بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الإنسان قد يشيب ويظهر عليه الشيب قبل أوان المشيب، وذلك لأسباب متعددة.
منها: أن يكون الإنسان ممن يهتم بالأشياء اهتمامًا عظيمًا، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت، قال:"شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، ﴿عم يتساءلون﴾، و﴿إذا الشمس كورت﴾"[أخرجه الترمذي، وصححه الألباني] قال الإمام الطيبي رحمه الله: يريد أن اهتمامي بما فيها من أهوال يوم القيامة، والمثلات النوازل بالأمم الماضية أخذ مني ما أخذه حتى شبت قبل أوان المشيب خوفًا على أمتي. وقال الإمام المباركفوري رحمه الله: قوله:*قد شبت* من الشيب وهو بياض الشعر، قال القاري: أي ظهر عليك آثار الضعف قبل أوان الكبر، وليس المراد منه ظهور كثرة الشعر الأبيض عليه، لما روى الترمذي عن أنس قال: ما عددت في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا أربع عشرة شعرة بيضاء.
ومنها: أن يكون الإنسان كثير الهموم والغموم والأحزان، قال الإمام المناوي رحمه الله: الهموم والأحزان إذا تقاحمت على الإنسان أسرع إليه الشيب في غير أوان. قال المتنبي:
والهمُ يخترمُ الجسيم مخـــــــــــافة ويُشيبُ ناصية الصبي ويهرمُ
ومنها: الفزع، قال الإمام القاري رحمه الله: الفزع يورث الشيب قبل أوانه، إذا هو يذهل النفس، فتنشف رطوبة البدن، وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق، فإذا نشفت رطوبته، يبست المنابع فيبس الشعر فأبيض، كالزرع الأخضر إذا لم يسق فإنه يبيض.
ومن ظهر فيه الشيب فليحمد الله، فالشيب نور في وجه المسلم، لا ينبغي نتفه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام، إلا كانت له نورًا يوم القيامة"[أخرجه أبو داود، وصححه العلامة الألباني، في صحيح الجامع برقم:7463]
قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله: لا ينبغي للمؤمن نتف الشيب، ففي الحديث أنه"نور للمسلم" فلا ينبغي نتفه: لا من الرأس، ولا من اللحية، ولا من غيرها،... فينبغي للمؤمن ألا يكره الشيب، وألا ينتفه، بل يحمد الله على أن بلَّغه هذه المدة، ويستعين بالله على طاعة الله.
ومن نتف شيبة فإنه ينتف نوره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشيبُ نور في وجه المسلم، فمن شاء فلينتف نوره"[رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة برقم:1244].
ومن ظهر عليه الشيب فله أن يغيره بغير السواد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"[متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المراد به صبغ شيب اللحية والرأس... ثم إن المأذون فيه مقيد بغير السواد، لما أخرجه مسلم من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال:"غيروه وجنبوه السواد" ولأبي داود وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعًا "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة" وإسناده قوي، إلا اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه فمثله لا يقال بالرأي فحكمه الرفع. ولهذا اختار النووي أن الصبغ بالسواد يكره كراهية تحريم.
وقال العلامة العثيمين رحمه الله: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"واجتنبوا السواد" وجوب تجنب السواد، وذلك أن صبغ الشيب الأبيض بالسواد مضادة لحكمة الله عز وجل، إذ إن حكمة الله عز وجل أنه كلما كبُر الإنسان ابيض شعره، فإذا حاول أن يقلبه إلى سواد فهذا مضادة لما كان من خلق الله عز وجل، ثم إن كان فيه تدليس فهو أشد وأشد، مثل: إنسان يريد أن يتزوج وهو أبيض الشعر، ومعلوم أنه إذا خطب المرأة ورأت شعره أبيض فقد لا تقبل، فيتحيّل ويصبغه بالسواد، ولهذا حمله بعض العلماء على أن المراد: إذا أراد الغش والخيانة، ولكن هذا ضعيف.
وقد زعم بعض الناس أن قوله:"واجتنبوا السواد" مُدرج، ولكنه زعم ليس بصحيح لأمرين:
الأول: أن الأصل عدم الإدراج.
الثاني: أنه قد جاء حديث آخر منفصل بالوعيد الشديد على من خصب بالسواد.
وهل هذا الحديث خاص بالرجال؟ نقول: لا هو للرجال والنساء.
وقال العلامة ابن رحمه الله: يسن للجميع تغير الشيب الرجال والنساء لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"غيروا هذا السواد وجنبوه السواد" وقوله:"إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفهم"ولما أحضر لديه والد الصديق أبو قحافة وقد اشتعل رأسه ولحيته شيبًا أمره بتغيره، وقال:"غيروا هذا السواد وجنبوه السواد" وهذا يعم الرجال والنساء، فالسنة للجميع تغير الشيب بالحمرة والصفرة بالحناء ونحو ذلك لا بالسواد، أما السواد الخالص فلا يجوز أن يغير به الشيب لهذا الحديث الصحيح، ولكن يغير بغير السواد بالحناء والكتم... الصبغة بين السود والحمرة، أو الحمرة الخالصة، أو الصفرة، هذا هو السنة.
والشيبُ فضلًا على أنه نور في وجه المسلم فله بكل شيبة حسنة، ورُفع درجة، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الشيبُ نور المؤمن، لا يشيبُ رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة"[أخرجه البيهقي في الشعب وصححه الألباني في الصحيحة1243].
وظهور الشيب مع تقدم الإنسان في السن دليل على الضعف، قال الله سبحانه وتعالى:﴿كهيعص * ذكر رحمة ربك عبدهُ زكريا * إذ نادى ربه نداءً خفيًا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبًا﴾[مريم:1-4].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: والمراد من هذا الأخبار عن الضعف والكبر، ودلائله الظاهرة والباطنة.
فالشيب نذير، قال الله عز وجل:﴿وجاءكم النذير﴾[فاطر:37] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة وأبي جعفر الباقر رضي الله عنهم، وقتادة وسفيان بن عيينة أنهم قالوا يعني الشيب.
وقال الإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله، عن عكرمة رضي الله عنه في قوله:﴿وجاءكم النذير﴾ قال الشيب.
وقال الإمام البغوي رحمه الله: يقال: الشيب نذير الموت، وفي الأثر: ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت.
فالشيب مع تقدم الإنسان في السن رسول الموت: قال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله: الشيب مرض الموت لولا أنه مألوف، وإلا فسل عنه الطب، فقل: ما هذا العارض؟ هل هو زائل، أم لا؟ فإذا أجمع الكل على أنه ذبول يتزايد، وتحلل يترادف ويتتالى، فاعلم أنه مرض الموت،... فتأهب للنقلة، فقد استقرت العلة.
قال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: رأى إياس بن قتادة شعرة بيضاء في لحيته، فقال: أرى الموت يطلبني وأراني لا أفوته، أعوذ بك يا رب من فُجاءات الأمور، يا بني سعد: قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي، ولزم بيته.
قال قيس بن عاصم: الشيبُ حطام المنية.
وقال آخر: الشيبُ تاريخ الموت.
وقال آخر: الشيبُ أول مراحل الموت.
ويُقال: شيب الشِّعر موت الشعِّر، وموتُ الشعرِ علّةُ موت البشر.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من لم ينذره باقتراب أجله وحي، أنذره الشيب وسلب أقرانه بالموت... من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت.
وقال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: الشيب دليل الضعف والكبر، ورسول الموت، ورائده ونذيره. وقال العلامة ابن باز رحمه الله: الشيب... مذكر بالله، مذكر بالآخرة، مذكر بالموت، فإنَّ مَن شاب فقد مات بعضه، فالشيب فيه نذارة، وفيه موعظة... الشيب من النُّذُر بقرب الموت وأن العمر قد بدأ يموت بعضه فالمؤمن ينتفع بهذا، ويحذر، ويعد العدة، ويجتهد في طاعة الله ورسوله؛ استعدادًا لما بعد الموت.
وإذا كان الشيب نذير بالموت ورسوله وبريده، فإن ارتكاب الذنوب بعد ظهوره مصيبة كبيرة، وداهية عظيمة: قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: احذروا الذنوب فإنها مشؤومه، عواقبها ذميمة، وعقوباتها أليمة، والقلوب المحبة لها سقيمة، السلامة منها غنيمة، والعافية منها ليس لها قيمة، والبلية بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة... من نزل به الشيب....فقبيح منه الإصرار على الذنب.
فبادر يا صاحب الشيب بالتوبة وعجل في ذلك قبل هجوم الأجل: قال الإمام أبو الوفاء علي ابن عقيل رحمه الله: الشيب مرض الموت،... إنني لك ناصح... يا أخي: فما غسلت سيئة بأحسن من دمعة حسرة على فائت من عمرك في غير ما خلقت له
وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: يا من صبح شيبة بعد ليل شبابه قد تبلج، ونذيره قد حام حول حماه وعرج، كأنك بالموت قدم سريعًا وأزعج... وحملك على خشونة النعش بعد لين الهودج... وأفقرك إلى قليل من الزاد وأحوج... يا لا هيًا في دار البلاء ما أقبح فعلك وأسمج....يا غافلًا عن رحيله سلب الأقران أنموذج... يا من شاب وما تاب في أي شيء تطمع، يا غافلًا والموت على أخذه قد أزمع، ستعرف يوم عرض الكتاب وسوء الحساب عين من تدمع.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام، أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن والإسلام؟... الغنيمة، الغنيمة بانتهاز الفرصة... المبادرة، المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحًا فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يصير المرء مرتهنًا في حفرته بما قدم من عمل.
اللهم اجعل الشيب مذكرًا لنا وموقظًا لقلوبنا وباعثًا لنا على الجد في عمل الطاعات والاستعداد لهادم اللذات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد