بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذه الكلمات عبارة عن خواطر شخصيَّة، وتأملات روحيَّة، عن أحد المكونات الثلاثة لإنسانيتنا المهجور عند أكثرنا: الروح. العطش الروحي ذلك الفراغ الإيماني الرهيب الذي يولِّد داخل الإنسان صراع الأفكار السوداء ومرارة الحرمان، ولهثاً وراء حقيقة يأس من الوصل إليها. إنه قلق الذات حين يجلد الإنسان نفسه وتضيق ملابسه عليه من شدة ألم النفس وضيقها، إنها تلك الحالة المعقدة والغامضة التي يعبر عنها بالضنك!
وصف أحدهم -يومًا ما- إحساسه القاتل المتمثل في العطش الروحي بأنه "جليد مالح"، ويا له من وصفٍ معبرٍ يوحي لك بألم الصقيع ومرارة الألم! يا الله! من يطيق أكل الثلج المالح؟ ذلك الإحساس البارد المر الذي آلم روح الإنسان، واخترق نفسه الشفافة بسهام الضنك الباردة المالحة.
يشهد عصرنا هذا تغيراتٍ كثيرة وسريعة، تذوب في دواماتها القيم والمعارف والأخلاقيات، وتنبت في المقابل قيم جديدة وأعراف حديثة، كل شيء يتغير! ضحيَّة هذا الذوبان والانصهار داخل تلك الدوامة العاصفة هو الجيل الجديد، الصارخ الصامت في أعماقه،، المقتفي درب الضياع، واللاهث وراء السراب! إنَّ ما نشكو منه هو في الحقيقة مرض هذا العصر، إنه الضياع العظيم للنفس الإنسانية في دياجير الفلسفات الإلحادية، والشهوات الدونية، وحريق الأضواء!
ولئن لم يثبت "العلم" انتساب الإنسان للحيوان، فإن "العلموية" نجحت في جرِ هذا المخلوق إلى التسفل حتى وصل في كثير من الأحيان إلى مستوى مخجل!
جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي
لست أدري!
وهكذا سيمضي هذا المخلوق المسكين وهو لا يدري!، وصدق الله القائل: "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم". لقد حارت العقول في الوصول إلى ماهية الذي يزيل ألم "الثلج المالح"، واضطربت طرقهم عبر العصور، لكنهم أجمعوا على عنوانه وأن الذي يزيل هذا الألم هي السعادة. لكنهم اختلفوا في ماهية السعادة، وكيف يصل إليها الإنسان المتألم، أيصل إليها بمزيد من متع الدنيا وشهواتها أم بماذا؟ ولم يصل لها إلا أصحاب النور.
نور الإيمان هو ضياء النفس الإنسانية وهو العلاج لذلك الضنك المرير، فنور الإيمان هو ما نحتاجه في هذا الزمن القاسي المشبع بصقيع المادة. والذي يحول هذا الصقيع إلى دفء وحرارة تذيب صقيع المادة وتزيل برودة القسوة، هو الإيمان بدفئه وحلاوته وسكينته وضيائه الذي يشع في أعماقنا!
قال تعالى: "اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم من هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً".
إن هذا الضنك -أو سمه ما تشاء- هو داء ينشأ في النفس حينما تعرض عن ذكر ربها، فتضيق على الإنسان أنفاسه ويحصر من جميع الجهات وتُخنق روحه!
قال مصطفى محمود: "رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية صحوة طفولة. لم يكن الأمر سهلاً لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً، ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة لقادتني الفطرة إلى الله. لكني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء وضعف صوت الفطرة حتى صار همساً وارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً".
وقالت نازك الملائكة: "كنت متشائمة، لأنني كنت ملحدة، وكنت أنظر إلى هذه الحياة التي نحياها نظرة تراجيدية، يعيش الإنسان فيها حياة تراجيدية. لكني عندما عدت إلى الإيمان والإسلام، وقرأت القرآن العظيم، والحديث النبويّ، عادت إليّ الحياة طلقة بهيجة، وعدت إليها متفائلة، وعرفت يقيناً أن هذه الحياة التي نحياها ليست إلا ممراً لدار أبدية، دار الخلود في الجنة للمحسنين، والنار للمسيئين".
للأسف، في هذا العصر المادي القارس ليس أنفق من التزييف والمساحيق الخادعة، التي يزور بها الناس ظواهرهم ليخدع بعضهم بعضًا وهم يعلمون ذلك. يلتقون عبر العالم الحقيقي أو الرقمي في حفلات تنكرية، يلبسون أقنعة ضاحكة وهم يخفون وجوهًا باكية وقلوبًا هدها الفزع وأقلقها اليأس والضياع!
يقول البروفسور بنسون، من جامعة هارفارد: "خلق الإنسان بتكوينه الفطري متناسقا متوائما وإن العامل الفعال في قوة الإنسان النفسية والجسدية هو الإيمان بالله".
كم أتمنى أن نتأمل هذه الجملة: "بماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه"، فعلاً، ما الشيء الذي يمكن أن نربحه وقد خسرنا أنفسنا؟! كم نهتم بأجسادنا (الرجال والنساء) ونهمل أهم جزء في ذواتنا=القلب، تلك المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله! القلب ذلك المحل العظيم الذي لا يُعمر إلا بالإيمان، فيكون محلاً جامعًا حينئذ للحب والعفو والصفح والصبر والعطاء والكرم، ولكل شيء خير وحسن. القلب جذر متى طاب طابت الأعضاء، ومتى خبث خبثت، والقلب إذا امتلأ بالإيمان واليقين فإن العروق تجري بهما كما يجري الماء في عروق الورد. عالم النور والروح والإيمان لا يعرفه ولا يذوق طعمه من هو مقيم في عالم الظلمة والجسد والمادة، فبينهما برزخ لا يبغيان، الداخل في الأول مولود وفي الثاني مفقود.
يقول كولن ولسون : "شقاء الشكوكي ليس شقاؤه وحسب وإنما رعبه أيضا، لقد تخلى عن الفكرة القائلة بأن للعالم أي معنى وهكذا فهو يجد نفسه بمواجهة الرعب".
كم مرة ذقنا حلاوة الإيمان والسلام الروحي كبرق خاطف، ثم ابتعدنا عنه وأصبح بيننا وبينه هوة كبيرة وعميقة، بل سحيقة، لا يمكن أن أتجاوزها؟ وهل يمكن وصف تلك الحلاوة وذلك السلام الداخلي مع قصر مدته بعبارات بشرية؟ لا. ما أجمل ذلك الشعور الغامر الذي تعجز عن وصفه لغيرك لكنك تحس به.
وهل يمكن وصف ذلك العذاب الروحي والضنك النفسي الذي نشقي حياتنا فيه؟ لا، فما أصبرنا على ذلك الألم نتمرغ فيه ونشقى ولكننا نبقى فيه كسكارى! يا لها من آلام روحية ونفسية لا تعجز الكلمات عن وصفها فقط، بل تعجز العين عن تزويدها بمداد، لتظل حبيسة الصدور كأنها القدر المكتوم يغلي بصمت!
ذات مساء، أتى وتمتم بكلمات وكأنها قد جمعت فيها أحزان العالم كله، لاحظ فمه يتعثر حين ينطق بها، ثم سكت! ثم وضع يده ليحجب وجهه ثم بكى! منظر ذلك الشاب صادمٌ! بل مشهده محزنٌ كأنه طفلٌ يتيمٌ أو طائرٌ جريحٌ، كم هو مذهلٌ أن هذا يحصل مع ذلك الشاب المشهور الذي يتمنى كل شاب أن يلتقط صورة معه! ما الذي أبكاه؟ -ونفس الأمارة نفسه بالسوء ربما كانت تنازعه بطمع في مثل مكانه وتخلد إلى الأرض!- ما الذي أشقى مثله من المترفين؟
قال أرنولد توينبي : "لقد أغرت فنون الصناعة ضحايا، فباعوها أرواحهم ...فكانت نتيجة هذا الدمار الحضاري الذي سببته تلك الصفقة؛ إقفرارً روحياً".
لم يكن بذلك الشاب من بأس، فهو غني ومشهور، لكن أعوزته الحاجة إلى نور وضياء الإيمان في أعماق قلبه، أعوزه الحاجة للسلام الداخلي ذلك الذي لا يوصف. كان يخيل له -بتفكيره الرغبي- أنه مسموس أو مسحور، ولم يكن كذلك حاله، بل كان ضحية الضنك ذلك العطش الروحي الجاف، بصقيعه ومرارته وألمه.
يا له من شعور عظيم، شعور الفرح بالله مع الله، وأن يمسك طائف من الإيمان فيحتويك بفرح غامر، فتبكي بلا إرادة، وتريد أن تصرخ في الكون كله وتقول: لو يعلم الناس ما أنا فيه من سعادة! ولو حاولت أن أصفها لهم فلا أظن أنهم سوف يصدقون، وسوف يغلبك البكاء حين تريد أن تنطق بكلمة: الله! لأنك قد وعيت بعمق ماذا تعني تلك الكلمة .
وَأَخرُجُ مِن بَينِ البُيوتِ لَعَلَّني*** أُحَدِّثُ عَنكِ النَفسَ بِاللَيلِ خالِيا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة". وكان السلف رضوان الله عليهم يقولون: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف". ولذلك، من لم تكن جنته=(إيمانه وسلامه الروحي) في صدره، كان عذابه وشقاؤه في يد غيره، إما تعذبه المادة، أو يتعذب على يد إنسان آخر. قال ابن قيم الجوزية: "من أحب شيئا غير الله عذب به، فيعذب به قبل حصوله، ويعذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته، فإذا سُلِبه اشتد عليه عذابه".
وختامًا، قال عز من قائل: "وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد