حدود التسامح الدِّيني عند الأب الروحي للتسامح الغربي جون لوك


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

لم يولد التسامح الديني في الغرب تلقائيًا أو من خلال الإيمان بحقوق المختلف، أو من القناعة الذاتية بأهمية التنوع الديني أو ضرورته، وإنما ولد التسامح وغيره من المبادئ المتشابه هناك من دوامة عنف يصعب على العقول تصورها!

لقد عاش الفيلسوف جون لوك (1632-1704م) في أوروبا المسيحيَّة، في عصر الصراعات السياسية والانشقاقات الدينية، التي تسببت في اندلاع حروب أهليَّة مدمرة  وثوارت دينية دموية ووحشية، حيث شهدت أوروبا شلالات الدماء الهائلة، وحروب الاستئصال البشعة، ومحاكمات الاضطهاد، والنفي والطرد والابعاد.

شاهد جون لوك بعينيه تلك الأزمات وعاشها وذاق طعمها، فراعه ما سببه التنوع العقائدي داخل المسيحيَّة من تدمير ممنهج للقارة الأوروبية، والذي سينتهي بها لا محالة -إن استمر- إلى الإبادة والتدمير، فرأى أنه لا بد من إيجاد حلولٍ توقف حمامات الدم تلك على أساس الاختلافات الدينية والمذهبية.

لقد كان يُنظر إلى التنوع الديني بوصفه شرًّا واقعيًّا، وليس أمرًا محمودًا بذاته، شرًّا يفترض حلًا وإلا سينتج شرًّا أعظم منه، فكان الحل المتاح هو: التسامح الدِّيني، أي التنازل عن الإيمان بأحقيَّة الحقيقة والاعتقاد بالحق، وأنه وحده يستحق فقط البقاء دون سائر البدع والهرطقات.

هذا التنازل هو الضمانة الوحيدة -في نظر جون لوك وغيره- التي ستسمح لأن يعيش الدين الحق بجوار مذاهب البدعة المسيحيَّة الأخرى المختلفة والمتعددة، ومن دون هذا التنازل والتسامح الديني داخل المذاهب المسيحيَّة فإن بقاء الناس في أوروبا واستقرارهم وسلمهم المدني مهدد بالزوال والانقراض.

وهكذا أخذ جون لوك يُقَعِّدُ لمبادئ التسامح والتنازل الديني في الغرب، ويبين أنه ضرورة ملحة في مواجهة شرٍّ أعظم وهو التنوع الديني والانشقاقات المذهبية التي تعيشها أوروبا منذ عقود، والتي جعلت أوروبا ساحة للدماء والدمار، ساحة للطرد والنفي، ساحة للصراع والحروب الطاحنة.

لكن الفيلسوف جون لوك مع حماسته الشديدة تجاه مبادئ التسامح الديني التي قررها ونضال عنها، إلا أنه اعتقد أن التسامح يجب أن لا يكون مطلقًا مع التنوع الديني، فلا بد أن يكون له حدوده وضوابطه، وإلا عاد التسامح بذاته أداة تدمير وتخريب للمجتمعات والنظم والأفراد.

 

وهذه الحدود والضوابط هي:

أولًا: أنَّ هذا التنوع الديني المسموح به بما فيه من تصرفات ومعتقدات يجب أن لا تؤدي إلى اضطراب النظام العام، ولا بإلحاق الأذى بالمصلحة العامة للناس، فإذا أدى التنوع الديني إلى ذلك فلا تسامح معه، بل ولا يسمح بوجوده أو بقائه.

ثانيًا: أن الطوائف الدينيَّة المسيحيَّة التي لا تشكل خطرًا بتصرفاتها ومعتقداتها على النظام العام للدولة والمجتمع، ولكنها تتبع بولائها ومرجعيَّتها إلى جهة أجنبيَّة -وذلك بطبيعة الحال يؤدي إلى إضعاف الدولة وتفكيك المجتمع- يجب عدم التسامح معها ولا السماح لها بالوجود والبقاء.

ويضرب على ذلك هذا المثال: (طائفة الروم الكاثوليك)، فهؤلاء طائفة دينية مرجعيتها البابا والفاتيكان في روما، ولا يمكن أن يوثق بهم، لاستبعاد أن يتحقق منهم الولاء  والحيادية ما بين مرجعيتهم الدينية وولائهم لها خارج البلاد، وما بين مرجعيتهم السياسية داخل البلاد.

ثالثًا: أن الجماعات التي ترفض جميع المذاهب المسيحية، وتختار الإلحاد، هي جماعات لا يمكن قبول التسامح معها ولا السماح لها بالبقاء والوجود في المجتمع والدولة. والسبب أن هؤلاء لا يؤمنون بإله، ومن لا يؤمن بإله -في اعتقاد جون لوك- فلا يمكن الوثوق به ولا بولائه ولا وعوده ومواثيقه.

وهذه النقطة الأخيرة التي ذهب إليها الفيلسوف جون لوك، شاركه فيها من قبل كبار من الفلاسفة اليونانيين كأفلاطون وغيره، وكثير من فلاسفة الرومان، الذين اعتقدوا أن الإلحاد أو الردة عن الدين أمر لا يقبل التسامح معه ألبتة، لأن فيه تهديد للسلم المجتمعي وللنظام العام ولمصلحة الناس.

في ملاحظة جيدة، يشير المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إلى أنَّ التسامح في الإسلام دينيٌّ في أصله، أما في الغرب المسيحي فالتسامح أصله لا ديني. بمعنى أنه كلما تمسك المسلم بدينه الحقيقي كلما كان أكثر رحمة، بينما الغربي المسيحي العكس، أي كلما جحد حميته الدينية كلما كان أكثر تسامحًا!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply