يظهره الرحمن ويخفيه الشيطان


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يبدو الفن أحد وسائل الترفيه، وفي الحقيقة الفن أحد أهم وسائل التوجيه، فالفن يؤرخ، والفن يوجه، والفن ينفي ويثبت. وكاتب الرواية خطيب يتحدث على ألسنة *أبطال* روايته، والقارئ يُتلى عليه. ولا يقاوم الأفكار من الناس إلا القليل. فلا أحد يمارس النقد خارج تخصصه.
 وتأتي الرواية في مقدمة الأدوات الفنية التي يأتيها الناس طلبًا للترفيه أو إمضاءً للوقت وفي الغالب تؤثر في مفاهيمهم وتصوراتهم، وبالتالي اختياراتهم وتوجهاتهم. فالفن هو الدائرة الثالثة في دوائر التغيير الثلاث؛ في المقدمة صناعة الفكرة من قبل المفكرين والمجتهدين، وفي الوسط النخبة توزع منتوجات المفكرين على عوام المثقفين والمهتمين بالعلم، ثم يأتي الفن والإعلام عمومًا بأدواته وينتقي بوعي شديد من بضاعة المثقفين والمفكرين ويوزع على العوام، ومن ثم يساهم بجزء كبير في صناعة المجتمع. والقوة قوة أدوات وليس فقط قوة فكرة. فالأفكار في العقول والأدراج حتى يأتيها أصحاب الأدوات فيحولونها واقعًا.

وفي رواية *في الجحيم* للكاتب الأمريكي الأشهر *دان براون* أكثر الكاتب من تكرار مشهد جهنم، أو الجحيم كما يسميه. نقل عن الشاعر الإيطالي *دانتي* وصف جهنم بكثيرٍ من الأوصاف التي عندنا.. في كتاب ربنا القرآن الكريم وسنة نبينا، صلى الله عليه وسلم، فيصف الجحيم بأنه دركات بعضها تحت بعض، وكل دركة من دركات الجحيم لنوعية معينة من الخاطئين، وأشد الخاطئين عندهم في أسفل الجحيم. تمامًا كالذي عندنا يقول الله تعالى:}إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار{(النساء: 145).  
وينقل
* دان براون* عن شاعر الكوميديا الإلهية *دانتي* حديثًا عن جنة عالية، يصعد إليها الناس بعد أن يتطهروا من الخطايا. كالذي عندنا في كتاب ربنا *في جنة عالية* (الحاقة: 22)، فالجنة درجات لأعلى حتى تستظل بعرش الكريم المنان ربِنا الجميل، سبحانه وتعالى ذكره.

الملاحظة الأهم أن كل ذلك اختفى. فلم يعد اليهود ولا النصارى يتحدثون عن الجنة والنار إلا شيئًا مجملًا بلا تفاصيل. أصبح الحال عندهم كالحال عند مشركي العرب، جاءهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، وقد طمس ذكر الجنة والنار بينهم فلم يكن ذكر الآخرة إلا ظن يظنونه، ويتردد في أشعار وخطب قلة قليلة منهم، وكاد يختفي من تصور العامة وعامة الخاصة، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}(الجاثية:32).

ما القصة؟

تتلخص في جملتين: أن وحي الله إلى أنبيائه يرتكز على النذارة والبشارة. إنذار من عصى رسله بالعذاب المهين وتبشير من أطاعهم بالنعيم المقيم. ولا تكاد تخلو آية عن ذكر العذاب بإحدى دلالات الخطاب المختلفة. حتى أن الأبرز في كتاب الله هو الحديث عن الجنة والنار. تعرض مشاهد حية كأن من يقرأ يشاهد بعينيه، وتدبر هذا المشهد:}يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ{(التوبة:35) .كأنك تشاهد الذهب والفضة وهي تحمى في نار جهنم، وهما من أشد المعادن توصيلًا للحرارة، ويؤتى بمن قد كنز المال ولم ينفقه فيما أمر به ويشوى كالشاة على الذهب والفضة وهما في حالة انصهار يشتعلان.. تقلبه ملائكة العذاب على النار وتوبخه. كأنك تشاهد هذا المشهد فتزهد في كنز المال وتسعى لنفقته فيما يرضي الله.
ويأتي ذكر الجنة والنار متجاورين، وتستنفر العقول للمقارنة والتفكير:{
أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}) فصلت:40(.

لا تكاد تقرأ شيئًا من كتاب الله إلا وتجد حديثًا عن العذاب والنعيم، ولا تكاد تستعرض قضية اهتم بها القرآن الكريم، من قضايا الاعتقاد أو التشريع، إلا وتعرض بين يدي العذاب والنعيم. وفوق ذلك يفرد القرآن الكريم للجنة والنار وحال الناس فيهما حديثًا خاصًا يطول أو يقصر، ولكنه يتكرر كثيرًا، حتى أن من يفتح المصحف ويدنوا من أي آياته لابد أنه سيقرأ عن النعيم وعن العذاب. فثمة إصرار واضح على توطين العذاب والنعيم في حس من يقرأ ولو آية من كتاب الله.

وفي المقابل فإن وحي الشيطان يخفي اليوم الآخر، أو يحاول أن يجعلها كلها دنيا، وإن جاء ذكر الآخرة فشيء مجمل لا يردع.. شيء يسكن الضمير حين يتقلب.. يهدهده حتى ينصرف ثانية إلى دنياه.

وتتضح الفكرة أكثر من تدبر تشريع الحدود في الإسلام (حد السرقة، وحد القتل، وحد السحر، وحد الزنا..إلخ). كان العرب*قبل الإسلام* على أسوأ حال لا يأمن أحدهم على نفسه إلا أن يكون ذا شوكةٍ أو في الأشهر الحرم. كل شيء مباح. وحين جاء الإسلام وشرَّع الله الحدود ورأى الناس جدية في تطبيق الحد على من خالف أيًا كان نسبه أو حسبه، انصرفوا عن المحارم تلقائيًا. فلم يحتج الجادون إلى قطع أكثر من يد أو يدين في ثلاث مئة عام، ولم يقترف أحد الزنا إلا حالات فردية تعد عدًا.. انصرف الناس تلقائيًا عن المحارم، وعادوا إليها بعد أن ضعف تطبيق الحدود.. عادوا إليها بعد أن أمنوا العقاب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply