بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في حياتي مرَّ بي أصدقاء من أعجب النَّاس، أو على الأقل بالنسبة لي. بعضهم عرفتُه أولًا من خلال كتاباته الشديدة القاسية المكفهرَّة الغليظة، فلما قابلتُه صدمت بطيبته وحيائه وسماحته ودعابته، ولا يمكن أبدًا أن تقول إنه هو صاحب تلك الكتابات!
وحصل أيضًا عكس ذلك، عرفتُه أولًا بشخصه، فإذا هو طيب وديع كالحمامة وأبيض كالسحابة، فيه خجل وحياء، يطيل السكوت، وحين وقفتُ على كتاباته صدمت! واستبعدتُ أن يكون صاحبها لشدة لغتها وقسوة عباراتها، مظلمة حزنًا وتشاؤمًا، فعجبتُ لذلك أشد العجب!
ظلت هذه الشخصيات بالنسبة لي محيرة، فهي في شخصيتها الهدوء الذي يسبق الإعصار، وفي كتاباتها الإعصار في ذروة نشاطه وضرباته، يستعصي عليَّ الجمع في خيالي بين الشخص الحقيقي وبين الشخص الكاتب، ولم هذه المفارقة العجيبة!
هل الكتابة هي التي تمثل الجانب الحقيقي من شخصية هؤلاء؟ أم شخصيتهم الحقيقيَّة هي الشخصيَّة التي تراها وتقابلها؟ يمكن أن تستحضر دهشتي حينما تقابل حمامة سلام في الواقع، لكن ترى أسدًا ضاريًا مفترسًا في الصفحات وبين السطور والكلمات!
كان الكاتب الأمريكي إدوين سلوسون (1929م) مندهشًا من شخصية فريدريك نيتشه (1900م) بحسب ما يسمعه من صديقه وصديق نيتشه في العمل؛ الفيلسوف الألماني رودلف أويكن (1926م)، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب، والذي عمل مع نيتشه في جامعة بازل في سويسرا.
يقول إدوين سلوسون: "كنتُ مهتمًا بصورة خاصة بما أخبرني به الأستاذ أويكن عن نيتشه، الذي كانت شخصيته وفلسفته في تناقضٍ عنيفٍ". حيث اشتهر نيتشه بأنه يقدس القوة ويسخر من الضعف والضعفاء.
يواصل إدوين سلوسون حديثه عن نيتشه، فيقول: "كان هذا المدافع عن الوحشية القاسية والساخر من التعاطف والرحمة، في الواقع، رجلًا رقيق القلب للغاية، لكنه خجول وحساس جدًا أن يحظى بشعبية؛ وعندما جُرِحَت مشاعره كتب ما شعر به بعاطفة في تلك اللحظة".
ثم يقص إدوين سلوسون قصة عن نيتشه تشرح هذا الجانب من شخصيته. حيث ذكر أن البروفيسور أويكن عادة ما يعمل في جامعة بازل مع نيتشه في لجنة امتحانات المرشحين لنيل درجة الدكتوراه في فقه اللغة الكلاسيكي. وفي مثل هذه الموقف الصعبة على الطالب كانت تظهر شخصية نتيشه رغمًا عنه.
يقول إدوين سلوسون إن نيتشه إذا لاحظ أن الطالب بدأ يظهر عليه ضعف في أداء الامتحان الشفهي، فسوف يلاحظ المرافق مع نيتشه في الامتحان مدى توتره، وسيرى أنه أصبح أكثر توترًا ولن يهدأ أبدًا وهو يرى ضعف وارتباك الطالب، وسوف يصبح غير قادر على احتواء نفسه بعد هذه اللحظة، حتى يتدخل بنفسه من أجل مساعدة الطالب، وذلك من خلال تقريب الإجابات له، مثل قوله: "لعلك تريد كذا، هذا ما أفترضه؟"، أو "ألا تقصد هذا أو ذاك؟"، حتى يوصل الطالب إلى الجواب الذي كان يجب أن يقوله في المقام الأول.
هذه المشاعر الملحة التي تظهر على شخصية نيتشه وهو يرى الطالب في لحظات الضعف والارتباك والخوف، تختلف اختلافًا كبيرًا بل ومناقضًا لما اشتهر من فلسفته! فمن هو نيتشه الحقيقي إذن؟ هل هو الممتحن في لجنة الاختبار؟ أم نيتشه في (إرادة القوة)؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد