمون يوم "تستر" لما لجأوا إلى البراء، وطلبوا منه أن يدعو ربه، ويقسم عليه بأن ينصرهم.
وخامسها: جواز تمني الشهادة والتعرض لها في ميادين القتال؛ كما فعل البراء، وإن ذلك لا ينافي قوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195].
وسادسها: أن المؤمن الصادق دائم التطلع إلى الآخرة، طامعا في الشهادة في سبيل الله والجنة، فالبراء كان متطلعا للشهادة، محسنا للظن بربه أنه لن يميته على فراشه.
وليعلم أن المسلم إذا دعا الله بصدق أن يرزقه الشهادة في سبيله، فإن الله يبلغه أمله، ويوصله إلى مطلوبه؛ بنيته الصالحة، وعزمه الصادق، حتى ولو مات على فراشه؛ فعن سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"[مسلم].
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، والموت تحت راية الإسلام، مقبلين غير مدبرين؛ بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد