الفِقه في الدِّين ضرورة ملحَّة في زمن الفتن


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

أخى القارئ الكريم: تناولنا سويا فى العدد الماضى بعض العواصم فى زمن الفتنة، فتعال معى نستكمل تلك العواصم سائلين الله تعالى أن يعصمنا ن الفتن ماظهر منها وما بطن:

(6) الفِقه في الدِّين ضرورة ملحَّة في زمن الفتن.

  العلم الشرعي مطلب مهم في مواجهة الفتن حتى يكون المسلم على بصيرة من أمر دينه وإذا فقد المسلم العلم الشرعي تخبط في هذه الفتن.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إذا انقطع عن الناس نور النبوة وقعوا في ظلمة الفتن وحدثت البدع والفجور ووقع الشر بينهم ". وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: " فكل أنواع الفتن لا سبيل للتخلص منها، والنجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من أئمة الإِسلام ودعاة الهدى".

ومن الضروري أن يغتنم الإنسان أوقات الرخاء للتعلم قبل أن تجيئه الفتن فلا يجد وقتا للتعلم.

-شمولية الفقه:

ليس الفِقْهُ شيئًا واحدًا؛ بل هو متنوِّعٌ شاملٌ؛ فمِنْ ذلِك: فقه المقاصد والنيَّات، وفقه الموازنات والأوليَّات، وفقه الاختلاف، وفقه سماحة الإسلام ويُسْره، وفقه الواقع، وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفقه الدعوة، وفقْه الثوابت والمتغيِّرات.. وغير ذلك، وسأشير في هذا البحث المختصر إلى المقصود بيانه من كلِّ نوعٍ من هذه الأنواع، بشيءٍ من الإيجاز والإيضاح.

(1) فقه المقاصد والنيَّات:

والمَقْصُود بِهَذَا الفِقْهِ: مُراعاةُ قَصْد المُتَكَلِّم ونيَّتِهِ قبل الحكم عليه، وبيان أثر النيَّة والقَصْد عِنْدَ التَّعامُلِ مَعَ الآخَرِين، ويشْمَلُ ذَلِكَ قواعدَ عِدَّةً، مِنْهَا:

1- مقاصِدُ اللَّفْظِ على نِيَّة اللافظ، إلاَّ في مَوْضِعٍ واحِدٍ؛ وهو الحَلِف؛ فإنه على نيَّة المستحلِف، وفي هذا المعنى يقول ابْنُ القَيٍّم: "وإيَّاك أن تُهمِل قَصْدَ المتكلِّم ونِيَّته وعُرْفَهُ؛ فَتَجْنِيَ عليه وعلى الشريعة، وتَنْسُبَ إليها ما هي بريئةٌ منه، وتُلْزِم الحالف والمقرَّ والنَّاذِر والعاقِد ما لم يُلْزِمْه اللهُ ورسوله به".

ويدخل في هذه القاعدة في باب التطبيق والتعامل مع الآخَرين: أن المسلِم الورِع ينقل ما يصدر عن الآخرين من عبارات ومقولات كما صَدَرَتْ، دون تعرُّض للمعنى، ويعلِّلُ ذلك ابن الوزير بأن حكاية كلام الخصوم بالمعنى فيه ظلمٌ لهم؛ لأن الخصم اختار لفظًا وعبارةً ارتضاها لبيان مقصِده.

(2) فقه مقاصد الشريعة ومراتبها:

المقصود بمقاصد الشريعة: هي الغآيات التي أُنزلت الشريعة لتحقيقها لمصلحة الخَلْق في الدَّارَيْن.

المقصد العام للشريعة الإسلامية: عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلَفين فيها، وقيامهم بما كُلِّفوا به من عدل واستقامة.

وما من حكم شرعي إلاَّ وهو يحقِّق مصلحة أساسها المحافظة على النفس أو العقل أو الدين أو النسل أو المال، وإنَّ هذا يبدو من الشريعة من جملة مقاصدها، ولا يمكن أن يكون حكمٌ شرعيٌّ إلاَّ وهو متَّجه إلى ناحية من هذه النواحي.

مراتب مقاصِد الشريعة:

اصطلح العلماء على تقسيم المقاصد إلى ثلاث مراتب:

(1) الضروريات: هِيَ التي لابدَّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث إذا فُقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة؛ بل على فساد وتهارُج وفَوْتِ حياة، وفي الأخرى فَوْتُ النجاة والنعيم، والرجوع بالخُسْرانِ المُبِينِ.

والضروريات: وهِيَ ما اصْطلح على تسمِيَتِه بِالضروريات الخَمْسِ، وَهِيَ: حِفْظُ الدِّين والنَّفس والعقل والنَّسل والمال.

فحفظ الدِّين من باب العبادات، وحفظ النَّفس والعقل من باب العاديَّات، وحفظ النَّسل والمال من باب المعاملات.

(2) الحاجيات: هي المفتقَر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدِّي - في الغالب - إلى الحرج والمشقَّة، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات.

ففي العبادات: كالرُّخَص المخفَّضة في السَّفر والمرض.

وفي العادات: كإباحَةِ الصَّيْدِ، والتمتُّع بالطَّيِّبات ممَّا هو حلالٌ.

وفي المعاملات: كالقَرْض والمُساقاة والسَّلَم وغيرها.

(3) التحسينات: فمعناها الأَخْذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنُّب الأَحْوالِ المدنِّسات التي تَأْنَفُها العقول الرَّاجِحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق؛ كإزالة النجاسة، وسَتْر العورة، وأَخْذِ الزِّينة.

وفي ضوء هذا التقسيم لا يُراعى حكمٌ تَحْسِينيٌّ إذا كان في مراعاته إخلالٌ بِما هُوَ ضَرُوريّ أو حاجي؛ لأنَّ الفرع لا يُراعى إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريطٌ في الأصل، ولذلك أُبيحَ شرعًا كشف العورة عند الاقتضاء، لأجل تشخيص داءٍ أو مداواةٍ أو عملية جراحية ضروريَّة؛ لأنَّ سَتْرَ العورة من الأمور التحسينية، أما العلاج فمن الضروريات؛ لأن حياته: النَّفس أو العقل أو النَّسل.

وبعد هذا التَّأصيل لهذا الفقه لنا أن نسأل: هل سمع دعاة التفجير والتدمير من خوارج العصر بِهَذا الفقه فضلًا عن امتثاله؟ وهل وازنوا بين المصالح والمفاسد عندما دمروا وقتلوا؟! وأيُّ مصلحة راجحة أو مرجوحة خرجوا بها من جرَّاء أعمالهم؟!

إنَّنِي أقولُ جازمًا وبدون تردُّد: لو أنَّ هؤلاء القومَ على دراية بأصول هذا الفقه ما دمَّروا وأفسدوا وقتلوا؛ فهل يشكُّ عاقلٌ بعد ذلك في ضرورة هذا الفقه في مناهج تعليمنا العالي وغيره.

ومِمَّا يُبنى على فقه المقاصد فقهٌ آخر يسَّمى بـ:فقه الموازنات والأولويَّات:

المراد بهذا الفقه: هو الفقه الذي يوازن بين المصالح بعضها وبعض، مرجِّحًا الراجح على المرجوح، ويقدِّم الأفضلَ على المفضول، والأهمَّ على المهمِّ، والواجبَ على المندوبِ، والضروريَّ على الحاجي، والحاجيَّ على التحسيني عند التعارض.

وهو ذلك الفقه الذي يوازن بين المفاسد بعضها وبعض.

وهو أيضًا: الفقه الذي يوازِن بين المصالح والمفاسد عند التعارض.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشرِّ، وإنما العاقل الذي يعلم خيرَ الخيرَيْن وشرَّ الشرَّيْن..

إِنَّ  اللَّبِيبَ إذَا  بَدَا مِنْ جِسْمِهِ  مَرَضَانِ مُخْتَلِفَانِ دَاوَى الأَخْطَرَا"()         

والمراد بالتَّعارُض بَيْنَ المَصْلَحتَيْنِ:تعذُّر تحقُّقهما معًا.

والمراد بالتَّعارُضِ بَيْنَ المفسدتين:تعذُّر دفع المفسدتين جميعًا.

والمراد بالتعارض بين المصالح والمفاسد: التلازم بينهما.

ولدفع هذا التعارض؛ يجب مراعاة القواعد التالية:

القاعدة الأولى: إذا تعارضت مصلحتان وتعذَّر الجمع بينهما وتحصيلهما جميعًا؛ وَجَبَ تفويتُ المصلحة الصغرى لتحصيل المصلحة الكبرى؛ كمَن أصاب يدَهُ مرضٌ، وقَرَّرَ الأطباء بَتْرَها، وقد دلَّ عليه من القرآن قول الله تعالى: (قَالَ يَا ابْنَ أم لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسرائيل وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ().

وقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لعائشة بنت أبي بكر رضيَ الله عنهما:" لولا أنَّ قَوْمَكِ حَدِيثو عهدٍ بالجاهلية لهدمتُ الكعبة وجعلتُ لها بابَيْن" الحديث ().

القاعدة الثانية: إذا تعارَضَتْ مَفْسَدَتَانِ وتَعَذَّرَ دَرْؤُهُما جميعًا؛ بل لابد من الوقوع في إحداهما - فحينئذٍ يجب ارْتِكاب المفسدة الصغرى في سبيل دفع المفسدة الكبرى:

مثل: تعارض مفسدة ذَهاب المال مع مفسدة ذهاب الدِّين أوِ النَّفس، ومثل: خَرْق الخَضِر للسفينة حتى لا يأخذها الملك الظالم.

القاعدة الثالثة: إذا تَعارَضَتْ مَفْسَدَةٌ ومَصْلَحَةٌ، وَلِذَلِكَ صور:

1- أن تكون المفسدة أكبر من المصلحة.

2- أن تتساوى.

3- أن تكون المصلحة أكبر، ومثل ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة آية 219)

نماذج من الموازنات:

- استخلاف أبي بكر الصديق قبل دفن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.

- حصار المسلمين لمدينة تُسْتَر، والصلاة بعد طلوع الشمس.

(3) فقه سماحة الإسلام ويُسْره:

والمقصود من هذا الفقه تأصيل المبادئ التالية:

1- ليس من مقاصد الإسلام تحرِّي المشقَّة وجلب العُسْر.

2- لا تكليف إلا بما يُستطاع.

3- عموم الشريعة زمانًا ومكانًا وأشخاصًا.

4- أنَّ التشدُّد والغُلُوَّ ليس شِرْعَة المسلمين، وإنما هو شِرْعَةُ مَنْ قبلَهم.

5- أنَّ الله يحبُّ أن تُؤْتَى رُخَصُه كما يحبُّ أن تؤتى عزائمه.

6- أنَّ القاعدة الشرعيَّة: (المشقَّة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتَّسع).

وذلك أنَّ النُّصوص الشرعيَّة قد تَوَاتَرَت على الترغيب في التيسير، ونبذ الغُلُوِّ والتَّنطُّع.

 (4) فقه أدب الخلاف:

والمقصود بهذا الفقه: بيان المنهج الشرعي في التعامل مع المخالِف، سواءٌ كان مسلمًا أم كافرًا، وبيان آداب الحوار مع الآخَرين، والقضاء على ظاهرة الإقصاء واحتكار الحقيقة المطلقة.

والمخالِفون أنواع وأصناف شتَّى من الناس، ولكنهم على اختلافهم ينقسمون إلى قسمين:

1- المخالف المسلم.

2- المخالف الكافر.

والمسلم مُطالَب بالالتزام بأخلاق الإسلام في التعامل مع المخالِفين، وهذا مرهونٌ بأمرَيْن:

1- الفقه الشرعي، والمعرفة الصحيحة بالأحكام الشرعية المتعلقة بالموضوع.

2- الأخلاق النفسية الشخصية المستقرَّة داخل النَّفْس.

والفقه الشرعي في هذه المسألة يسلتزم معرفة ثلاثة أمور:

- أقسام الاختلاف.

- أسباب الاختلاف.

- أدب الاختلاف.

الخلاف على نوعَيْن: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.

واختلاف التنوع له صورٌ كثيرةٌ مبسوطةٌ في مظانِّ ذلك.

أصولٌ عامَّةٌ للتعامل مع الآخَرين:

1- العدل.

2- الأخْذ بالظَّاهر.

3- مرجعية الكتاب والسنَّة.

4- التثبُّت من المنقول قبل اتِّخاذ المواقف.

6- قَبول الحقِّ ممَّن جاء به.

أسباب الاختلاف:

1- طبيعة البشر، وتفاوتهم في القدرة على الفَهْم والاستدلال.

2- طبيعة النصوص.

3- طبيعة اللغة.

4- عدم بلوغ الدليل للعالِم أو الفقيه.

5- عدم ثبوت الحديث عند البعض وثبوته عند غيرهم.

6- النسيان.

7- الخطأ والوهم.

8- عدم العلم بالنَّسخ.

9- اختلافهم في دلالة النصِّ.

الدَّعائم الفكريَّة في فقه الاختلاف:

1- الاختلاف في الفروع ضرورة ورحمة وسَعة.

2- اتِّباع المنهج الوَسَط، وترك التنطُّع في الدِّين.

3- التركيز على المحكَمات لا المشتَبِهات.

4- تجنُّب القطع والإنكار في المسائل الاجتهادية.

5- ضرورة الاطِّلاع على اختلاف العلماء.

6- شغل المسلم بهموم أمَّته الكبرى.

7- فقه أصول المعاملة الشرعية الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم.

آداب وأخلاقيَّات الخلاف:

1- الإخلاص والتجرُّد من الأهواء.

2- التحرُّر من التعصُّب للأشخاص والمذاهب والطوائف.

3- إحسان الظنِّ بالآخَرين.

4- ترك الطَّعْن والتَّجْريح.

5- البُعْد عن المِراء واللَّدَد في الخصومة.

6- الحوار بالتي هي أحسن.

مظاهر لمفاهيم مغلوطة في هذا الباب، تُنبئ عن عدم الفقه بالدِّين:

1- الظنُّ بأنَّ المخالَفة في الرأي توجِب العداء والإيذاء.

2- الظنُّ بأنَّ المسلم المخالِف لا يصحُّ ذِكْر شيءٌ من محاسنه أو العدل معه.

3- الظنُّ بأنَّ المسلم المخالِف لا يصحُّ إحسان الظنِّ به.

4- الظنُّ بأنه يجوز الحكم على عقائد الناس بالظنِّ.

5- استباحة عدد من الأساليب المحرَّمة في التعامل مع المسلم المخالِف.

6- الظنُّ بأنَّ المسلم المخالِف لا يصحُّ التعامل معه، أو إعطاؤه شيئًا من الحقوق.

7- الظنُّ بأنَّ المسلم المخالِف يجوز الكلام في عِرْضه.

8- زَعْم التقرُّب إلى الله تعالى بأذيَّة المسلم لأخيه المسلم.

9- معارضة هذه الأوهام لما جاءت به شريعة الإسلام.

خُلُقُ التَّعامل مع المخالِف الكافر:

ينقسم الكافر إلى محارب وغير محارب، ولكلٍّ منهما أحكامٌ:

مظاهر العلاقة بالكافر غير المحارب:

1- كَفُّ الأَذَى والظلم وعدم التَّعَدِّي: "مَنْ قتل معاهِدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنة" ().

2- التزام أصول الأخلاق في الإسلام معه، من الصدق والأمانة والعدل، وتحريم الغدر والظلم.

3- جواز إيصال البِرِّ والمعروف الإنساني إليه، ومن ذلك: جواز الهديَّة، لكنَّ الإسلام في الوقت نفسه لا يسوِّي بين المسلم والكافر في مجال آخَر؛ هو مجال الدِّين، وما يستلزمه من حقوق بين المسلمين، ومجال ولاية الله ونُصرته.

ولذا حرَّم الإسْلام على المسلم أنواعًا من الأخلاق وصورًا من التعامل مع الكافر، لعلَّ أصولها ما يلي:

- مَحَبَّة الكافر ومودَّته لا تجوز، وهذا حكمٌ معلَّقٌ بالأوصاف لا بالأشخاص.

- موالاة الكفَّار من دون المؤمنين.

مظاهر طبيعة علاقة المسلم بالكافر المحارِب:

1- النهي عن البدء معهم بالقتال قبل الدعوة.

2- النهي عن الغدر والمُثْلَة في القتال.

3- النهيُ عن قتل مَنْ لا يَقْتضي الجِهاد في سبيل الله قتله؛ كالصبيان والنساء.

4- تحريم إفساد الزروع والثمار، وإحراق الدُّور.

مفاهيم مغلوطةٌ في التعامل مع الكفَّار:

1- الانْطِلاقُ من الانفعالات والمواقف الشخصية.

2- الانطلاق من مفاهيم يظنّ أنها شرعية.

3- الظنُّ بأنَّ أذيَّة المسلم للكافر فيها أجرٌ مطلقًا.

4- الظنُّ بأنَّ التعامل الحسن مع الكافرين حرامٌ.

5- اختلاط مفهوم التعامل الحسن بمفهوم الولاء.

6- الظنُّ بأنَّه لا يَجُوزُ السلام على الكافر مطلقًا.

7- الخَلْط بين تفضيل الإسلام وتفضيل الخُلُق الشخصي للمسلم ().

(5) فقه الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهذا الفقه مستخلَص من قوله تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (سورة النحل آية 125)، وقوله تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (سورة طه آية 44).

وقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لمعاذ وأبي موسى عندما أرسلهما إلى اليمن:" يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا " الحديث.

وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى قواعد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبسوطة في كتب الدعوة والحِسْبَة تُكتَب بماء الذهب، فمن تلك القواعد - من باب التمثيل لا الحصر:

في باب إنكار المنكر:

1- تقديم الأهمِّ على المهم.

2- التدرُّج بالإنكار.

3- ألاَّ يترتَّب على إنكار المنكِر ما هو أنْكَر.

4- ألاَّ يكون المنكر من مسائل الخلاف السَّائغ.

إلى غير ذلك مِمَّا هو مبسوطٌ في مظانِّه.

وفي باب الدَّعوة:

1- الحكمة والرِّفق.

2- مراعاة عقول الناس وأفهامهم.

3- مراعاة الظروف والأحوال.. إلى غير ذلك.

4) فقه الثوابت والمتغيِّرات:

والمقصود بالثوابت: القطعيَّات ومسائل الإجماع، إضافةً إلى بعض الاختيارات العلمية الراجحة، التي تمثِّل مخالفتها نوعًا من الشُّذوذ والزَّلل.

والمتغيرات: هي الظنِّيَّات وموارد الاجتهاد، وكلُّ ما لم يَقُمْ عليه دليلٌ قاطعٌ من نصٍّ صحيح أو إجماع صريح.

والمقصود بفقه الثوابت والمتغيرات: معرفة ذلك، وفَهْم المنهج المعتبَر لدى أهل العلم في التعامُل مع كلٍّ منهما، والهدف من معرفة ذلك بيان ما ينعقِد الولاء والبراء عليه، وبين ما يَسَع الأمَّةَ فيه ما وَسِع مَنْ سَبَقَهُمْ من خيار الأمَّة، فيتكلَّم فيه كلٌّ بما عنده من حُجَج وبيِّنات، مع بقاء الأُلفة والعصمة في الدِّين.

كما أنَّ من أهداف هذا الفقه: بيان أنَّ الثوابت لا مجال فيها للتطوير والاجتهاد، ولا يحلُّ الخلاف فيها لمَنْ علمها.

قال الشافعيُّ: "كلُّ ما أقام به الله الحجَّة في كتابه أو على لسان نبيِّه منصوصًا بيِّنًا لم يحلّ الاختلافُ فيه لِمَنْ عَلِمَهُ" ()، بخلاف المتغيّرات والوسائل.

مِنْ أَحْكَامِ الدِّين ما يتعلَّق بِالعقائد، ومنها ما يتعلَّق بشعائر العبادات الرئيسة،ومنها ما يتعلَّق بالقِيَم الخُلُقيَّة، وهذه الثلاثة لا يحتاج الناس إلى تغيُّرها؛ بل إلى ثباتها واستقرارها؛ لتستقرَّ معها الحياة وتطمئن العقول والقلوب.

ومنها أمرُ نظم الحياة المختلفة؛ مثل نظام الأسرة والمواريث ونحوها، ونظام المعاملات والمبادلات المالية، ونظام الجرائم والعقوبات، والأنظمة الدستورية والإدارية والدُّوَلِيَّة ونحوها، وهي التي يفصِّل أحكامها الفقه الإسلامي بمختلف مدارسه ومذاهبه.

وهذه ذات مستويَيْن:

- مستوى يمثِّل الثَّباتَ والدَّوام: وهو ما يتعلَّق بالأُسُسِ والمَبَادِئ والأحكام التي لها صفة العُموم، وهو ما جاءت به النصوص القَطْعِيَّةُ الثُّبوتِ، القَطْعِيَّةُ الدَّلالةِ، التي لا تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدَّد الاجتهادات، ولا يؤثِّر فيها تغيُّر الزمان والمكان والحال.

- ومستوى يمثِّل المُرونةَ والتَّغَيُّر: وهو ما يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِ الأَحْكَام في شؤون الحياةِ المُخْتَلفة، وخصوصًا ما يتَّصلُ بِالكَيْفِيَّات والإجْراءات ونحوِها، وهذه قلَّما تأتي فيها نُصوصٌ قَطْعِيَّةٌ؛ بل إمَّا أن يكون فيها نصوصٌ محتمِلة، أو تكون متروكة للاجتهاد؛ رحمةً من الله تعالى غيرَنسيان" ().

والخلاصة: أنَّ الهدف من تأصيل هذا الفقه وضعُ قواعدَ ثابتةٍ دائمةٍ لجيل المستقبل، حتى لا ينساقوا مع دُعاة التجديد والعَصْرانيين، الذين ينادُونَ بِنَسْفِ كُلِّ قديم، وتَغْيِيرِ كُلِّ ثابت؛ بل ليس ثمَّة ثوابتُ عندهم، كما لا يَقَعُوا في شراك الجامدين على المألوف القديم، ونَبْذِ كلِّ جديد، حتى وإن كان في الوسائل والأساليب، وفيه مصلحةٌ راجحةٌ للأمَّة؛ بل الوسطيَّة في هذا الأمر وغيره هي المنهج الشرعي الدائم، الذي يبيِّن المولى عزَّ وجلَّ أنَّه من أخصِّ صفات هذه الأمَّة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة/143).

(7) التفريق بين الإسلام كدين معصوم، وبين قادته كأشخاص يصيبون ويخطئون

فإن أعلى درجات انتماء الفرد إلى أي كيان أن يذوب فيه فلا يكاد يَرى لنفسه آمالًا إلا آمال كيانه، ولا يكاد يشعر بآلام إلا آلام كيانه، فإذا حقق الكيان نصرًا كان هذا النصر هو الدواء من كل علة، وهو الراحة من كل تعب؛ لا سيما تلك التي حصلتْ في سبيل ذلك النصر، وإذا انكسر الكيان أو تعسر لم يطب لصاحبه طعام ولا شراب.

هذا الانتماء تجده أعلى ما تجده في أصحاب العقائد، وعلى رأسها: "عقيدة الإسلام" تلك العقيدة التي متى تجذرتْ في قلب صاحبها جعلت حياته وقفًا عليها؛ حتى ربما احتاج إلى أن يقال له ما قاله سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما وأقره النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" (رواه البخاري).

وهذا الشعور يكون ممدوحًا غاية المدح في اتجاه، ويكون مذمومًا غاية الذم في الاتجاه الآخر:

أما الاتجاه الممدوح فهو: ما قدَّمناه من بيع النفوس لله، وتكريس الأوقات والأنفاس للعمل من أجل دين الله.

وأما الاتجاه المذموم فهو: عندما يتصور الشخص في نفسه أو يتصور فيه غيره أنه هو الدين، وأنه لا قوام للدين إلا به! وبطبيعة الحال فكلما ازدادت مكانة الشخص وازداد تفانيه في كيانه كلما كان من الممكن أن يظن أو يظن به غيره ذلك الأمر.

ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقى الناس لله وأشدهم له خشية وكان يقوم من الليل حتى تتورم قدماه، وكان حاله مع أمته ما وصفه الله بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)، وكان صلى الله عليه وسلم هو مَن ينزل عليه الوحي من السماء فيثبت قلوب المؤمنين، وهو يعد المعلم والمربي والقائد؛ فكان من الطبيعي أن يتسرب هذا الشعور لا إراديًّا إلى أصحابه، ورحمة مِن الله بصحابة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن بوفاته سينقطع الوحي بينما الأمة تصدم أعظم صدمة فقد قدَّر الله الرحيم أن يحدث انكسار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويبلغ الأمر أن يشاع خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتحدث تلك الزلزلة، ويتضح أثر ذلك الشعور النفسي المذموم في الربط بين وجود الدين وبين وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن زالت الغمة واتضح عدم صحة تلك الشائعة؛ نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144).

ودارت الأيام دورتها وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلًا، ورغم ما سبق من التمهيد لذلك إلا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطيقوا ذلك!

وثبتَ لها أبو بكر رضي الله عنه فقام خطيبًا:"أيها الناس مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله في السماء حي لا يموت" ثم قرأ عليهم الآية: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، فحفظهم الله من الفتنة بتلاوة الصدِّيق رضي الله عنه لهذه الآية حتى قال قائلهم: "كأنها لم تنزل إلا تلك الساعة!".

إن إدراك الفرق بيْن الإسلام وبيْن قادته ليس مهمًا فقط لمنع الارتباط النفسي بوجود شخص وجهده "حتى ولو كان رسول الله" صلى الله عليه وسلم، لكنه مهم لأمر آخر أكثر أهمية وهو ألا يُلصق أي خطأ يقع فيه شخص للدين ذاته؛ ولذلك كان مما يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم قادة جيوشه: (وَإِنْ حَاصَرْتَ حِصْنًا، فَأَرَادُوكَ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللَّهِ، أم لا؟) (رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني).

ومِن ثَمَّ ورد إلينا في وقائع السيرة مواقف هي أخطاء لأصحابها تُروى لنتعلم منها دون أن يلتبس علينا الأمر؛ لقيام هذا الفصل الواضح بين الدعوة والداعي، وبين الإسلام والمسلمين، وإن كانوا قادة عظامًا؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ" مَرَّتَيْنِ (رواه البخاري)، فكان هذا تبرئًا من خطأ وقع فيه خالد رضي الله عنه، ولم يستلزم ذلك... التبرؤ من خالد رضي الله عنه، ولا لزِم من ذلك نسبة هذا الخطأ إلى الإسلام بطبيعة الحال.

ورغم وضوح ما قدمناه إلا أنه يغيب في أحيان كثيرة إذا ما وجدت حالة وسيطة بين الفرد وبين الدين "وهي الجماعة الخاصة"؛ حيث يفرغ الشخص كل هذه المفاهيم من أنه ليس هو الجماعة، وأن بقاء الجماعة ليس مرهونًا به، إلى آخر هذه المعاني... ثم يتناسى أن نسبة هذه الجماعة إلى الإسلام هي كنسبة الفرد إلى الجماعة!

 أو بعبارة أخرى: فيمكن اعتبار أن أي جماعة ما هي إلا شخصية اعتبارية، وهي جزء من الأمة وليست الأمة، ولها اجتهاداتها وأخطاؤها، ولها تجاربها التي تنجح أحيانًا وتتعثر في أخرى، وهذا سواء كانت هذه الجماعة مؤقتة التكوين أو كانت دائمة كالجماعات الإسلامية الآن.

وفي غزوة "أُحد" ذكر الله عز وجل عددًا من الآفات وُجدت في بعض الأفراد، ولكنها في النهاية لما أصبحت خطأ لذلك الجيش خاطبهم الله به كمجموع.

إن أهم فائدة نخرج بها من ذلك التمييز بيْن الإسلام وبين المسلم أو بين الإسلام وأي جماعة من المسلمين: أن ندرك أن الإسلام هو الفسطاط الذي نفر إليه عند حدوث انكسار؛ لنستمد منه عزته وشموخه، وبقاءه منتصرًا (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139)، وهذا العلو ليس استعلاءً على الخلق حتى العصاة منهم "كما يفهم أو يشعر البعض"، ولكنه استعلاء يعيد للنفس وللمرء توازنه بأنه وإن كان خطاءً فإن لديه دليلًا لا يخطئ، ولكن فقط عليه أن يعرض نفسه عليه ليصحح خطأه.

إن هذا الفهم هو الذي يضمن للأفراد والجماعات أن يسلكوا عند الأزمات سلوكًا وسطـًا محمودًا لا هو الإصرار والعناد الذي يهلك صاحبه في الدنيا والآخرة، ولا هو التراجع والانهيار، وبكاء الأطلال ورثاء الديار!

إن الفرد المسلم والمجتمع المسلم متى فهموا ما قدَّمناه، واستصحبوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" ()، فإنهم يخرجون من كل أزمة بمراجعات تزيدهم نضجًا وعزيمة وإصرارًا.

فهل نأمل أن يراجع "التيار الإسلامي" نفسه بعد تجربة الدكتور "مرسي" في رئاسة مصر لمدة سنة، ويعرف كل فصيل أخطاءه، ونتجاوز هذه المرحلة إلى ما وراءها... ؟! ().

(8) لزوم الاعتدال في جميع الأحوال

  فينبغي في ذلك الخضم من الفتن والمصائب ألا يفارقنا هدوؤنا، وسكينتنا، ومروآتنا؛ فذلك دأب المؤمن الحق، الذي لا تبطره النعمة، ولا تقنطه المصيبة، ولا يفقد صوابه عند النوازل، ولا يتعدى حدود الشرع في أي شأن من الشؤون.

ويتأكد هذا الأدب في حق من كان رأسًا مطاعًا في العلم، أو القدر؛ لأن لسان حال من تحت يده

يقول: اصبر نكن بك صابرين فإنما             صبر الرعية عند صبر الراس            

قال كعب بن زهير رضي الله عنه: في قصيدته المشهورة البردة:

لا يفرحون إذا نالت رماحهم         قومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا            

فهو يمدح الصحابة رضي الله عنهم بأنهم لا يفرحون من نيلهم عدوًا؛ فتلك عادتهم، ولا يحزنون إذا نالهم العدو؛ لأن عادتهم الصبر والثبات.

 هذه الخصال يمتثلها عظماء الرجال؛ فلم يكونوا يتخلون عن مروآتهم، وعاداتهم النبيلة حتى في أحلك المواقف.

 فإذا لزم المرء هذه الطريقة؛ فلم يَخِفَّ عند السراء، ولم يتضعضع حال الضراء فأحرِ به أن يعلو قدره، ويتناهى سؤدده، وأن تنال الأمة من خيره.

  وتذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه لما دَفَنَ ولَدَه عبد الملك وهو أبر أولاده، وأكثرهم دينًا وعقلًا مرَّ بقوم يرمون؛ فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحدُ الراميين فأخرج يعني أبعد عن الهدف فقال له عمر: أخرجت فقصِّر، وقال للآخر: ارمِ، فرمى فقصَّر أي لم يبلغ الهدف فقال له عمر: قصَّرت فبلِّغ، فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين! أَتْفِرغ قلبك إلى ما تفرغت له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تصل إلى منزلك؟ فقال له عمر: يا مسلمة! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فالْهُ عما نزل بك".

  فالأخذ بهذه السيرة أعني الاعتدال حال نزول الفتن ينفع كثيرًا، ويدفع الله به شرًا مستطيرًا؛ لأن الناس حال الفتن يموجون، ويضطربون، وربما غاب عنهم كثير من العلم؛ فلذلك يحتاجون وخصوصًا من كان عالمًا، أو رأسًا مطاعًا إلى لزوم السكينة، والاعتدال؛ حتى يُثَبِّتوا الناس، ويعيدو الطمأنينة إلى النفوس، ولا تقطعهم تلك النوازل عما هم بصدده من عمل.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم؛ حتى أوهنت العقول، وطيشت الألباب، واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة القعر؛ فهذا ينكر موته، وهذا قد أقعد، وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه، ومن يسلم عليه، وهؤلاء يضجون بالبكاء، وقد وقعوا في نسخة القيامة، وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى، وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين، وذلت كماته؛ فقام الصديق - رضي الله عنه - بقلب ثابت، وفؤاد شجاع فلم يجزع، ولم ينكل قد جُمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي"وأن الله اختار له ما عنده، وقال لهم:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )      (آل عمران/ 144).

 فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحدًا إلا وهو يتلوها، ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم.

  قال أنس رضي الله عنه: "خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود".

 وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه، وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص، وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو مع الصحابة يعلمهم إذا جهلوا، ويقويهم إذا ضعفوا، ويحثهم إذا فتروا؛ فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم؛ حتى كان عمر مع كمال قوته وشجاعته_ يقول له: يا خليفة رسول الله تألف الناس، فيقول: علام أتألفهم؟ أعلى دينٍ مفترى؟ أم على شعرٍ مفتعل؟ وهذا باب واسع يطول وصفه".

(9) عدم الخلط بين الوسائل والغآيات:

معلوم أن الغاية التى من أجلها خلقنا الله عز وجل هى تعبيد الناس لله تعالى،وإرتباط الأرض بالسماء فى جميع شئون الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، قال الله تعالى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) هذه الغاية بينها الله فى كتابه بقوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، هذه الغاية التى صدع بها ربعي ابن عامر فى وجه ملك الفرس عندما سأله ما الذى أتى بكم إلى بلادنا فقال إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فهذه غايتنا التى من أجلها خُلقنا ولأجلها نعيش وعليها نموت إن شاء الله وفى سبيل تحقيق هذه الغاية أمرنا الله عز وجل أن نتلمس خطى الأنبياء فى سيرهم لتحقيقها وإلا ما وصلنا لتحقيقها.

قال العلماء الوصول إلى الغاية المحمودة يجب أن يكون بطريقة مشروعة، فمن جعل الوسائل غآيات اختلطت عليه الأوراق وربما ضل الطريق وتوقف فى أوله أو منتصفه و من هذه الوسائل التمكين أو الاستخلاف فى الأرض قال تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوْا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر)) 41 الحج)، وهى من أنفع الوسائل كما ورد عن عثمان رضى الله عنه إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، لكنها فى النهاية وسيلة فلا يجوز أن نبذل من أجلها أرواحنا للحصول عليها، فالوسائل متعددة وكثيرة فإذا حدث النزاع علي هذه الوسيلة ضاع من العقول النظر إلى الغاية الرئيسة.

 من أجل ذلك لما بويع للحسن رضى الله عنه ونوزع فى أمر الخلافة بما كان سيؤدى إلى سفك الدماء وإزهاق الأرواح الأرواح التى من المفترض أن تعيش لتحقيق الغاية المنشودة التى هى تعبيد الأرض لله تنازل الحسن رضى الله عنه، وكان قد أثنى عليه النبى صلى الله عليه وسلم كما فى البخاري "إن ابني هذا لسيد، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين".

وقد حقق الله على يد الحسن ما بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن حفيده الحسن سيكون سببًا في الإصلاح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، وحدث ذلك سنة 40هـ عندما بايع المسلمون الحسن بعد استشهاد أبيه رضي الله عنه، وكان الحسن يشعر بالأسى لِما حلّ بالمسلمين من خلاف، وما دار بينهم من قتال، وكان يأمل بتوحيد كلمتهم ورصّ صفوفهم، وإن تطلب الأمر تقديم تضحيات جسيمة كالتنازل عن الخلافة.

- فالوصول للحكم والتمكين وسيلة، فيا عجبا ممن دافع دفاع المستميت عن الوسيلة وترك الدفاع عن الغاية بل ربما تهكم على من يدعوا للحفاظ على الغاية فبقاء الدين ومعالمه وأهله أولى من بقاء الجاه ورونقه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply