بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(79).
{وَمِنْهُمْ} من اليهود عوام {أُمِّيُّونَ} الأمي من لا يعرف القراءة والكتابة، والأظهر أنه منسوب إلى «الأمة» بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل منسوب إلى «الأم» وهي الوالدة، أي أنه بقي على الحال التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا.
وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف «أهل الكتاب» فلذلك قيل هنا:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[آل عمران:75]، وقال ابن صياد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشهد أنك رسول الأميين، وذلك لما تقتضيه الأمية من قلة المعرفة، ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميا قبل النبوءة.
{لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ} التوراة {إِلاَّ أَمَانِيَّ} جمع أمنية، وهى ما يتمناه المرء فى نفسه من شىء يريد الحصول عليه. أو هي تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر.
قيل الأماني القراءة والتلاوة. وقال مجاهد: الأماني الأكاذيب.. على قولين.
فعلى القول الأول معناه: «لا يعلمون الكتاب إلا قراءة وتلاوة»، أي لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. فلا يقرؤون الكتاب ولا يفهمونه، لكن يسمعون من أحبارهم. وهذا أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه.
وقيل: أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم.
وعلى القول الثاني: «لا يعلمون الكتاب إلا أكاذيب وأباطيل» فقيل أن الاستثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، ويدل لهذا القول: قوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}[البقرة:111]، وقوله:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}[النساء:123].
وأمانيهم أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أيامًا معدودة، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد، قاله ابن عباس ومجاهد، واختاره الفراء.
الأماني لغة هي الأكاذيب، يقال: تمنى الرجل، إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:*والله ما تَمنَّيْتُ [أي ما كذبت] ولا تَغَنَّيْتُ منذُ أَسْلَمْتُ*. وقال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به: أهذا شيء رويته أم تمنيته؟ أي اختلقته.
والكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره، فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة،فالأماني هي التقادير النفسية*أي الاعتقادات*التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق.
أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا وهذا أظهر الوجوه.
{وَإِنْ} إن هنا: هي النافية، بمعنى ما{هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ليسوا على يقين.
في هذه الآية دليل على أن المعارف كسبية، وعلى بطلان التقليد، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز، وعلى أن القول بغير دليل باطل، وعلى أن ما تساوي وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي.
والمعنى الإجمالي: كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة، وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم -المظنون بهم تطلب الحق المنجى والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل- فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم، فكيف تطمعون أيضا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم.
{فَوَيْلٌ} كلمة أصلها العذاب والهلكة، والويل: البلية {لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ} ما يكتبه علماء اليهود من أباطيل وينسبونه إلى الله تعالى ليتوصلوا به إلى أغراض دَنِيَّةِ من متاع الدنيا القليل، فكتبوا أشياء اختلقوها، وأحكامًا بدلوها من التوراة حتى استقر حكمًا بينهم.
وقيل:خاف ملوكهم على ملكهم، إذا آمن الناس كلهم، فجاءوا إلى أحبار اليهود فجعلوا لهم عليهم وضائع ومآكل، وكشطوا من التوراة، وكتبوا بأيديهم كتابًا، وحللوا فيه ما اختاروا، وحرموا ما اختاروا.
{بِأَيْدِيهِمْ} أتى بها لتأكيد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولرفع المجاز الذي كان يحتمله.
وفي هذا التأكيد أيضًا تقبيح لفعلهم، إذ لم يكتفوا بأن يأمروا بالاختلاق والتغيير، حتى كانوا هم الذين تعاطوا ذلك بأنفسهم، واجترحوه بأيديهم.
وهذا نظير قوله تعالى:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}[آل عمران:167] وقوله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}[الأنعام:38]. والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة، وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.
{ثُمَّ يَقُولُونَ} أي لأتباعهم الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرىء لهم {هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ} علة في القول {بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الثمن هنا: هو عرض الدنيا، أو الرّشا والمآكل التي كانت لهم، ووصف بالقلة لكونه فانيًا، أو حرامًا، أو حقيرًا، أو لا يوازنه شيء لا ثمن ولا مثمن.
فمهما حصل للمرء في الدنيا من رئاسة، وجاه، ومال، وولد.. فهو قليل بالنسبة للآخرة؛ كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري عَنْ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"مَوْضِعُ سَوْطٍ [متر تقريبًا] فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، فالدنيا من أولها إلى آخرها برئاساتها، وأموالها، وبنيها، وقصورها، وكل ما فيها؛ من متاع الدنيا القليل.
قال ابن عاشور: والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتابا تافهة من القصص المعلومات البسيطة ليتفيقهوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة من غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.
وقد جمعوا في هذا الفعل أنهم ضلوا وأضلوا، وكذبوا على الله، وضموا إلى ذلك حب الدنيا. وهذا الوعيد مرتب على كتابة الكتاب المحرّف، وعلى إسناده إلى الله تعالى. وكلاهما منكر، والجمع بينهما أنكر. وهذا يدل على تحريم أخذ المال على الباطل، وإن كان برضا المعطي.
{فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} كتابتهم مقدمة نتيجتها كسب المال الحرام، فلذلك كرر الويل في كل واحد منهما، لئلا يتوهم أن الوعيد هو على المجموع فقط... فكل واحد من هذين متوعد عليه بالهلاك.
قال ابن عاشور: تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك، فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد