الزوجة، والأبناء، وما لم يكن في الحسبان تجربة شخصية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لاحظت مبكرًا أن ظاهرة المنضبطين خلقيًا وعلميًا (الملتزمين، أو الصحويين) لا تتطور من خلال بيوتهم؛ وكنت أسأل: لماذا لا يكون ابن *الملتزم* ملتزمًا؟؛ لماذا لا يكون أبناء الحاملين لهموم الأمة واستعادة نهضتها مثل آبائهم؟!!
 قدَّم المعنيون تبريرًا لا تفسيرًا لهذه الظاهرة، وذلك بانتقاء بعض النماذج المشابهة لهم من التاريخ واستدلوا بها. يقولون: كان فلان عالمًا عاملًا ومعلمًا ولم يكن أبناؤه مثله، وكان نوح نبيًا عليه وعلى نبينا والأنبياء جميعًا
الصلاة والسلام ولم يكن ابنه مثله!!
 وكل نموذجٍ استدعوه شاهدًا لهم جاء معه عشرات النماذج التي تشهد عليهم. فمن المسلمات أن الناجحين أيضًا أبناء بيوتهم. بل كل ناجحٍ في تراثنا يُعرّف بأبيه وأمه، نقول: أم الشافعي، وأم مالك، وأم أحمد بن حنبل. وحتى هؤلاء الحضور أبناء بيوتهم أيضًا، فلا تكاد تقع عينك على مميزٍ في دينه وخلقه إلا وهو ابن أبيه؛ وبعد تفكيرٍ وأخذ ورد لسنوات تم تعديل السؤال: لماذا انتهى دور البيت في أيامنا هذه؟!. من المسئول عن غياب دور الأسرة؟؟، فالأمر في حقيقته انتهاء لدور الأسرة، لا أن بيوت الطيبين تفرز الخبثاء ولا أن الطيبين ينبتون من بين الخبث، فالناس معادن كما أخبر الرسول
صلى الله عليه وسلم. وللمحامد بيوت، كما أن للمكاره بيوت.

مع بداية التفكير، وفي مراحل الشباب الأولى، تبادر لذهني أن السبب يكمن في عدم قيام النساء (الأمهات) بواجبهن. كنت أقول: السبب في سوء اختيار الزوجة!!
 كنت أقول: لا يحسن الرجل اختيار المرأة، فينشغل هو بأمور الدعوة أو العمل ولا تستطيع هي أن تقوم بتربية الأبناء أو متابعتهن. أو يلتقي الرجل والمرأة على غير هدى ثم يهتدي أحدهما ويبق الآخر مفرطًا ويخرج الأبناء على شاكلة من فرَّط. كانت هذه بدآيات التفكير وأنا على أعتاب المراهقة مغادرًا وعلى أبواب الشباب أفكر في أسرة!!

 دفعني هذا الفهم إلى اختيار زوجة بمواصفاتٍ تتعلق بتربية الأبناء؛ فيممت وجهي شطر بيتٍ كله متفوق دراسيًا، وكله أو جله يحفظ القرآن الكريم ويسبقون غيرهم في الدراسة وفي الحفظ والتجويد؛ وحصل هذا البيت على جوائز عالمية ومحلية في القرآن الكريم وفي الدراسة، وكان لزوجتي أوفر نصيب من هذا، إذ أنها حصلت على المركز الرابع على الجمهورية في الثانوية الأزهرية أدبي 1998م، وتفوقت في الجامعة، وتركت التعيين في الجامعة برًا بي وتفرغًا لبيتها.

 وبدأت الرحلة الأسرية بحماس شديد!!
كانت البداية من إكرام الزوجة، وإكرام من تحبهن الزوجة، كي تقبل وتجدَّ فرحةً مسرورة محتسبة. وحسن التعامل يفتح الله به القلوب فقلَّ أن تحسن لأحدهم ولا ينصت إليك. فإذا أردت أن تؤثر في أحدهم فكريًا فأحسن إليه، فإن عامة النخبة، وليس فقط العامة، تتكون أفكارهم من مواقف عملية لا من تفكيرٍ عقلي. قلّ من يفكر ابتداءً.. جلهم يستدعي الفكر نصرةً لخيارات مسبقةٍ تتخذ بناءً على مواقف شخصية. وقبل الزواج وبعده يدي مرفوعة لربي أسأل الله من فضله..فكلها منن من الكريم الوهاب، الغني المغني، سبحانه وبحمده. وفي الحديث: "
الدعاء سلاح المؤمن". فالدعاء ثم الجد. والبداية من عينين ترمق ما ترى وتفكر فيه مرة بعد مرة تبحث عن إكراهات لتفاديها أو معالجتها وعطايا للإفادة منها.

 وبدأ العمل على محورين: محور الزوجة نفسها (إعداد الزوجة)، ومحور الابناء.

 البداية وما لم يكن في الحسبان:

 بدأتُ إجراءات الارتباط وأنا دون الخامسة والعشرين، ولم يكن ثمة نضج يكفي، ولم يكن لي علم بتجارب سابقة كي أقلدها أو أطورها، ولم تكن البيئة التي تربيت فيها تهتم بتعليم النساء علمًا شرعيًا يستهدف تربية الأبناء، أو تتحدث عن ذلك.

 وفرق بين أن تنطلق من تجارب سابقة وأن تنتطلق من رفض. النقد يستلزم الصدام مع القديم وحراس القديم.. تصطدم مع الفكر السائد نفسه وتصطدم مع المستفدين منه والمتعصبين له. بمعنى أنك تخطوا ثلاثة خطوات: أولها: اكتشاف عيوب السائد.

وثانيها: نثرها على الناس وتحمل الصدام مع المتعصبين والمستفيدين ماديًا ومعنويًا من الفكر السائد،

وثالثها: البحث عن بديل. وكل واحدةٍ من هذه أمر من أختها.

 تحركت بزوجتي إلى حلق العلم الخاصة بالسلفيين؛ وجلست*لأهل الحديث* فوجدتهم يشرحون*العلل للدارقطني* للرجال والنساء سواءً بسواء!!. وجدت مشروعهم التربوي مسابقة لجمع الأحاديث النبوية التي تحدثت عن تربية الأبناء في السنة النبوية المطهرة!!. جلست في مسجد الشيخ مصطفى العدوي بـ *منية سمنود* وكنت آتيه من بعيد أنظر للحضور: عدد قليل من الرجال والنساء يجتمعون بعد صلاة الظهر، بعضهم ترك دراسته، وبعضهم قد فرغ نفسه لطلب العلم، يقلدون التعليم في العصر الأموي والعباسي. يجلس الشيخ في المنبر على وسادة وحوله طلابه متحلقين، والنساء في مكان مرتفع (سندرة) من وراء ستار يسمعون ويرسلون أسئلتهم ومداخلاتهم مكتوبة في ورقة يسقطونها من أعلى.
 ولم أقتنع بهذا!!

 الله يقول:{ولَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ}[آل عمران:36]. الذكر ليس كالأنثى، الذكر له مواصفات جسدية ونفسية خاصة، والأنثى لها مواصفات جسدية ونفسية خاصة؛ وبالتالي كل له ما يناسبه. وهؤلاء كالعلمانيين سواءً بسواء يسوون بين الذكر والأنثى؛ وكنت أسأل: ما حاجة المرأة لتعلم*العلل للدارقطني*؟، هل تحتاج المرأة للتعمق في علم الحديث؟، هل ستصبح محدثة؟؟. وأتحدث عن العموم لا عن حالات فردية قد تصلح للتخصص وهو أمرٌ نادر الحدوث. أم أن القوم مصابون بداء العلمانية من حيث لا يشعرون، فهم يسوون بين الذكر والأنثى مع الاختلاف الفطري والشرعي بينهما؟!. فالذكر ليس كالأنثى: اختلاف لا تفاضل. والتفاضل عند الله بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وعند الناس كل بما يحسن. وبدأت بمحاولة تعليم الزوجة مما أتعلم (وكان يومها أصول الفقه وقضايا الإيمان والكفر ونحو ذلك مما انشغلت به السلفية العلمية في نهاية التسعينات وبداية الألفية الثالثة)، واكتشفت سريعًا أن هذا لا يصلح للنساء، أو لزوجتي خاصة مع أنها ذات إمكانات ذهنية عالية. وشاء الله أن تتجه للقرآن الكريم، وبدأت الزوجة في اتقان حفظ القرآن الكريم واتقان التجويد (وقبل كانت حافظة حفظًا عاديًا) وحصلت على إجازة في القرآن الكريم بقراءة، ثم قراءتين وثلاث، ثم أجيزت بالعشر الصغرى فالكبرى. وفي حلقات القرآن الكريم: لم يكن الاتجاه للقرآن الكريم بدايةً يستهدف أكثر من البحث عن ساحة جديدة لإعداد الزوجة استعدادًا للأبناء قبل قدومهم.

نظرًا لحضور فكرة التأمل والتدبر في الواقع بحثًا عما أودعه الله من إكراهاتٍ وما أودعه من عطايا، كنت أجلس مع صاحبتي بعد كل درس تتعلمه وأسمع منها، وحديثنا لليوم، بعد أكثر من عقدين من الزواج، في القرآن وما يتعلق به.

حلقات التحفيظ وما لم يكن في الحسبان

حفظ القرآن الكريم وتحفيظه عمل تخصصي، بمعنى أنه فعل فئة من الناس، وليس كل الناس، ولم يكن كل الصحابة والتابعين حُفاظًا ولا محفظين للقرآن الكريم. ولن يكون كل الناس حفاظًا ومعلمين للقرآن الكريم. ولذا جعل الله التزكية على التلاوة لا على الحفظ، قال الله تعالى:}لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ{(آل عمران: 164)؛ وما يحدث عمليًا هو أن فئة معينة من الناس يمن الله عليها بتعلم القرآن وتعليمه، وغيرهم فريقان: فريق يأوي إليهم ويتعلم تعليمًا مجملًا.. يحسِّن تلاوته ويحفظ بعضًا من كتاب الله؛ وفريق ربما لا يسمع بهم أو لا يهتم بحالهم أو يسمع بهم ولا يهتم. وهكذا الناس في كل مجال: تجدهم ثلاثة: مختصون، ومثقفون في هذا المجال، وغافلون عنه. وحين تنظر من زاوية الفرد لا الموضوع تجد ذات الشيء: تجد أن كل إنسانٍ يحسن شيئًا، أحبه أم لم يحبه، ومثقف في شيئين أو ثلاثة ربما، وغافل عن أشياء كثيرة لا يهتم بها إلا حين تطفوا على السطح أو يلجأ إليها مضطرًا.

وتحفيظ القرآن الكريم وتجويده عمل مستقل من أول يوم، فالقراء مميزون منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم. والآن وحين تحاول النظر لتحفيظ القرآن الكريم.. حين تنظر للحفظة ومن يحاول أن يحفظ تجد أنك أمام ظاهرة تحتضر، أو على الأقل لا تنمو بشكل جيد يتناسب مع الإمكانات والدوافع والحاجات. ويقف وراء بطئ نموها أسباب عدة من أهمها:

أولًا: طبيعة من يتخصصون في علم القراءة والقراءات، سواء في التعليم النظامي حيث لا يلتحق المتفوقون بالكلية المختصة كما الطب والهندسة. مع احترامي الشديد ومحبتي لكل من أقبل على كتاب الله. فعلوم القراءات تحتاج لنوعية خاصة جدًا من الطلبة، وذلك لصعوبة استيعاب القواعد النظرية (كالشاطبية، والدرة والطيبة، ومن قبلهم الجزرية) من حيث الجهد والفهم، وكذلك صعوبة التطبيق العملي للقراءات. إلا أننا نجد أن عامة الذين يتجهون للحفظ والتحفيظ ممن لم يرزق اهتمامًا بطلب العلم. وهذا الحال مع الظاهرة الدينية كلها.. يتم توجيه من لا يُعرفون برغبة في طلب العلم ولا يُظهرون تميزًا في معالجة مسائل العلم وقضاياه لها. ولذا تراجعت الظاهرة الدينية الرسمية وخف وزنها بين الناس. وأتكلم عن العموم الذين يشكّلون الظاهرة وإلا ففي التفاصيل استثناءات تبقي على الحد الأدنى من هيكل الظاهرة، وهؤلاء غرباء شرح الله صدرهم، ويسر أمرهم وكتب أجرهم أضعافًا مضاعفة. وفي السنوات الأخيرة ظهر تضيق رسمي آخر على المهتمين بالتحفيظ، وذلك بعدم إعطاء تراخيص لدور التحفيظ والتقليل من نشاط المعاهد المختصة بالقراءات.

ثانيًا: أدى حضور ضعيف القدرات إلى فقدان التخصصية. والأدعياء كثر، والمختصون فعلًا قليلون جدًا، فالمتقنون للحفظ وللتجويد وللقراءات إفرادًا أو جمعًا قليلون جدًا ولا يصلحون، لقلة عددهم وضعف أدواتهم، لتطوير الظاهرة؛ وهنا سؤال: أين الصحوة الإسلامية من تطوير ظاهرة الحفظ؟، أين هي والصحويون لا ينفكون يدّعون الاهتمام بالمرأة وتربيتها؟، وهم يعلمون أن تحفيظ القرآن للأبناء أساسه البيت، والأم بالتحديد؟
الواقع أن العلمانية خيمت على الجميع، وليس ثمة من يفكر في المرأة ككيان مستقل له ما يناسبه.

وأدعو من يعترض على هذه الملاحظة أن ينظر حواليه ويسأل: هل ثمة حافظات.. متقنات للتجويد نظريًا وعمليًا فضلًا عن القراءات؟، ثم يسأل نفسه ثانية: هل هن من أبناء الصحوة أم من العوام؟

وأنا أحسِبها هكذا: أقول: كم نمتلك ساعة يوميًا؟، وكم ننفق منها فيما ينفع؟
والإجابة: الهدر كثير!!.. كأننا نلعب!!
سيصدم من يتأمل الواقع حين يعلم أن عامة المهتمين بالقرآن الكريم ليسوا من الصحوة الإسلامية بل من عامة الناس.

ثالثاً: ضعف الأدوات المعرفية والمادية: فلا يوجد تخطيط لرؤية ممتدة طولًا وعرضًا وعمقًا؛ ولا يوجد وعي بالظواهر الاجتماعية: نشأتها وتفاعلها وتطورها. والنقص في الأدوات المادية حاد جدًا. يُنفق على الفقراء والمساكين ممن يكرهون الصحوة وأهلها ويعينون عليها ولا ينفق على القرآن وأهله، مع أن انتاج فرد قرآني وتوطين القرآن في المجتمع من أسباب البركة والسعة، فالله سبحانه وتعالى وصف القرآن في ثلاثة مواضع من كتابه بأنه مبارك؛ فإن كان ولا بد فلتكن النفقة لقاء التعلم، وهو كلام الله لا متونًا حزبية. والمطلوب وقف وليس نفقة تتيسر اليوم وتنقطع غدًا، والمطلوب أبنية ومؤسسات لا دور صغيرة يتحكم فيه متعصب متشنج أو قليل الفهم يثير الأحقاد بين المعلمين والمتعلمين وينحدر بالعمل ولا يصعد.

رابعًا: أن الناس يتحركون في الغالب تبعًا للرائج المشهور، لا لسد الثغور وإكمال ما قد نقص. والرائج في هذه الأيام لما يسمى بالنشاط الدعوي والحركي، أو بالأحرى يتابعون الأحداث!!.. سُكر معلوماتي يمارس على الأكثرية بأدوات السوشيال ميديا والهواتف... يجلس وتجلس على الفيس وأخواته بالساعات الطوال وحولهم أبناءهم لا يقرءون ولا يكتبون..!!

وفي الساحة من يقلل من شأن الحفظ والتحفيظ ويحاول صرف الناس للتدبر، يقولون: لا نحتاج النص وإنما من يفهم النص، ويحتجون بما ورد عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم من أنهم كانوا يتعلمون الأحكام ثم يضبطون الحفظ. وعشر آيات بعشر آيات. ولا يوجد تعارض بين القول باستقلالية الحفظ والحفاظ والدعوة للتدبر والتفقه في النص المقروء؛ وهذه بعض النقاط تزيد الأمر بيانًا:

تلاوة القرآن نقطة بداية:

تلاوة نص القرآن الكريم (وإنْ بغير تدبر ) نقطة بداية لا يمكن تجاوزها. من لم يبدأ منها أحسب أنه لم يبدأ، فهو قرآن بمعنى يُقرأ، وهو مأدبة الله في أرضه كما جاء في الحديث نأتيها كل يوم نأكل منها ونشرب، ولذا يسمى ما يقرأ كل يوم *وردًا* من الورود.. }وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدۡيَنَ {(القصص: من الآية23)، (ونشرب إن وردنا الماء صفوًا.. ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا). كأن المسلم لا يستطيع أن يحيا بشكل طبعي دون أن يتزود من نص القرآن الكريم، ثم يرتقي تدبرًا وتفقهًا. والقرآن سهل يفهمه الجميع وإن غرب المعني في بعض الكلمات فإنه لا يؤثر على المعنى العام في الغالب كما في قوله تعالى}نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ{ وكما في قوله تعالى}عَلَىٰ سُرُرٖ مَّوۡضُونَةٖ{، وقد ذكر عبد الله ابن عباس، رضي الله عنهما، أن*التفسير ‌على ‌أربعة ‌أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله*[1]. فكثير من معاني القرآن من النوع الذي لا يعذر أحد بجهله، وقليل منه ممن*تعرفه العرب من كلامها*[2] وممن*يعلمه العلماء*[3] وأقل من ذلك بكثير *ما لا يعلمه إلا الله* وهو المتشابه الذي لا سبيل كفواتح السور. ولذا فإن مَن تحدث من أهل العلم في وجوب التدبر جعل البداية من كثرة التلاوة وأن أقفال القلوب المذكورة في قوله تعالى}أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القرآن أم عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{ (محمد: 24) لا تفتح إلا لمن يتلون كتاب الله ويسارعون في الخيرات}إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ{ (فاطر: 29). وكثرة التلاوة تحدث التزكية وقد شرحت هذا مفصلًا في مقالٍ بعنوان:*من فوائد التكرار في القرآن الكريم*.

واقع مشاهد في كل جيل:
لم يكن كل الصحابة
رضوان الله عليهم فقهاءً، ولكنهم جميعًا كانوا قراءً، بمعنى يحافظون على ورد ثابت من القرآن كل يوم. وحين انتشر الإسلام وكثر المسلمون ظهر التخصص تدريجيًا. وازدادت التخصصية في عصر التدوين فصار كل قوم إلى في فرع من فروع العلم. ولذا برز القراء كابن كثير المكي ونافع المدني وحفص وحمزة الكوفيان ويعقوب الحضرمي، وغيرهم من السادة رواة كلام الله الكبير المتعال سبحانه وعز وجل. ولم يُعرفوا بغير القراءة. وبرز المحدثون همهم ضبط متن الحديث وسنده. وانتهى المجتمع المسلم إلى ظواهر علمية متخصصة.. انتهى إلى متعمقين في عددٍ من العلوم الشرعية وغير الشرعية. فنهضت العلوم كلها حين انصرف الناس إلى ما يحسنون أو إلى ما يحبون، وأتقن كل واحدٍ منهم صنعته.
وهو هو بأم عينه ما تفعله المنظومة العلمانية: فعلماء الهندسة غير علماء الطب غير علماء الاجتماع... والمنظومة العلمانية تفرض التخصصية في جميع المستويات: مستوى انتاج المعرفة ومستوى التشغيل للمؤسسات (الوظائف)، فلا تجد صيدلي يمارس –بإذن من المنظومة العلمانية- الهندسة، ولا تجد عالم عقاقير يدعي العلم بالرمد... والسؤال إذًا: لماذا يشجب المعترضون على من تخصصوا في الحفظ والتحفيظ؟!! وأكرر: أن هذه التخصصية لا تعني الجهل التام بغيرها.

ثالثًا: الجهل والكسل:

الشجب على الحفظ والتحفيظ كتخصص له سببان رئيسيان:
أولهما: الجهل بالظواهر الاجتماعية، وأن المجتمع ظواهر، والظواهر نخب وأبنية؛ والنخب تعدُّ، بمعنى تُنتج كما الثمرة من النبات وكما السلعة في المصنع. والمثقف ثقافة سطحية لا يمكن أن يبدع، وإنما يوظفه غيره، وفي أحسن الأحوال يوزع معرفة أنتجها غيره.. هذا إن كان ذا وعي.
ثانيهما: مشقة التخصص، فالقلة القليلة هي التي تصبر على مكابدة التفاصيل والاشتباك معها. وإن التقافز بين التخصصات جعل الفرد بلا قيمة حقيقية وبلا أثر حقيقي.

رابعًا: الهاربون واليائسون في ساحة التدبر:
في المشهد الثقافي يوجد ما يسمى بالتواطئ المعرفي.. وأسميه سُكر معرفي: شيخ، أو عالم، أو ناشط يسقي الناس ما يشتهون.. يلقي عليهم ما يرتاحون إليه ويجتمعون حوله لأنه يسعدهم ولا يزعجهم. حالة من التواطئ أو التنادم.. تمامًا كمجالس الشراب.
وساحة التدبر اليوم فيها من هذا المعنى: فقد آوى إلى التدبر كثير من الفارين من الهزيمة السياسة التي تعرضت لها الحركة الإسلامية بعد الثورات المضادة. فكثير من رموز هذه الساحة اليوم ممن لم يجد له مكانًا أو موضوعًا بعد الثورات المضادة فنزل ساحة التدبر وجاءه الطيبون الذين ملُّوا أحاديث السياسة أو خافوا منها أو يئسوا من التغيير؛ ووجد كل بغيته: الملقي (الخطيب): وجد جمهورًا وقضية ينشغل بها ولاقطًا يتحدث فيه، والمنهزمون وجدوا تسليةً بأحاديثٍ روحانية تحدثهم عن الابتلاء في الدنيا العوض في الآخرة، ويقينًا لا يتحدث عامة المتدبرين اليوم عن كيد الكافرين ووجوب منازلة الظالمين إلا بأحاديثٍ عامة وعلى عجالة. وهم هم أنفسهم الذين أثاروا قضايا فرعية في وقت الجد. بالأمس واليوم كالثياب وتغطية الرأس،،،. ولذا يصعب على مثلي أن يقرأ ظاهرة التدبر والتفقه والتمذهب بحسن نية.. وأرجو أن لا يفهم من كلامي أنني ضد التدبر أو التفقه وإنما ضد السياق الذي يستحضر فيه اليوم!!

خامسًا: أداة تسلط وأمارة تنازع:
في تفاصيل الحركة على الأرض يبرز نموذجان يفسران كثيرًا من الشغب الحاصل في ساحة التحفيظ وأهله: نموذج تنازع ونموذج تسلط. أما نموذج التنازع، فإن ما يحدث عمليًا هو أن الناس يقبلون على الحفظ والتحفيظ وخاصة العوام، وحين يجتمعون ويكثر عددهم؛ يأتيهم أصحاب الأنساق المغلقة (الجمعات المنظمة وشبه المنظمة) يحاولون نزعهم وأخذهم لأحزابهم. فمثلًا يأتيهم من يحدثهم عن أهمية العقيدة (التوحيد)، والعقيدة كليات تفهم في ساعة أو ساعتين والتفاصيل للمختصين؛ ويأتيهم من يحدثهم عن قضايا الأمة وضرورة الانشغال بها ونصرة المنشغلين بها!!
كل يريد أن ينزع الجمع ويأخذه لنسقه المغلق مدعيًا الخير فيما يراه هو وحزبه. ولابد أن تكون الظواهر الاجتماعة في المجتمع بلا أطر من جماعات منظمة أو شبه منظمة.
ونموذج تسلط: ولذلك صورة عملية متكررة على أرض الواقع: أحدهم -أو إحداهن- يقيم حلقة تحفيظ فيجتمع حوله الناس، وهو غير متعمق في الحفظ والتجويد؛ ويمضي الوقت، ويطالب الحضور بشيء جديد، فيضطر لاستحضار موضوع آخر غير الحفظ والتجويد ليُبقي على الحضور، ويدعي هو المهارة في الإدارة، ويدعي التأسيس للعمل، وربما يظل يسفِّه الطلاب ويشعرهم بالدونية والنقص وحاجتهم لمزيد من التعلم كي يبقوا بين بيديه متعلمين.. أتباع. ويتطور المشهد لمناطحة غيره من النماذج الأخرى المجاورة، وربما يتطور للتعصب للمسجد/ الدار أو القائم على المسجد. نموذج متكرر وخاصة في مساجد الحركيين (منظمين وشبه منظمين) أضاع جهدًا ووقتًا، فلا هو طور نفسه وطور غيره، ولا هو ترك النجباء من الطلاب يطورون أنفسهم. بل استخدم التحفيظ أداة تسلط.

نقطة البداية من فرد متخصص في مجالٍ ومثقفٍ في أكثر من مجال، ثم أبنية متخصصة، فظواهر اجتماعية نشطة. ونقطة البدء من مدارسة القرآن الكريم. وفي القرآن آيتان تضعان من يحفظ ويحفظ على رؤوس الجميع قول الله تعالى:}ولَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ{، وقول الله تعالى:}وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ{. فجعل الربانية على تعلم الكتاب وتعليمه، وجعل من يمسِّك بالكتاب ويقيم الصلاة مصلحًا، وفي صحيح مسلم:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه".

رحلة الأبناء القصيرة:
أتم الله لولدي البكر (جلال) حفظ القرآن الكريم وتجويده.. أتقن الحفظ وأتقن التجويد وهو لم يتجاوز السادسة.. قبل دخوله العام الدراسي الأول، وكُرِّم في مسابقة جادة (فاز بالمركز الثاني بفارق 0.5% عن الأول)، وتكريمه منشور فيديو على الشبكة، وله حلقة تلفزيونية بعد ذلك؛ ثم جاءت سارة بعده بعام وأتم الله لها الحفظ والتجويد وهي في الصف الأول الابتدائي، ثم جاءت مريم وأتم الله لها الحفظ والتجويد وهي لم تتجاوز السابعة، وكذلك عائشة مثلهن. ثم شبّ سؤال واشتد: ماذا بعد؟، ماذا علي البيت أن يفعل بعد تحفيظهم القرآن وتعليمهم الآداب العامة؟، ماذا على الأم أن تفعل بعد أن فرّغت فيهم ما تعلمته من أجلهم؟، ماذا على الأب والأم وقد بدأ الأبناء يخرجون للشارع بما فيه؟!

ما لم يكن في الحسبان، وظهر الجاني الحقيقي!!

توقف دور البيت أو لم يعد البيت وحده هو المؤثر. لم يعد باستطاعة البيت أن يفعل أكثر من مراجعة الحفظ، ومراقبة السلوك العام، وتلقين الآداب العامة من أذكار ومحافظة على الصلاة؛ ومناقشة ما يطرح من أسئلة، وهذه من مهام الأب في الغالب، بمعنى أن دور الأم تراجع بنسبة كبيرة لصالح الأب، وهنا مأزق. فالأب أيضًا يحتاج لإعداد، يحتاج لإمكانات ذاتية من أجل ممارسة التربية في سن البلوغ وما دون البلوغ، ثم التعامل وقت الشباب وما بعده، وغالبيتهم لا يهتم بهذا. وعدم وجود رؤية عند الأب، وكذلك غياب القدرة على التوجيه يؤدي إلى تسليم الأبناء للشارع والمؤسسات العلمانية.
اضطررنا لتسليم أبنائنا لمنظومة التعليم التي يعلم الجميع أنها فاشلة: لا تتقن التعليم ولا التربية. اضطررنا لدخول أتون العلمانية. أخذت أبناءنا رغمًا عنا. تضيع أموالنا وأوقاتنا دون ثمرة حقيقية!!
وبدأ التفكير في محاولة للتغلب على هذه العقبة، ورحت أفتش في نواحيها عن بديل، أو عن وسيلة للتغلب على هذه العقبة. وكانت البدائل: المدارس الخاصة، والتعليم من المنزل (التعليم المرن والتعليم الموازي).

أنياب العلمانية!!

 لا يستطيع أحدنا أن يربي أبناءه كما يريد، وأن العدو الحقيقي للمشاريع التربوية الأسرية هو العلمانية التي تضرب مخالبها في كل شيء، تأخذ منا أبناءنا وتربيهم.. تغرس قيمها فينا وفيهم رغمًا عنَّا وعنهم، ولا نستطيع دفعها، بل ندفع من أموالنا ووقتنا لاكتساب معارفها. فمن منا يستطيع أن يمنع أبناءه من المدارس ثم يحيا حياة طبيعية؟!. بل إن حالنا الآن أننا ندفع أبناءنا لمؤسسات العلمانية لتعلمهم و*تربيهم*!!

وقفت يعتصر قلبي على غرسي وهو يُقلع من أرضي ويغرس في أرضٍ أخرى، ويُروى بما لا أرتضيه!!
وقفت أنظر لهذا المشهد النكد في المدارس وحظائر التعليم (الدروس الخصوصية): غلظة بعض المعلمين، وسوء خلق بعضهم، وخلو هذه البيئة التعليمية من التربية وتحولها إلى سوقٍ تجارية، حتى كاد يختفي من يهتم بغرس القيم والمبادئ الإيمانية. والطالب يكد طول اليوم بين مدرسة لا تؤدي دورها كما ينبغي ودرسٍ خصوصي جاء رغمًا عن الجميع يؤدي دور البديل بلا إمكانات، ويعود الطالب للبيت منهكًا مشغولًا يبحث عن راحةٍ أو ترويح، ولا تستطيع غير تركه!!
إن حلم الشباب يُمزق بأنياب العلمانية (مؤسسات العلمانية)!!

ورحت أبحث عن حل.ثانية رحت أفتش عن تجربةٍ ناجحة أقلدها أو أطورها، ووجدت ثلاثة نماذجٍ عملية للجادين الرافضين لهذا الواقع الأليم: المدارس الإسلامية، والتعليم المنزلي، ومحاولة الإفادة من التعليم الأجنبي (الحضانات والمدارس الدولية).ومرةً ثانية اشتغل النقد الفكري للتجارب التي واجهتها!!
كان لابد من الاشتباك مع التفاصيل ليُعلم ماذا يحاول كل فريق أن يفعل (الأهداف والنتائج التي تتحقق عمليًا). ثم لابد من الصعود لأعلى ليظهر حال هؤلاء في سياق الواقع، وهل ثمة ترابط بينهم، بمعنى: هل نحن أمام ظاهرة اجتماعية متعددة الجوانب تتشكل في مواجهة أنياب (مؤسسات) العلمانية؟، أم أننا أمام حركة عشوائية لم تتمثل في ظاهرة بعد؟!، محاولة للإجابة على سؤال: أين يقف المعترضون على الواقع التعليمي؟! أين يقف الراغبون في النهوض بأبنائهم، وخاصة من ذوي الإمكانات المادية المحدودة؟

والصورة العامة للمشهد تبين أننا أمام دافعين رئيسيين لرفض التعليم النظامي، أحدهما: الرغبة في رفع قيمة الفرد، والثاني: الحماية من الغزو الثقافي أو التوزيع القهري للقيم الذي تمارسه الدولة من خلال مناهج التعليم النظامي. الذين نظروا لحماية الفرد من الغزو الثقافي بعضهم اتجه لإقامة مدارس إسلامية، وبعضهم اتجه لتقليل التواجد في المدارس النظامية عن طريق ما عرف بالتعليم المرن؛ والذين رأوا الحل في رفع قيمة الفرد اتجهوا لتقليد المشاريع التربوية الناجحة دوليًا بعد خلطها أو بدون خلطها ببعض الثقافة الإسلامية. والسؤال: هل تنجح هذه النماذج لتحقيق الهدفين: حماية الفرد من المنظومة العلمانية ورفع قيمته اجتماعيًا لينفع نفسه وأمته؟.. السؤال: هل يستطيع أيٌّ من هذه النماذج افتكاك أبناءنا من أسر العلمانية وأنيابها؟، هل يستطيع أي منها أن يعيد توطين معارفنا واقعًا في حياة الناس؟

التعليم المنزلي إرهاق زائد للبيت، وخاصة إن كانت الأم عاملة، وهو الغالب على النساء الآن، ويواجه تحديات أهمها: أنهم يضطرون للدروس الخصوصية بكثافة وفيها اختلاط (مجيء المدرس/ المدرسة للبيت)، وإنهاك مادي، ولو مارست الأم التدريس فلن تكون كالمدرسة أو كالمدرس الخصوصي، وغالبًا ما يتعرضون لمخلب حاد آخر من مخالب العلمانية وهو ألعاب الأطفال وأفلام الكرتون، والغالبية تستسلم للألعاب والأفلام وخاصة الذين يسكنون الشقق ويبحثون عن شيء يجمد الأطفال ويقضي على*شقاوتهم* في الشقة؛ وفوق هذا كله لا يُعلِّمون إلا المناهج الدراسية، ما يعني أن حصاد هذا النوع من الرفض العملي لواقع التعليم هو توفير وقت الطلاب للعب وسماع أفلام الكرتون في الغالب، وقد ينجح إذا ما طبق الرؤية التي سأقدمها بعد قليل إن شاء الله، تحت عنوان*غرس القيم*.
المدارس الإسلامية، تضيف الانضباط الخلقي، وبعض تعاليم الإسلام، وهو أمر لا أقلل من شأنه ولكنه لم يرق لمستوى افتكاك أبناءنا من مخالب العلمانية. فأقصى ما تفعله هذه المدارس هو الانضباط السلوكي وقت الدراسة. ولكنها أيضًا يذهب جل جهدها في خدمة أهداف العلمانية.
والطريق الثالث يسعى لرفع مستوى الأبناء من خلال الدفع بهم إلى الحضانات والمدارس الدولية، بدعوى أن مستوى التربية والتعليم في هذه المحافل التعليمية متطور؛ وثمة عدد من الملاحظات على هذا الطريق، بعضها يتعلق بالسياق وبعضها يتعلق بالمحتوى، وهذه أهم ملاحظتين على السياق العام:
الملاحظة الأولى: تتعلق بالأموال الطائلة التي تنفق في هذا الاتجاه: وأضرب مثالًا بالأموال التي تنفق للحصول على شهادة التوفل بأنواعه والآيلتس، وتقدر بمئات الملايين من الأمة الإسلامية، وتجمع هذه الأموال من الطبقة المتوسطة والفقيرة في الغالب
ولا يتم تدويرها في مشاريع إنتاجية. والسؤال: ما المقابل لكل هذا الجهد والمال؟!، هل يؤدي هذا الجهد والمال إلى تعلم اللغة حقًا؟، ومن يتعلم اللغة هل يستفيد بها في نقل ما ينفعنا أم أن غاية القلة التي تتقن اللغة أن يعمل موظفًا لتحصيل فوائد شخصية؟!
وإذا كان النقل عنهم ضرورة في بعض الأشياء وخاصة فيما يتعلق بفهم حالهم وأهدافهم الكلية والتحولات التي تحدث بينهم والتحولات التي يحدثونها هم دوليًا.
 وفيما يتعلق بتعلم اللغة من أجل النقل عنهم، فإن النقل فعل نخبة متخصصة تخرج من سياق واعٍ هادف. تخرج لتتعلم شيئًا محددًا من غيرنا أو عن غيرنا؛ بما يعني أن تعلم اللغة لا يلزم الجميع وإنما يلزم قلة قليلة، تنقل ثم تطرح بيننا ما قد جلبته من عندهم ونأخذ منه ونترك، ونطوره في إطارنا الثقافي وضوابطنا العقدية. وقد مضى قرنين على تعلم لغتهم وثقافتهم، وماذا حصلنا؟!
والمقصود هنا أن التعليم الأجنبي يمثل نزيفًا حادًا للمال والجهد ولا يؤتي ثماره المرجوه.

الملاحظة الثانية: حين تتدبر المشهد التعليمي وتحاول البحث عن الأهداف الكلية (السياسات) التي تحاول الاستراتيجيات تحقيقها باستخدام المؤسسات التعليمية، وخاصة هذه التي نتوجه لها الآن (التعليم الأجنبي)، تجد أن التعليم الخاص يستخدم كأداة من أدوات تقسيم المجتمع إلى طبقات، ويستخدم كأداة من أدوات توزيع الثروة، وأوضح مثال على ذلك الجامعات الخاصة التي تهدر التفوق الدراسي كشرط للمنافسة في السوق بعد التخرج، بمعنى لا تهتم بجودة التعليم بقدر ما تهتم بإعطاء شهادات، فيلتحق من لم يتفوق في الثانوية بكليات القمة بمجموع منخفض ثم يخرج للسوق ينافس المتفوقين (انظر قطاع الصيدلة والطب والهندسة)!!

والملاحظات السلبية على التعليم الأجنبي كثيرة، وإنما أردت أن ألقي الضوء على بعدٍ معين غير الذي يتردد في ساحة المتدينين (أعني أن هذا النوع من التعليم ينشر قيمًا تعادي عقائدنا)، أريد أن ألقى الضوء على أن هذا النوع من التعليم يستخدم في تحريك المال تجاه فئة ضد فئة مما يساهم في ترسيخ الطبقية في المجتمع. وبالتالي فإننا نخسر الكثير مقابل القليل. وأننا دخلنا في معادلة لم تثمر لنا رقيًا بذواتنا، لم ننتفع منها شخصيًا وبالتالي لم ننفع بها أمتنا، وغاية ما يرجى من التعليم الأجنبي هو الحصول على وظيفة جيدة ضمن مؤسسات العلمانية المحلية أو الدولية.

وأريد أن أقترب من هذه ظاهرة (رفع قيمة الفرد بتلقي المناهج الأجنبية المستوردة) من مدخلٍ آخر، أريد أن أجيب عن سؤال يبحث عن العلاقة بين متغيرين: تطوير الذات والمناهج التي تدرس في التعليم الأجنبي وغير الأجنبي. وذلك أن رفع قيمة الفرد هدف رئيسي لكثيرٍ من المشهورين في الساحة الدعوية والفكرية، وهدف لعامة المشاريع الكبرى.. تلك التي تستهدف نهضة الأمة وتبدأ ببناء الفرد، وهدفٌ للآباء والأمهات الذين يريدون لأبنائهم حضورًا أكثر في حياة الناس، طلبًا للأجر من الله أو طلبًا لعارضٍ من عوارض الدنيا. والسؤال: بم يتحقق رفع قيمة الفرد؟
 الأفراد بوعي أو بدون وعي يبحثون عن السعادة، وهي الراحة والطمأنينة.. انشراح الصدر وسكون النفس، وهي غير اللذة وغير النجاح، والأمة تبحث عن حضور قواعدها الكلية (العقيدة) واقعًا في حياة الناس. وبالتالي علينا أن نعيد صياغة السؤال مرةً ثانية: هل ما يطرحه أرباب التنمية البشرية والمتجمعون تحت مسمى (النهضة) يحقق غاية الفرد (السعادة) وغاية الأمة(الحضارة)؟

شهر كامل وأنا أحاول تقديم إجابة مختصرة غير مخلة على هذا السؤال، وكلما كتبت مسحت، وكلما جئت للمقال قمت ولم أضف شيئًا، ثم استقر الأمر على عرض الفكرة من خلال الطرب نعم الطرب بم يتحقق الطرب؟

الإنسان.. هذا الذي يتحرك أمام عينيك ثلاثي التركيب: جسد وروح ونفس. والتفاصيل في كتاب بعنوان:*ماهية النفس لأحمد كرار الشنقيطي*، والروح من أمر ربي لا نعرف عنها شيئًا، والنفس تحتاج الطرب، وتطلبه، تمامًا كما يحتاج الراحة والنوم بعد التعب. وثمة منظومتان للطرب، منظومة إسلامية من وحي الله، ومنظومة أخرى من وحي الشيطان}وإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ{(الأنعام: 121). في الإسلام الطرب بالترتيل: بالغُنَّة التي تشبه عصر الأعصاب، وبالمد الذي يشبه الرفع المفاجئ ثم الخفض فجأة على الهمزة الساكنة، والإخفاء الذي يشبه الرَّج، وبين الثلاثة (المد والإخفاء والغن) مسافات زمنية محسوبة؛ والطرب بسجعٍ ينتظم ثم ينقطع ليقطع الملل ويوقظ الحس ويؤكد على التنوع؛ والطرب، أيضًا، بالمشاهد الحية التي يعرضها القرآن أمام ناظريك، فحين تقرأ متأنيًا وتفكر في المعاني.. حين تتدبر ما تتلوا فكأنك تشاهد. بل كأنك تحس، كما يقول الأستاذ سيد قطب في (التصوير الفني)، تقرأ}وحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً{ فكأنك تشاهد الجبال تقلع وترفع ثم تدفع بقوة لأسفل فتتهشم وتستحيل ترابًا، ويجول خاطرك في هذه القوة التي تفعل بالرواسي الشامخات هكذا، وكيف أنها شيء من قوة ربك وسيدك، آمرك وناهيك، المهيمن الجبار. وتقرأ قول الله تعالى عن المتقين في الجنان:} مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ  وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ{(ص:51-52)، مشهد حي مما نحب ونشتهي كأنك تشاهده.. بل كأنك تعيشه وأنت في الدنيا. وتقرأ قول الله تعالى عن المجرمين وهم في طريقهم للجحيم}وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُّقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا {فكأنما هم بين عينيك تشاهدهم مقيدين في مكانٍ ضيقٍ يرون العذاب ويُدَعُّون إليه دعًا، ويصطرخون، ويدعون على أنفسهم بالهلاك، ولا مجيب، فتطيب نفسك وتشفى من سقمها وخاصة إن كانوا قيدوك في الدنيا بحديدهم ودفعوك بأيدهم وأرجلهم وعصيهم، مشهد بمشهد ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

وفي كل آية حديث عن الكبير المتعال، الجميل الوهاب، ربنا سبحانه وتعالى، وأنه خالقك وآمرك وناهيك، وأنه قادر عليك، وأنك راجع إليه، وواقف بين يديه، ومحاسب لا محالة.. تجد هذا في كل آية بخاتمتها، حيث تختم باسم أو اسمين من أسماء الله، أو تستقل الآية بهذا المعنى كلية.
وحال الطرب بالترتيل، وحال الحديث عن الله وأمره ونهيه، تُعرض قصص الأولين: كيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين في الدنيا قبل الآخرة، تثبيتًا للمؤمنين ووعيدًا للكافرين.منظومة متكاملة متعددة الأشكال. وكلها في أي مقطعٍ تقرأه من كتاب الله، فلا يستلزم الأمر قراءة الكثير، فمهما صغر وردك تجد كل هذا فيه.
}صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ{(النمل:88).

بهذه التركيبة الربانية يتحقق، ليس فقط الطرب. بل ورفع قيمة الفرد، وتحقيق هدفه هو، ومن ثم غاية الأمة بعد ذلك (التمكين في الأرض). فالترتيل والذكر يورثه راحةً وطمأنينة.. يعطيه غايته الأولى: السعادة.. انشراح الصدر. والله حاضر في حسه شهيدٌ رقيب معين. ولذا سمي الله كتابه مأدبة، وسمى الصالحون ما يُتلى كل يومٍ وردًا، وكأن لابد لك من ورود مأدبة الرحمن كل يومٍ وإلا فسدت. جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن.. أهل الله وخاصته. اللهم آمين.

ولم ينزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من هذا، فهذا كل ما في كتاب الله.. ضبط للفرد عن طريق إجابة لسؤال النشأة الأولى في الدنيا والنشأة الآخرة للحساب، وتعريفه بخالقه، ثم يتحرك الفرد من نفسه إلى ما يحسن أو إلى ما يحب أو إلى سد الثغور في المجتمع وحول المجتمع. يطلب بحركته الأجر من الله ليفوز بالنعيم وينجو من العذاب الأليم، وبالتالي يتكون مجتمع نشيط منضبط بلا خلل. حالة من الجد الهادئ المستكين مرهف الحس، حسن القول والفعل.

ولسنا نتحدث عن فلسفات ونظريات كلية لا يمكن تطبيقها. بل تم التطبيق على بشرٍ مثلنا. رسول ربنا صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.

المقصود أن الشريعة الإسلامية تحقق غاية الفرد (السعادة) ورفع قيمته في المجتمع، وبالتالي غاية الأمة كلها (النهضة.. الحضارة) بطريقة خاصة، سهلة وميسرة جدًا ترتكز على معرفة الله وما أعده للطائعين وما توعد به العاصين، وهذا يكفي لإنتاج فرد صالح مصلح ومجتمع كالمجتمع الأول الذي أضاء الدنيا في أعوامٍ قليلة.

وبعيد تمامًا يتقافز المتحدثون عن (التنمية البشرية) والمشاريع النهضوية للأمة. والسؤال: هل يحقق هؤلاء هدفهم المعلن (رفع قيمة الفرد) و (نهضة الأمة)؟
دعونا نعود للطرب كمثالٍ نبين به المعنى ونتمدد من خلاله لرفع قيمة الفرد وتحقيق النهضة للأمة: الطرب في غير القرآن والسنة بموسيقى وكلماتٍ تثير غرائز شهوانية في الغالب، وذلك طلبًا لتحريك كل طرف تجاه الآخر. والحقيقة أن العلاقة العاطفية لا تكفي لاستمرار الأسرة، مهما كانت قوتها، وذلك أن العاطفة تتقلب والشهوة ملولة لا تستقر، وإنما يستقر الزوجان بشيء آخر.. بمشروع حياة.. بتعاونٍ على البر والتقوى.
وما يقدمه هؤلاء لإسعاد الفرد ورفع قيمته يتمحور حول (بناء الذات). والذاتية/ الفردية هي صلب الإلحاد وقاعدته، فالمعنى المرادف للذاتية هو عبادة الفرد نفسه. يحل ويحرم ما يشتهي، ويُقْبل على ما يراه هو نافعًا ويعرض عما يراه هو ضارًا، فهو إله نفسه
}أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ{(الجاثية:23) وبعضهم يستدعي الوحي بشكل جزئي، يقطع نصًا من سياقه ويستدل به في سياق مختلف على قضية مختلفة، بمعنى يشرعن الباطل، حال كما وصف الله}ٱلَّذِينَ يَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ضَلَٰلِۭ بَعِيدٖ{(إبراهيم:3). فنحن أمام منظومتين: منظومة الإسلام التي تحقق غاية الفرد وغاية الأمة من أقصر طريق وبأقل تكلفة، ومنظومات أخرى، تأخذ الأفراد في تيهٍ صخبٍ قلقٍ، وتتركه حيران لا يصل لشيء. يقول الله تعالى:}قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ{(الأنعام:71).

الطريق للغاية التي ينشدها الفرد (السعادة) سهل ميسر ويبدأ من كتاب الله ومشروح عمليًا في جيل الصحابة والتابعين.

البداية من غرس القيم

التعليم أربعة أشياء: أولها: معلم ذو إمكانات حقيقية.

وثانيها: متعلم راغب أو مدفوع من راغب.

 وثالثها: مناهج تعليمية.. والمقصود بالمنهج هنا المحتوى العلمي بمعناه العام.

ورابعها: الأبنية وما فيها من أدوات تعليمية كالكتاب والحاسوب والسبورة. بمعنى أن على كل من يهتم بالتعليم والتربية أن يجيب على هذه الأسئلة الأربعة مجتمعة: من سيعلم؟، وماذا سيعلم؟، ومن سيتعلم؟، وأين تتم العملية التعليمية؟
ولابد من الأربعة كي تتم العملية التعليمية بنجاح. النقص يحدث نقصًا موازيًا.

المدارس الخاصة تدرس مناهج العلمانية ولا تستطيع الفكاك منها اللهم إلا قليلًا بما تضيفه من (نكهة) إسلامية. والتيارات السلفية تعامل الجميع سواء: الصغار والكبار.. الرجال والنساء، ولا يوجد وعي أو عزيمة لصياغة مناهج تراعي الفروقات. ومما يُظهر الجهل أو الكسل بصياغة مناهج تناسب الأعمار المختلفة الكرتون الإسلامي، فمع ثراء المادة العلمية التي نملكها نحن المسلمين، ومع أن مجال الكرتون له شعبية عالية ومربح في ذات الوقت، إلا أن الكرتون الإسلامي في جملته بعيد عن مخاطبة الصغار، وبعيد عن التخصصية في الطرح، فغالبه لا يخرج عن الدفع بكمية كبيرة من المعلومات بين اثنين يتحاوران.. كأنها خطبة أو درس. ثم نشكو من انصراف أبنائنا للكرتون العلماني الذي يغرس فيهم القيم المخالفة.
أين الخلل؟
في عدم وجود مادة علمية؟!
بالطبع لا.
في عدم وجود مختصين على المستوى الفني (صناعة الكرتون في هذا المثال، وصناعة المناهج عمومًا)؟
نعم. يغيب الصنايعي.. الفني المحترف.. يغيب ذو العزيمة لصناعة الأدوات المعرفية والفنية. نتجمع كلنا عند المنتج النهائي ونغيب عن حرفية الإعداد.. عن الجهد الذي يبذل في الخلفية لإخراج عمل قوي يؤثر بإذن الله.

لا أريد الاسترسال، ولكني أريد الإشارة إلى أن التفكير الشمولي(معلم، ومتعلم، ومناهج، وأدوات)، مفقود، والحل لن يكون جزئيًا، وقد جربنا عشرات السنين ولا فائدة. حتى التجارب التي تنقل الآن ليس فيها إبداع، بل جلها تقليد لنماذج علمانية تحاول إصلاح المنظومة العلمانية ذاتها. وراجع إن شئت المدارس الخاصة والتعليم المنزلي (الكلي أو التعليم المرن). عبارة عن علاجٍ لخلل في المنظومة العلمانية نفسها، وبالتالي لا يمكن الوصول لحل يناسب هويتنا الثقافية من خلال أدوات العلمانية؛ فما يدعيه قومنا من أنه تصويب للتعليم هو نماذج علمانية أيضًا.. بمعنى أننا أسرى الفكر العلماني، بمعنى أننا لازلنا نفتقد الذاتية الإسلامية.

ما الحل؟

نقد الموجود وبيان الخلل فيه نقطة البدء الصحيحة. ويجب أن يأخذ النقد حقه، فالنقد يظهر الخلل في المعروض لتجنبه، أو الانتقاء منه. وله وظيفة أخرى أهم، وهو أنه يزيح المرفوض جملة عن طريق التأطير، فمثلًا نتفحص التعليم في نوعية معينة من مسارات التعليم ثم نضعها في إطار معين يجعل من يراها يرفضها.. مثلًا نقول: التعليم في هذا المسار سيء لكذا وكذا.. فيتجنبه الناس، فيكون النقد بهذا ازاح كمية كبيرة من الشر بكلمات معدودات.. عن طريق التأطير.

من خلال عقدين ونصف قضيتهما في هذا المجال كمهتمٍ يرصد التجارب والظواهر ويحاول فهمها، وكصاحب تجربة يصفها غيري بأنها ناجحة، أعتقد أن نقطة البدء الصحيحة تكمن في أن يقوم البيت (الأب والأم) بمهمة أو مهمتين حسب إمكانيات الأبوين:

الأول: غرس قيم كلية تصحح أخطاء المناهج التعليمية.
الثاني: تعليم شيء محدد. مهارة، أو معرفة، يتقنها الأبوين: مثل تعليم القرآن، أو الحساب، أو لغة أجنبية، أو الرسم (بضوابطه الشرعية)..
يعطي غرس القيم حلًا سريعًا، وثابتًا لما يُرفض في العملية التعليمية الرسمية (مع الأخذ في الاعتبار أن الرفض من الجميع وليس من شريحة المتدينين فقط). ولا يحتاج لمجهودٍ كبير فيمكن ممارسته من خلال النقاش الأسري حال الطعام أو حال الفسحة واللعب، وخاصة أن الأطفال يندفعون للأسئلة ويطلبون النقاش في مراحل التكوين.

والفكرة قائمة على أن الواقع المشاهد لا يتغير وإنما تفسير الواقع هو الذي يتغير، وهذا التفسير يخضع للقيم الكلية التي يحملها الإنسان، فالتبرج نراه جُرمًا وخروجًا عن الشريعة، ويراه غيرنا أمرًا عاديًا وحرية شخصية. والكفر بالله وما أنزل على رسله نراه الداهية العظمى ويراه غيرنا حرية شخصية.

القيم الكلية قليلة عند الجميع، وهرمية، بمعنى أن قيمة واحدة تجلس عاليًا، وتصطف باقي القيم تحتها، مرتبطةً بها خادمةً لها، بتريب هرمي. وعندنا القيمة العليا هي التوحيد، عبادة الله وتعبيد الناس لله [انظر مقال: القيمة العليا في الإسلام]، وأننا في هذه الحياة الدنيا نطلب ما عند الله وإن ارتقينا في الإيمان نطلب القرب من الله الكبير الكريم. ثم نحن دعاة للتوحيد نحمل رسالة عن الله لمن لم يؤمن به}قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي{(الأعراف:108)، ويذكّر بعضنا بعضًا لنستمر على الإيمان}وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ{(الذاريات:55) }كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوه{(المائدة:79). فالتوحيد والدعوة إليه في المقدمة. ثم غرس قيمة الاحتساب (طلب الأجر من الله على ما نفعله ونقوله)، وهكذا تتوإلى القيم.. نغرسها بالنقاش.. بالمواقف الحسنة.. كل بما يستطيع.

ونمارس النقد لما تغرسه المدارس من قيم ومعارف؛ نتداخل معها، ومن أمثلة ذلك: أنهم يدرسون للأبناء تاريخ الفراعنة (أو أي تاريخ غير تاريخ الإسلام)، فنداخل نحن على ذلك ونذكر لأبنائنا: أنهم يدرسون التاريخ دون ذكر للأنبياء، فالفراعنة لا يذكرون معهم موسى عليه السلام، وكذا كل حضارة، والسبب في ذلك هو الرفض لدعوة الرسل- بقصد أو بدون قصد- مع أن الرسل صلوات الله عليهم أجمعين كانوا نقاط التحول والتصحيح في حياة الناس.. كل الناس.. }وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ{ (فاطر:24). ومثلًا: تكاد تجتمع أفلام الكرتون التي تتحدث عن الديناصورات إلى القول بأن الحياة الدنيا من مئات المليارات من السنين، بمعنى أن الوجود ازلي، وأن ثمة كائنات أخرى ضخمة وقوية كانت موجودة قبل الإنسان وتطور منها الإنسان، وأن الإنسان مرحلة في هذه الحياة فإن فني فإن غيره سيعقبه ولن تنتهي الحياة، وندخل نحن في وجه هذا الكذب ونتلوا على أطفالنا قول الله:}مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ{ (الكهف:51)، وأن بعد الحياة حساب وثواب أو عقاب في حياة آخرة بها النعيم الأبدي أو العذاب السرمدي.

وغرس القيم سهل ومقدور عليه، ولا يحتاج لفصلٍ دراسي ولا معلمٍ خاص؛ ومن عجز عن ذلك فليتعاون مع غيره، بأن يدفع بأطفاله (وخاصة من هم في سن المراهقة والشباب) لصديق له يتحاور معهم في جلسات صالونية أو مكالمات هاتفية.

تكمن صعوبة غرس القيم في أنه يحتاج لأسرة واعيةٍ. ويحتاج من المهتمين بالمجال العام لتوفير مادة علمية (كتب، محاضرات..) يتم تثقيف الآباء والأمهات عليها، ويرجعنا هذا لنقطة البدء وهي: إعداد الآباء والأمهات، وإعداد المناهج.

في الحديث*إبدأ بنفسك*. ابدأ بنفسك في تعليم ما يلزم كي تقوم بمهمتك كأب وأم، وخاصة في هذا الزمن الذي اشتدت فيه الغربة وركبنا الناس حتى غلبونا على أبنائنا وأنفسنا. والبداية الجادة من إعداد الأم وتفريغها، والإحسان إليها.. وتوفير الأمان النفسي والمادي والاجتماعي لها لتقوم بمهمتها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين


[1] الطبري، ط هاجر. ج1، ص70.

[2]  وهو المتعلق بمعنى الكلمات كما "الشوى" "موضونة"، "غثاء أحوى"،،،،

[3] وهو المتعلق بالمطلق ومقيده، والمنسوخ وناسخه، والعام ومخصصه

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply