لغة أهل الجنة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

ذكرتُ في مقال سابق بعض الرؤى التي تشكلت لديَّ في ثنيات البحث في اللغة العربية، ورجحتُ بأنها أقدم لغة في الكون، ورجحتُ أنها هي

 اللغة التي علمها الله آدمَ عليه السلام، فهي أم اللغات  يؤكده سعةُ هذه اللغة ومرونتها وطواعيتها وصلاحيتها العابرة للزمان والمكان بما لم يتوفر لسواها، ونقلت عن الإمام الشافعي رحمه الله 

ما يعزز ذلك، فكانت العربية أهلًا لأن ينزل الله تعالى بها خير كتبه على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، في كتاب هو آخر الكتب، ورسول هو خاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام،  في دين هو الدين عند الله تعالى، ولا يقبل عندَه غيرُه، خوطب به الناس كافةًفكان هذا اصطفاءً لهذا اللسان من جهات عدة

للكتاب والدين والنبي الخاتم

كلها بلسان واحدفاجتمعت فيه آيات الكمال، وتمثلت به علامات الجلال.

وكنتُ قد برهنتُ أيضًا في مقالة سبقت على أن العربية هي لغة الملأ الأعلى في السماوات العلا، بالدليل الصحيح.

وهأناذا اليوم أراني أبرهن على أن العربية هي لغة أهل الجنةإمعانًا في الفضل، وتماهيًا مع صحيح النقل، وتوافقًا مع صريح العقل

وهذا ما يقتضيه التفكير الصحيح عند إنعام النظر في تلكم المقدمات والرؤى حول اللغة العربية.

فالمنطق يقتضي أن لغةً قد بلغت في الفضل شأنا" كبيرًا، فتكلَّم الله بها وأودعها اللوحَ المحفوظ، وجعلها لغة الملأ الأعلى، 

وجعل النبيَّ الناطقَ بها خيرَ الأنبياء قاطبةً وخاتَمهمبل جعل الشهادة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، 

بالنبوة بعد الشهادة له سبحانه في التوحيد منجاةً من النار، ومدعاةً للفلاح والنجاح والفوز بالنعيم المقيم.

المنطق يقتضي أن لغةً هذا شأنها، أن تكون جائزةً ونعمةً تُضاف إلى ما أولى اللهُ به أهلَ طاعته، من أهل الجنة بأن يختصهم بهذا اللسان الذي تكلم به في القرآن.

وكنتُ فتشتُ عن دليل صحيح، ولفظ صريح يدل على هذا الاتجاه فوجدتُ ولله الحمد على توفيقه حديثًا صحيحَ الإسناد، صريح النص، 

يؤكد ما زعمتُه فيما قدمتُه.

ذلكم هو ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله  قال:

"إنَّ أزواجَ أهلِ الجنةِ ليُغنِّينَ أزواجَهن بأحسنِ أصواتٍ ما سمِعَها أحدٌ قطُّ!"

 إنَّ مِمَّا يُغنينَ:

نحنُ الخيراتُ الحسان.

أزواجُ قومٍ كرام.

ينظرنَ بقُرَّةِ أعيان.

وإنَّ مما يغنينَ به:

نحن الخالداتُ فلا يَمتنَهْ

نحن الآمناتُ فلا يخفنَهْ

نحن المقيماتُ فلا يظعنَّهْ.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد 18699: “رواه الطبراني في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح”. قلت

بل فيه شيخ الطبراني أبو رفاعة عمارة بن وثيمة بن موسى الفارسي المصري صاحب التاريخ على السنين، له ترجمة في المنتظم 

لابن الجوزي 13/13، وتاريخ الإسلام للذهبي 21/ 230، والبداية والنهاية لابن كثير 11/ 102، وغيرها، ولم يُذكر فيه جَرح ولا تعديل، والأصل فيه مع عدم وجود الجارح ووجود المتابِع أنه ثقة؛ 

ولذلك صححه الهيثمي في المجمع، والمنذري في الترغيب والترهيب، وأورده الألباني في الصحيحة برقم 3002، 

وصحيح الترغيب برقم 3749، وقال عقبه:“ ومثله يسلِّكون حديثه، لا سيما والطبراني قد أشار إلى أنه لم يتفرد به. والله أعلم”. قلتُوهذا جريًا منهم رحمهم الله على الأصل في تعديل المعروف غير المجروح والمتابَع على روايته في مثل هذه الحالة، 

والله أعلم.

وهذا الحديث يدل دلالة واضحة بلا إشكال على ما نحن فيه من البرهان على أن لغة أهل الجنة هي اللسان العربي لا غيره!

وليس أدل ولا أدق على التدليل على ذلك من الكلام الذي ذكره النبي  في غناء نساء أهل الجنة، 

وبالمناسبة فلم يقل النبي  في الحديث السابق:(الحور العين) وحسبكما ورد في رواية أخرى، بل عمّم هذا التغني بالكلام المذكور ليعمَّ نساء الجنة جميعًا 

ممن يدخلها من جنس النساء من الجن والإنس!

هذا الكلام هو الفيصل في الدلالة، وهو الأصل في العلامةفقد جاء كما نطق به النبي ﷺ الذي ما ينطق عن الهوى وفقًا لسنن العرب 

في كلامها، وقانونها في لغتها، ولم يخرج عن أسلوب العرب في كلامهم، ولهجاتهم.

فجاء هذا الغناء وفقًا لطرائق التعبير لدى العرب…. فالوقف على(هاء السكت)الوارد في نص الحديث من غناء نساء الجنة في مثل:

(يَمُتْنَهْأصلهايَمُتْنَيَخَفْنَهْأصلهايَخَفْنَيَظْعَنَّهْأصلهايَظْعَنَّ، بمعنىيبعدن ويسافرن) ورد في كتاب الله تعالى في قوله جل من قائل حاكيًا عن أهل اليمين: ﴿فَأَمّا مَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَيَقولُ هاؤُمُ اقرَءوا كِتابِيَه ۝ إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاقٍ حِسابِيَه] الحاقة١٩٢ [

وفي قوله تعالى حاكيًا عن أهل الشمال:

﴿وَأَمّا مَن أوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقولُ يا لَيتَني لَم أوتَ كِتابِيَه ۝ وَلَم أَدرِ ما حِسابِيَه ۝ يا لَيتَها كانَتِ القاضِيَةَ ۝ ما أَغنى عَنّي مالِيَه ۝ 

هَلَكَ عَنّي سُلطانِيَه]  الحاقة٢٥٢٩ [.

الأصل(كتابيحسابيماليسلطاني).

والوقف على الكلم بهذه الكيفية لا يوجد في غير لغة العربوهذه دلالة واضحة على أن لغة أهل الجنة هي من ذلك اللسان 

الذي جاء هذا الكلام على ميزانه، ووفق سننه!

ثم مجيء العبارات الأخرى(الحسانكرامأعيان) على السجع التام والناقص على ما جرت عليه أساليب البلاغة العربية 

في(علم البديع) بما لا يوجد نظيره في اللغات الأخرى، 

يُضاف إلى ما سبق في تأكيد ما نحوتُ إليه في أن اللسان الناطق في الجنة هو لسان العرب المبين.

ويُلاحظ مجيء لفظ(كرام) المنتهي بالميم بعد(الحسان) المنتهي بالنون، ثم رجوع العبارة منتهية بالنون في (أعيان)،

 ومعلوم أن صوتي النون والميم في العربية يشتركان بصفة خاصة بهما وحدهما لا يشاركهما فيها صوتٌ آخر ألا وهي (الغُنَّة)، وهي صوت لائق جدًا بالغناء ومافيه من تنغيم؛ ذلك لأن الغنة صفة محسِّنة للأصوات، فناسب ذلك تعاور ُالنون والميم لأجل الغنة فيهما، في العبارات التي تتغنى بها نساء الجنة.

ولأن نساء الجنة يتغنين به فيكون متوجهًا لرجال الجنةومُحال عقلًا أن تغني نساؤها بما لا يعقله رجالُها، 

ولا يتكلمون به من اللغة واللسان، فجاء غناؤهن لأزواجهن من هذا اللسان وبهذا اللسان.

وإني لأنصح للذين يدينون بدين الإسلام خاصةً، فهم أولى الناس بالنصيحة

أدعوهم لأن يكون اللسان العربي هو ما يعطرون به أفواههم وأنفاسهم في التخاطب بينهم،

لا أن يجعلوا غيره مما تلوكه ألسنة الناس اليوم من أعجمي اللغات، ولَكَنة اللُّسُن لغةً للتواصل بينهم!

فلا يليق بأتباع هذا الدين وأتباع نبيه  إلا الأجمل والأكمل والأقدس!

لا يليق بهم إلا اللسان الذي خاطبهم به رب العالمين، اللسان العربي المبين؛ ليكون وسيلة التواصل بينهم والتخاطب والتعليم.

وكلنا يرى أهل الضلال والهوى من اليهود تحديدًا كيف يتنكبون كل لغاتهم التي نشؤوا عليها في مجتمعاتهم المتناثرة في أصقاع الأرض، 

ثم هم يعتمدون العبرية لغة لهم لا غيرها في كل شيء عندما تجمعوا على أرض فلسطينفك الله أسرها– تعبدًا وتعلمًا وتعليمًا وتواصلًا!

فإذا كان هذا شأنَ أهل الزيغ والانحراف في اتباع لغة التوراة زعموافما أحرانا نحن المسلمين وأجدرنا بالتواصل بالعربية بيننا، 

ونحن نتبع الدين الحق، والكتاب الحق!

ألم يئن للمسلمين أن يعلموا أن التكلم بهذا اللسان شرف عظيم، وأن تعلمه قربة من الله العزيز الحكيم، وأن من حُرم ذلك لمحروم سقيم!

الحمد لله الذي شرفنا بهذا اللسان المبين، واختصنا به من العالمين، فشكر الله على نعمائه مما يستوجبه توحيده سبحانه بما هو له أهل، 

ديدن لا فكاك عنه لأهل الفضل.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply