تأمل في قضية غض البصر


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الأمر بغض البصر، يجب أن ينظر له كقضية، يعيشها الفرد المسلم داخل مجتمع، وهذه القضية فيها أرباح، وفيها خسائر، وكل منهما متعلق بإخلاص الناظر لنضاله فيها.

 

وغض البصر إذا تأملت قضيته، وجدته متعلقا بمسألة معرفية، إن مطلق البصر شخص محب لتحصيل معرفة بالمنظور فيه، وكيفية حصول الأمر حسب التحليل الموافق لأصول ابن تيمية في المعرفة:

 

هو أن البصر عبارة عن أداة معرفية حسية مباشرة، غاية البصر أن ينقل الصورة إلى الدماغ، والدماغ يقوم بوظيفتي النظر والفكر، فيحلل الصورة المنقولة، ويجردها، وسرعان ما يقع إعمال للخيال، فخاصية النظر في النساء بمبدأ الشهوة لم تكن في الدماغ يوما موقوفة على مجرد إدراك الصورة، لأن استفراغ الشهوة متعلق بالجِماع، فلا بد من إعمال الخيال لما يلزم من ذلك في الحالة الطبيعية، لذا ورد عن بعض الأشياخ ما معناه أن العين إن رأت الوجه الحسن، مباشرة ينتقل الدماغ لمرحلة تحفيز الخيال على تخيل باقي الجسد انطلاقا مما رأت الباصرة.

 

هذه الصورة المنظور فيها، والتي نُقِلت للدماغ أولا، بما أنها بدافع الغريزة، فإن إشباع الغريزة يتطلب الشعور باللذة! وذي اللذة عبر عنها علماء الدماغ والمختصين في قضايا الإدمان بأنها عبارة عن جرعة دوبامين، يفرزها الدماغ من شأنِها إمداد المستلذ بالشعور بالرضى. صفقة جيدة! لكن؟

 

وفق طرح ابن تيمية المعرفي، فإن جزء كبير من البديهيات إنما يتشكل عبر عملية التكرار، فجمع رقم ١ مع رقم ١ ينتج عنه رقم ٢ هو مسألة أو قضية بديهية! لشدة تكرارها، لكن جمع ٩٤ مع ١٧٨ يحتاج نظرا، لأنّا لم نكرر ذي القضية. فلا تمتاز بالبداهة في أذهانِنا.

 

وعليه، فما يتفرع عما سبق هو أن تكرار عملية النظر، يتكرر معها ضرورةً نظر الدماغ وفكره في المنظور، لكن هل تتكرر نفس اللذة؟

 

يقول ابن تيمية ما معناه؛ أن مطلِق البصر في النساء يأتي عليه زمان، يصير فيه إطلاق البصر بداهة فعلية لا يطيق التخلص منها، مع انعدام اللذة بالمنظور فيه، لماذا؟

 

لأن الدماغ —بسبب التكرار يوميا— اعتاد على نفس الصور فلم يعد يلتذ بها لأنها صارت عادات، مع عدم القدرة على التخلص منها لأن العادة هنا صار الدماغ مدمنا على تعاطي مادتِها بصورة منظمة، تتعلق بمادة الدوبامين التي اعتاد الدماغ على إفرازها في الدم، تُشعر الجسم بالارتخاء والرضى والراحة والانتشاء. فالجسم صار مفتقرا في راحته —العادية— لتلك الصور والمناظر، أعني تلك الراحة التي كان يحصل عليها من دون نظر. بفعل عبادات كالصلاة، أو عوائد أخرى مباحة كالقراءة والجري، والأكل، وتناول الحلويات، المشي... فما الحاصل إذا أردنا أن نمنع الدماغ من تعاطي هذه المادة عبر الحس المباشر؟

 

ابن تيمية لا يعتبر الحس المباشر وحده مصدرا معرفيا، وإنما يعتبره الأصل، ويقول أن الخبر والقياس، فرعان مبنيان على الحس، وعليه فإن مُنِع الدماغ من وصول الصورة إليه عن طريق الحس أو النظر المباشر، فسوف يعمد إلى القياس أو العقل، فيتطرق إلى اللذة بقياس ما شاهد على ما غاب عنه عبر تخيل بعض الصور التي رآها ”محترمة“ كامرأة تسير في الطريق ثم ربطها بما رأى من صور رآها غير محترمة ”كالأفلام الإباحـ. ية“ فما شاهد في الواقع وبقي متذكرًا له، قام بترجمته عبر التصور الذهني إلى مشهد إبا.حي رآه الأسبوع الماضي، فقط لغاية الظفر بجرعة لا بأس بها من الدوبامين.

 

فإن عُدِم النظر لمدة تسمح بنسيان الصور والأفلام، فالسبيل الوحيد الذي يبقى للدماغ كي يفرز الدوبامين ويحافظ على راحة الجسد، هو أن يتطرق للالتذاذ انطلاقا من المعرفة الحاصلة بالخبر، فتجد البعض مدمنا بالدرجة الأولى على القصص الجنسـ. ية —الخبرية—  ظانًا أنه مقلع عن إطلاق البصر في النساء، وليس الأمر سوى حيلة تحقق نفس الغاية المحققة في النظر الحسي المباشر. إن دماغه يتحايل كي يبقيه مستعبدا بصورة دائمة!.

 

ها! ظهر لنا أن الأمر معقد، لم يعد مجرد نظرة عابرة تنتهي مع عقد الزواج بإحداهن! غض البصر غايته العظمى لك اسريًا؛ هي أن تتصرف مع زوجتك كرجل طبيعي، لم يعتد دماغه على تحصيل تلك اللذة بطريقة غير شرعية، وإنما استقبل اللذة التي خُلق دماغه مستقبلا بطريق طريعي سوي نيّر لا إثم فيه ولا عشق للصور، وإلا فنحن نرى كثيرا من المتزوجين لا نقول أنهم لم يكتفوا بزوجاتهم برغباتهم، وتطرقوا للنظر في نساء أخريات، وإنما نقول أنهم مرضى أطبق عليهم الإدمان، إن الصور والنساء تستعبد أدمغتهم بصورة دائمة!. وهم بهذا المرض انطوت صدورهم على قلوب ذليلة مذللة لكل امرأة، مصابة بالمهانة ولا عزة فيها. وهؤلاء حقا قد وقع عليهم قول ابن المقفع رحمه الله وغفر له:

 

ومن البلاء على المُغرَمِ بهِن [النساء] أنه لا ينفك يأجم ما عنده وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن، وإنما النساء أشباه...، ولا يزال مشغُوفًا بما لم يذق حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأنا غير شأن مَا ذاق، وهذا هو الحُمق والشقاء“.

 

وأما قولي عن الخسائر والأرباح، فإني أصدقكم القول أن غض البصر في نظري إنما يجب أن يعاش كقضية، تراقب نفسك هل أنت مخلص في فيها أم خائن، كم نظرت اليوم وكم نظرت بالأمس، وتحاور نفسك، وهل كافحت للظفر بالربح، أم تهاونت، وهل بعت القضية بشهوة ساعة، أم ثبتت كثبات جبل لا يهتز برياح تعبر، وعليك يا مؤمن أن تحاور نفسك وتحاسبها تلفظا، ولا اقتصارا على حديث النفس، فإنه مدهون بالزباد، حتى إذا استوت عندك النساء والجدران، كنت الفائز بالنعيم، وكفى الله المؤمنين القتال.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply