بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الفتوى شأنها عظيم، وخصوصًا في عصرنا التي أصبحت الفتوى تنقل فيه عبر وسائل الإعلام وقنوات التواصل في برهة من الزمن، إلى الملاين من الناس، فرحم الله من جعل بينه وبين الفتوى التي تبثّ مباشرة حاجزًا، وسدًا منيعًا. فالفتوى ابتلاء، وقد تحرز منها الكثير من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، فالمتقدمين أخبارهم في ذلك مشهورة مبثوثة في كتب التراجم والسير، ومن المتأخرين:
العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله المتوفى سنة ( 1389هـ) المفتي العام لبلاد الحرمين سابقًا، قال عنه تلميذه العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله: كان واسعَ العلم، ومع ذلك كان يجيب الكثير من السائلين بقوله: (لا أدري)، ويحثُّ الطلبة على عدم التسرع في الإجابة، ويقول لهم: إن كلمة (لا أدري) نصفُ العلم.
ومنهم: العلامة الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي رحمه الله المتوفى سنة (1393هـ) صاحب التفسير النافع المشهور " أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن " غلب عليه رحمه الله في السنوات الأخيرة من حياته التحرز الشديد من الفتيا، والتباعد عنها، وكان إذا اضطره أحد إلى الجواب يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئًا، العلماء يقولون كذا وكذا.
ولما سُئل عن ذلك أجاب بقوله: إن الإنسان في عافية ما لم يُبتل، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا؟ فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه.
ومنهم: العلامة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله، المفتي العام لبلاد الحرمين سابقًا يقول عنه تلميذه الشيخ عبدالعزيز بن محمد السدحان: والذي يسمع فتاوى سماحة الشيخ أو يسمع دروسه يعتادُ على كلمة " لا أعلم "، أو " لا أدري "، أو " الله أعلم "، أو " يحتاج الأمر إلى بحث ".
للسلف أقوال في الفتوي يسّر الله فجمعت بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
** قال عكرمة: قال لي ابن عباس: انطلق فأفتِ الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس.
** قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق.
** قال مالك: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
** قال ابن عيينة وسحنون: أجسرُ الناس على الفتيا أقلهم علمًا.
** قال سفيان: أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا حتى لا يجدوا بد من أن يفتوا...أعلم الناس بالفتيا أسكتهم عنها وأجهلهم بها أنطقهم فيها
** قال سحنون: ما وجدت من باع آخرته بدنيا غيره إلا المفتي، وسرعة الجواب بالصواب أشد فتنةً من فتنة المال.
** قال سفيان بن عيينة: إذا ترك العالم _ لا أدري _ أصيبت مقاتله....وكان إذا سئل عن شيء يقول: لا أحسن، فيقول السائل: من نسأل؟ فيقول: سل العلماء.
** قال ابن وهب: لو شئت أن أملأ ألواحي من قول مالك بن أنس: لا أدري فعلت
** قال ابن مهدي: سأل رجل مالكًا عن مسألة، فقال: لا أحسنها، فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها، فقال له مالك: فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم أني قد قلت لك: إني لا أحسنها.
** قال الشعبي: إذا سئلت عما لا تعلم، فقال: الله أعلم به، فإنه علم حسن.
** عن خلف بن عمرو قال: سمعتُ مالك بن أنس يقول: ما أجبت في الفتيا حتى سألت من هو أعلم مني هل يراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقلت له: يا أبا عبدالله، فلو نهوك؟ قال: كنت انتهي، لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه.
** قال ربيعة بن عبدالرحمن: إذا سئلت عن المسألة فاطلب الخلاص منها لنفسك، ثم للذي سألك.
** قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
** قال الإمام مالك: جنة العالم: " لا أدري " ، فإذا أغفلها أُصيبت مقاتله.
** قال ابن هرمز: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده: لا أدري، حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال: لا أدري.
** سئل مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري
** قال عثمان بن عاصم الأسدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة التي لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لجمع لها أهل البدر.
** قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت أحدًا فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أكف عن الفتيا منه.
** قال إسماعيل بن أبي أويس: كان مالك لا يفتي حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله
** قال القاضي أبو يوسف، أكبر تلاميذ الإمام أبي حنيفة: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه، إلا ما وافق الكتاب والسنة.
** الحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه، سُئل عن مسألة، فأخطأ فيها، فلما ذهب السائل ظهر له الحق، فاكترى مناديًا فنادى: إن الحسن بن زياد استُفتى فأخطأ في كذا، فمن كان أفتاه الحسن في شيء فليرجع إليه، فما زال حتى وجد صاحب الفتوى وأعلمه بالصواب.
** قال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله:
-إذا علِم العالم أعظم السنن، وكان ذا فهم ومعرفة بالقرآن، واختلاف من قبله من العلماء، جاز له القول بالفتوى. وبالله التوفيق.
-من سأل مستفهمًا راغبًا في العلم، ونفي الجهل عن نفسه، باحثًا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال. ومن سأل...غير متفقه، ولا متعلم، فهذا لا يحل قليل سؤاله، ولا كثيره.
** قال الإمام النووي رحمه الله:
-يستحب للعالم إذا سئل عن شيء، ويعرف أن غيره أعلم منه به، أن يرشد السائل إليه، فإن الدين النصيحة، ويتضمن مع ذلك الانصاف والاعتراف بالفضل لأهله، والتواضع.
-ينبغي للعالم إذا سئل عما لا يعلم، أن يقول لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه، وتقواه، ووفور علمه.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله:
-قلَّ من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه، واضطرب في أمره وإن كان كارهًا لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يُحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب.
-حقيق بالمفتي أن يُكثر الدعاء بالحديث الصحيح: (اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل...الحديث)، وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: "يا معلم إبراهيم"، ويكثر الاستعانة بذلك، وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 32]، وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكان مالك يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، وكان بعضهم يقول: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25 - 28].
وكان بعضهم يقول: اللهم وفِّقني، واهدني، وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان.
وكان بعضهم يقرأ الفاتحة وجرَّبنا نحن ذلك، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: المسائل التي يحصل فيها خصومات عند القضاة كلها ساد لباب عن الفتوى فيها
** قال العلامة العثيمين رحمه الله:
-المفتي إذا أفتى... يكون هو أول الناس عملًا بهذه الفتوى.
-إننا نُحذر إخواننا طلبة العلم والعامة أيضًا أن يفتوا بلا علم، بل عليهم أن يلتزموا الورع، وأن يقولون لما لا يعلمون: لا نعلم، فإن هذا والله هو العلم...فإني أُعيدُ وأكرر: التحذير من الفتوى بغير علم، وأقول للإنسان: أنت في حلٍّ إذا لم يكن عندك علم أن تصرف المستفتي إلى شخص آخر، وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا سُئل عن شيء ولا علم له به، يقول: أسأل العلماء.
-الإنسان إذا توهَّم حكمًا دلَّ عليه الكتاب والسنة والجمهور على خلافه فإن الواجب عليه أن يتأنى وألا يُقدم على الفتوى به أو العمل به، لأن مخالفة جمهور العلماء لها قيمتها ووزنها، كيف يكون جمهور العلماء على هذا وأنت تفهم شيئًا آخر؟ تأنَّ في الموضوع ولهذا نجد الذين يتسرعون الآن إلى الأقوال الشاذة يكثرُ منهم الخطأُ
-ما كان عليه الناس؛ أي: ما أقرَّه علماءُ البلد لا تتسرَّع في مخالفته؛ لأن أُمَّةً قامت على العمل بهذا الرأي مع وجود علمائها ليس بالأمر الهيِّن أن يُنقل إلى رأي آخر بدون دليل واضح، على أن القول الذي هم عليه قول مرجوح؛ ولذلك تجد العامة إذا أفتى إنسان بخلاف ما يعهدونه يقولون: أتى بدين جديد؛ ولذلك إذا رأيت قولًا صوابًا لا إشكال فيه مُخالفًا لما عليه علماء البلد فاجتمِعْ بالعلماء، وناقِشْهم وبيِّن لهم الصواب، واتَّفِقُوا على قولٍ، والحقُّ ضالَّةُ المؤمن.
-من آداب طالب العلم الواجبة ألَّا يتسَرَّع في الإفتاء؛ لأن المفتي مُعبِّر عن شريعة الله ورسوله، فإذا أفتى على وجهٍ لا يجوز له فيه الفتوى كان كاذبًا على الله ورسوله، والعياذ بالله، وما أسرع الذين اتَّخذُوا الإفتاء مهنةً للرِّفْعة، فصاروا يتصدَّرُون للإفتاء بغير علم، وهؤلاء من أشدِّ الناس ضرَرًا بالأُمَّة!
-الإفتاء بغير علم مع كونه محرَّمًا خلاف الأدب مع الله ورسوله، فإن الإفتاء بغير علم تقدَّم بين يدي الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الحجرات:1] إننا نُحذِّر إخواننا طلبة العلم والعامة أيضًا أن يفتوا بلا علم، بل عليهم أن يلتزموا الوَرَع، وأن يقولوا لما لا يعلمون: لا نعلم، فإن هذا والله هو العلم.
-كل إنسان يُفتي بغير علم فإنه ظالم لنفسه، وظالم لإخوانه، ولا يُوفَّق للصواب؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51]، فعلى هؤلاء أن يتَّقوا الله في أنفسهم، وأن يتَّقوا الله في إخوانهم، وألَّا يتعجَّلُوا، فإن كان الله أراد بهم خيرًا ألهمهم رشدهم، ورزقهم العلم، وصاروا أئمة يُقتدى بهم في الفتوى، فلينتظروا وليصبروا، أما بالنسبة للمستفتين، فإننا نُحذِّرهم من الاستفتاء لأمثال هؤلاء، ونقول: العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم والحمد لله موجودون، فيمكنهم الاتصال عليهم بالهاتف، فيحصل المقصود إن شاء الله.
-أوصي المدرسين أن يعنوا بتوجيه الطلبة وأن يحثوهم على التثبت في الأمور، وعدم العجلة في الفتوى والجزم في المسائل إلا على بصيرة، وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك، بالتوقف عما يُشكِل، والوعد بالنظر فيه بعد يوم أو يومين، أو في الدرس الآتي؛ حتى يتعود الطالب من الأستاذ عدم العجلة في الفتوى والحكم، ومن الأخلاق الكريمة أن يُعوَّد الطالب كلمة "لا أدري"، مع التحذير من الفتوى بغير علم، والجرأة عليها
** قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: يستحسن قرن الفتوى بأدلتها الشرعية من الكتاب والسنة.
وختامًا فقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " أعلام الموقعين عن رب العالمين " [ج5] سبعين فائدة تتعلق بالفتوى، فليرجع إليها من أحب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد