الصدق في الإيمان والأعمال والأقوال والنيات


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

"وَمَن أَصدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلا"

يقول الحق تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل صدق الله) فمن صفات الرب سبحانه وتعالى الصدق فهو سبحانه أصدق القائلين، صدق سبحانه وتعالى في إنجاز وعده لعباده المتقين فقال تعالى ﴿وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ سَنُدخِلُهُم جَنَّـٰت تَجرِی مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَا أَبَدا وَعدَ ٱللَّهِ حَقّا وَمَن أَصدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِیلا﴾ النساء ١٢٢. وصدق سبحانه فيما يخبر به العباد فقال تعالى: ﴿ٱللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ لَیَجمَعَنَّكُم إِلَىٰ یَومِ ٱلقِیَـٰمَةِ لَا رَیبَ فِیهِ وَمَن أَصدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِیثا﴾ النساء ٨٧. وهو صادق سبحانه في كلماته وكلامه وأوامره ونواهيه فكلها صدق وحق لا ريب فيها كما قال تعالى ﴿و َتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدقا وَعَدلا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلعَلِیمُ﴾ الأنعام ١١٥ وهو سبحانه يحب الصدق ويأمر به ويثيب عليه كما قال تعالى﴿یَـٰأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَكُونُوا مَعَ ٱلصَّـٰدِقِینَ﴾ التوبة ١١٩ وأعد سبحانه وتعالى لإهل الصدق فضلا عظيما وأجرا كبيرا فقال تعالى ﴿قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ۚ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾ المائدة 119. وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ۝٥٤ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ۝٥٥﴾ سورة القمر . وصدق سبحانه وعده لإوليائه فتذاكر أهل الجنة ما من عليهم بوفاء وعده جزاء عملهم في حياتهم الدنيا فقال تعالى عنهم﴿ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُۥ وَأَوْرَثَنَا ٱلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ ٱلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ۝٧٤﴾الزمر.ويبتلي الله المؤمن والصادق ليتميز الصادق منهم والكاذب كما قال تعالى﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَٰذِبِينَ﴾ العنكبوت 3.

 

صدق المؤمنين: المؤمنون مصدقون بكلام الله وشرعه وعاملون بما صدقوا به وداعون إليه قال تعالى ﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً۝٢٣ لِّیَجۡزِیَ ٱللَّهُ ٱلصَّـٰدِقِینَ بِصِدۡقِهِمۡ وَیُعَذِّبَ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ إِن شَاۤءَ أَوۡ یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا۝٢٤﴾ سورة الأحزاب . وقد صدق سبحانه وعده لإنبيائه ورسله وأوليائه فقال جل وعلا ﴿ ثُمَّ صَدَقۡنَـٰهُمُ ٱلۡوَعۡدَ فَأَنجَیۡنَـٰهُمۡ وَمَن نَّشَاۤءُ وَأَهۡلَكۡنَا ٱلۡمُسۡرِفِینَ ﴾ الأنبياء ٩ . فصدق وعده سبحانه مع إبراهيم عليه السلام ونجاه من النار وصدق وعده سبحانه مع يونس عليه السلام فنجاه من الظلمات الثلاث، ظلمة بطن الحوت وظلمة لجج البحر وظلمة الليل وصدق وعده سبحانه مع يوسف عليه السلام فنجاه من غيابت الجب (بئر الصحراء) وصدق وعده سبحانه مع موسى عليه السلام فنجاه من عدوه فرعون ونجاه من الغرق في اليم والبحر وصدق وعده سبحانه مع نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فنجاه من المشركين والكافرين أجمعين، ومن أسماء الله الحسنى (المؤمن) ومعناه المصدق لرسله بإظهار آياته عليهم والمصدق للمؤمنين فيما وعدهم به من الثواب والعاقبة الحسنة، ومصدق للكافرين ما وعدهم من العقاب والعذاب والنار.

 

صدق الإيمان والعمل: وأعظم الصدق الصدق في الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلٍ "ما مِن أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا اللهُ، وأَنِّي رسولُ اللهِ، صِدْقًا من قلبِه إلا حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ* وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسول الله: كمِ افترضَ اللَّهُ على عبادِهِ منَ صَّلاةٍ؟ قالَ: خمسٌ قالَ: هل قبلَهنَّ أو بعدَهنَّ من شيءٌ؟ قالَ: افترضَ اللَّهُ على عبادِهِ صلواتٍ خمسًا، فحلفَ الرَّجلُ لا يزيدُ عليْهنَّ ولا ينقُصُ فقالَ رسولُ اللَّهِ : أفلحَ إن صدقَ – أو - إن صدقَ دخلَ الجنَّةَ ، لذلك يقول تبارك وتعالى ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ الأحقاف ١٦. ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدۡخِلۡنِی مُدۡخَلَ صِدۡقࣲ وَأَخۡرِجۡنِی مُخۡرَجَ صِدۡقࣲ وَٱجۡعَل لِّی مِن لَّدُنكَ سُلۡطَـٰنࣰا نَّصِیرࣰا ﴾ االإسراء 80.  والمعنى: رب اجعل مداخلي ومخارجي كلها في طاعتك وعلى مرضاتك فيكون كلامك صدقا وسماعك صدقا وجلوسك صدقا وعملك صدقا ومجلسك صدقا مع أصحاب صادقين مؤمنين يعينونك على الحق ويدلونك عليه.

 

صدق النيات: جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فآمَنَ بِهِ واتَّبعَهُ وقالَ: أُهاجرُ معَكَ فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ فلمَّا كانَت غزوةٌ ، غنِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيها أشياءَ ، فقَسمَ وقسمَ لَهُ فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم . فلمَّا جاءَ دفَعوا إليهِ فقالَ: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسمَهُ لَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ . فأخذَهُ فجاءَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا مُحمَّدُ ، ما هذا ؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ . قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا وأشارَ إلى حلقِهِ بسَهْمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنَّةَ . فقالَ: إن تَصدُقِ اللَّهَ يَصدُقْكَ فلبثوا قليلًا ، ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ ، فأتى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُحمَلُ ، قد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ . فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَهوَ هوَ ؟ قالوا: نعَم قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ وَكَفَّنَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جُبَّةٍ ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ . فَكانَ مِمَّا ظَهَرَ مِن صلاتِهِ عليهِ: اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ ، خرجَ مُهاجرًا في سبيلِكَ ، فقُتلَ شَهيدًا ، أَنا شَهيدٌ علَيهِ قال تعالى: ﴿۞ وَمَن یُهَاجِرۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یَجِدۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُرَٰغَمࣰا كَثِیرࣰا وَسَعَةࣰۚ وَمَن یَخۡرُجۡ مِنۢ بَیۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ یُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾ النساء 100

 

ثناء الله تعالى على الصادقين: قال تعالى ﴿ وَٱلَّذِی جَاۤءَ بِٱلصِّدۡقِ وَصَدَّقَ بِهِۦۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ۝٣٣ ﴾سورة الزمر ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ﴾ في قوله وعمله، فدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم ممن يصدقون بأخبار اللّه وأحكامه ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي: بالصدق لأنه قد يجيء الإنسان بالصدق، ولكن قد لا يصدق به، بسبب استكباره، أو احتقاره لمن قاله وأتى به، فلا بد في المدح من الصدق والتصديق، فصدقه يدل على علمه وعدله، وتصديقه يدل على تواضعه وعدم استكباره.﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الذين وفقوا للجمع بين الأمرين ﴿هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ فإن جميع خصال التقوى ترجع إلى الصدق بالحق والتصديق به.

كان عليه الصلاة والسلام يلقب بالصادق الأمين وكان يحب الصدق ويأمر به ويحذر من الكذب وينهى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالصِّدق، فإنَّ الصِّدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرَّجل يصدق، ويتحرَّى الصِّدق حتى يُكْتَب عند الله صدِّيقًا. وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجُور، وإنَّ الفُجُور يهدي إلى النَّار، وما يزال الرَّجل يكذب، ويتحرَّى الكذب حتى يُكْتَب عند الله كذَّابًا" وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "أربعٌ مَن كنَّ فيه، كان منافقًا، أو كانت فيه خصلة مِن أربعة، كانت فيه خصلة مِن النِّفاق، حتى يدعها: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".

جزاء الصادقين: قال تعالى: ﴿وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا ۝٦٩ ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِیمࣰا ۝٧٠﴾ النساء. ومن ثمرات الصدق : البركة في الكسب، وزيادة الخير، ففي الصحيح عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ – رضى الله عنه – قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – « الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا – أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا – فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا». ومن ثمرات الصدق: راحة الضمير، وطمأنينة النفس فعن الْحَسَنِ بْنِ عَلِىٍّ قَالَ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ». ومن ثمرات الصدق : النجاة من المكروه، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، والنجاة من المُهلِكات، كما يدل على ذلك قصة أصحاب الغار التي أخرجها البخاري ومسلم  أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ ، فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ» ، فدعا كل واحد منهم ربَّه بما عمِله من عمل صدَق فيه لله، وأخلص له فيه، فكان الفرج، ففرج الله لهم فرجة بعد أخرى، حتى خرجوا من تلك المحنة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply