التَّسَخُّط والغضب والإلحاد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

أورد ابن الجوزي (597هـ) ترجمة لأبي الفرج صدقة بن الحسين بن الحسن الحداد، وهو معاصر له، وذكر عنه أنه )كان في صباه قد حفظ القرآن، وسمع شيئًا من الفقه وكان له فهم، فناظر وأفتى.(

وحكى عنه ابن الجوزي ما يدل على فقره وعوزه، وأن مصدر رزقه الرئيس كان من نسخ الكتب، قال ابن الجوزي: كان طول عمره ينسخ بأجرة. ويبدو أن ذلك الفقر كان مؤثرًا بصورة عميقة في نفس الشيخ صدقة، وضيق نفسه، وتبرمه من حياته وأوضاعه المعيشية الضيقة، مما سيكون له انعكاسات خطيرة في حياته.

ويبدو كذلك أن اضطراره بسبب فقره للعمل كناسخ للكتب، جعله يقرأ الكتب بمختلف فنونها وأنواعها، وبتعدد مذاهب وأديان أصحابها، وكان ذلك أحد المؤثرات في إيمانه وتشويش عقيدته. قال ابن الجوزي: قال لي القاضي أبو يعلى ابن الفراء: (مذ كَتَبَ صدقة كتاب الشفاء لابن سينا تغير).

وذكر ابن الجوزي عن صدقة هذا: أنه كان يظهر من فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته، وكان لا ينضبط، فكان من يجالسه يعثر منه على ذلك، وكان يخبط الاعتقاد، تارة يرمز إلى إنكار بعث الأجسام ويميل إلى مذهب الفلاسفة، وتارة يعترض على القضاء والقدر.

ويظهر من الكلام الذي سمعه منه شخصيًا ابن الجوزي، وغيره، أن صدقة كان يعاني من شكوك تتعلق بـ’مشكلة‘ وجود الشر، والاعتراض بسوء الظن على الله، وأنه كان متذمرًا من الحياة، كثير الشكوى من الأقدار وضيق الحال، وكان ساخطًا شخصيًا على الله تعالى الله، يخاصمه ويلومه على حاله وفقره!

يقول ابن الجوزي: حدثني أبو الحسن علي بن عساكر المقرئ قال: دخلتُ عليه [=أي صدقة]، فقال: (والله ما أدري من أين جاءوا بنا، ولا من أي مضيق يريدون أن يحملونا).

وقال ابن الجوزي: دخلتُ عليه يومًا وعليه جرب، فقال لي: (ينبغي أن يكون هذا على جمل لا عليَّ أنا). وقال لي يومًا: (أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك). وقال ابن الجوزي: حدثني عنه الظهير ابن الحنفي الفقيه، قال: دخلتُ عليه وهو مضيق، قال: (إني لأفرح بتعثيري)، قلتُ لم؟ قال: (لأن الصانع يقصدني).

وذكر عنه ابن الجوزي أن حالته المادية تغيرت من الفقر والضيق إلى الغنى والسعة، حينما اتفق في آخر عمره أن تفقده بعض الأكابر، لكنه لم يفرح بذلك، بل تسخط على الله من ذلك، وقال:)أنا كنتُ أنسخ طول عمري لا أقدر على دجاجة، فانظر كيف بعث لي الدجاج والحلوى في وقت لا أقدر أن آكله.(

قال ابن الجوزي معلقًا على تسخطه: وهذا من جنس اعتراضات ابن الريوندي. وقال ابن الجوزي عن صدقة: وكنتُ أنا أتأمل عليه إذا قام إلى الصلاة، فأكون في أوقات إلى جانبه، فلا أرى شفتيه تتحرك أصلًا.

ومن وقف على ما حكاه ابن الجوزي عنه وما سمعنه منه أو عنه، أدرك أن سبب شكوكه التسخط على الله وعدم الرضا بقضائه، وهذا ما دفعه إلى الاعتقاد بأن العالم فوضى بلا حكمة ولا معنى. قال ابن الجوزي:حكي عنه أبو يعلى المقرئ، قال: كنا عنده، فَسَمِعَ صوت الرعد، فقال: (فوق خباط وأسفل خباط).

وذكر ابن الجوزي أن صدقة كتب إليه قصيدة أنشأها بخطه، كلها تسخط وشكوى من الحياة والأقدار، جاء فيها:

واحيرتا من وجود ما تقدمنا

فيه اختيار ولا علم فتقتبس

مدلفين حيارى قد تكنفنا

جهل تجهمنا في وجهه عبس

وذكر له ابن الجوزي قصيدة أخرى في يذم الدنيا والطعن في الصانع والميل إلى القول بالصدفة، جاء فيها:

لا توطنها فليست بمقام

واجتنبها فهي دار الانتقام

أتراها صنعة من صانع

أم تراها رمية من غير رامي

وقال ابن الجوزي: قال أبو يعلى: وقال [صدقة] أبياتًا أخذتها منه بخطه، وهي [ومنها]:

فنحن سدى فيه بغير سياسة

نروح ونغدو قد تكنفنا الشر

عمى في عمى في ظلمة فوق ظلمة

تراكمها من دونه يعجز الصبر

قال ابن الجوزي: فلما كثر عثوري على هذا منه، وعجز تأويلي له؛ هجرته سنين، ولم أصل عليه حين مات.

وذكر ابن الجوزي عن صدقة هذا، أنه لم يكن فاسدًا في الاعتقاد فحسب، بل كان منحرفًا أيضًا في سلوكه الأخلاقي. قال ابن الجوزي:وكان مع هذا الاعتقاد يُعْرَفُ منه فواحش، وأغرى بالطلب من الناس لا عن حاجة فخلف ثلاثمائة دينار.

وأخيرًا، قال ابن الجوزي: كتب إليَّ أبو بكر الدلال، وكان من أهل السنة الجياد، قال: رأيتُ فيما يرى النائم كأني في سوق، وكأن صدقة بن الحسين الحداد عريان...فقلتُ: يا شيخ صدقة، ما فعل الله بك؟ فقال لي: (ما غفر لي)...فقلتُ: أين تسكن؟ فقال: (في بيت في خان). فانتبهت.

قلتُ: يكاد يكون الشعور بالسخط على الحياة، والغضب من الأقدار، والإحساس بالعبثية واللامعنى للحياة، سمة مشتركة عند أغلب الملحدين والمتشككين. ومن قرأ سير الملحدين، وَجَدَ ذلك مبثوثًا في تراثهم وأقوالهم ورسوماتهم، بصورة واضحة صريحة أو بصورة خفيَّة مجازيَّة.

يقول الملحد فرانس كافكا: لا أستطيع التفريق بين الحياة وبين الكابوس.

وهذا ما يحمل الدارس والباحث على العناية بهذا الجانب لدى الملحدين، فالخلفيات النفسية الحقيقية للإلحاد غالبًا ما تكون مستترة بالعقلانية، ويخجلون من ربطها بإلحادهم وشكوكهم، حتى لا يقال إنهم أسرى تجربة مؤلمة.

يقول دينيش دسوزا: كثير من قادة الإلحاد الحديث مؤمنون مجروحون بشكل ما في حياتهم. جرحوا من خبرة مأساوية سببت لهم ألمًا بالغًا مما دفعهم لبناء حواجز عقلانية ضد الله. ويقول أليكس ماكفريلاند:تذكر دائمًا أن المشكلة مع المتشكك كثيرًا ليست أحد البراهين، لكنها شيء في القلب.

ويقول أليكس ماكفريلاند: هناك أمر مشترك عند كل أنواع المتشككين، وهو: أنَّ الاعتراضات العقلانية ليست دائمًا هي السبب الخفي وراء عدم الإيمان، ففي كثير من الحالات يسبق تشكك الشخص ألم نفسي يكون أحيانًا ألمًا عميقًا. قد يصعب على البعض أن يدركوا أن هناك علاقة بين ألمهم وإنكارها لله.

. وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply