بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أخي الحاج... لبَّيْتَ نداءَ ربِّك، واستجبْتَ لِما أوجبَه عليك، قال تعالى: (وللهِ على الناسِ حجُّ البيتِ من استطاعَ إليه سبيلا) 97/آل عمران. وأحسبُك إن شاء الله التزمتَ بأركان الحج وواجباته وسُننه، ولم ترتكبْ مخالفةً، فكان حجُّك مبرورًا وسعيُك مشكورًا، وقد غفرَ اللهُ لك ماتقدَّمَ من ذنبِك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: "مَنْ حجَّ فلم يرفُثْ، ولم يفسُقْ خرجَ من ذنوبِه كيومَ ولدتْهُ أمُّه" رواه البخاري ومسلم. وأنت تعلم أخي الحاج مكانة الحج عند الله سبحانه وتعالى، فهو من أفضل الأعمال المرضية عند الله، وحين سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ بالله ورسولِه" قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: "الجهادُ في سبيل الله" قيل: ثمَّ ماذا؟ قال:"حجٌّ مبرور" رواه البخاري ومسلم. ومن هنا تعلم مكانة الحج وفضله وأثره في حياة المسلم والمجتمع الإسلامي. ولا يخفى أثره عليك من غفران ذنوبك، ونيلك سِفرَ براءتك من النار برحمة الله وعفوه، فنفسُ الإنسان كالثوب، فإذا ما اتسخ الثوب لزمه الغسلُ بالماء ليكون نظيفا، والنفس إذا أصابتها أدران الذنوب، ورانت عليها الآثام فلا بد لها من تنظيف، ولكنه من نوع آخر، وهاك الطريق، خرَّجَ الطبراني بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حجُّوا فإنَّ الحجَّ يغسلُ الذنوب، كما يغسلُ الماءُ الدَّرن". فالحج وما فيه من توبة نصوح وتوجُّه صادق إلى الله وإخلاص وأداء للمناسك كما أدَّاها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يكون له أثر ظاهرٌ في النفس، ويكون لصاحبه كرامة، وأيَّةُ كرامة ومنزلة ينالُها الحاجُ بعد تأديته لهذه الفريضة كالتي وعده الله بها، ووعد الأولين والآخرين على حدٍّ سواء. عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ داود النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: إلهي مالعبادك عليك إذا هم زاروك في بيتك؟ قال: لكل زائر حقٌّ على المزور: يا داود لهم عليَّ أن أعافيَهم في الدنيا، وأغفر لهم إذا لقيتهم" رواه الطبراني.
أخي الحاج... لا يخامرني شك أبدا في أنَّ غروب شمسِ يوم عرفة قد غرب بذنوبِك كلها بمشيئة الله تعالى، وإليك الدليل: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "جاء رجلان أحدُهما من الأنصار والآخر من ثقيف ليسألا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدَّم الأنصاريُّ أخاه الثقفي ليسأل لأنه ضيف قدم من مكان بعيد، وقبل أن يسأل قال له صلى الله عليه وسلم إن شئتَ أجبتُك عما جئت له... وأجابه عن مسألته قبل أن يفوه بها الرجل. والتفت النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الأنصاري فقال له إن شئتَ تسألني أوأخبرك بما جئتَ له. فقال: لا يانبيَّ الله. أخبرني عمَّا جئتُ أسألك عنه. فقال: جئتَ تسألني عن الحاج ماله حين يخرج من بيته وماله حين يقومُ بعرفات، وماله حين يرمي الجِمار، وماله حين يحلقُ رأسَه، وماله حين يقضي آخر طواف بالبيت؟ فقال: يانبيَّ الله والذي بعثك بالحق ما أخطأتَ مما كان في نفسي شيئا. قال: فإن له حين يخرج من بيته أن راحلته لاتخطو خطوةً إلا كُتبَ له بها حسنة، أو حُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا وقف بعرفة فإن اللهَ عزَّ وجلَّ ينزلُ إلى سماءِ الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبَهم، وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج (ماتراكم من الرمل ودخل بعضه ببعض) وإذا رمى الجِمار لايدري أحد ماله حتى يتوفاه الله يوم القيامة، فإذا قضى آخر طواف بالبيتِ خرج من ذنوبِه كيومَ ولدتْه أُمُّه" رواه البزار وابن حبان.
أخي الحاج... من هنا يتبين لك مكانة الحج، وما للحاج من ثواب ومن منزلة يوم القيامة. إن الحاج الذي شهد الموقف واستذكر فيه خطبة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما فيها من تعاليم وإرشادات وقيم وما فيها من توصيات عظيمة، ومن قوله لأولئك الحجاج من أصحابه رضي الله عنهم:"فما أنتم قائلون!" قالوا: نشهد أنك قد بَلَّغتَ وأدَّتَ ونصحتَ. فرفع إصبعه السبابة إلى السماء وهو يقول:"اللهم فاشهد... اللهم فاشهد... اللهم فاشهد...". وفي ذلك الموقف وعندما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته فُتحت أبواب السماء، ونزل الوحي الأمين عليه صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: }اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا{. فها أنت – أخي الحاج – عدت إلى ديارك وأهلك بهذه المشاهد النفيسة، وتحمل في أحناء قلبك أطيب القيم وأرقى السمو. ولسوف تلقى ربك جل وعلا ويسألك عن أعمالك بعد الحج، فما عساك أن تقول؟ ولم يترُكْك حبيبُك صلى الله عليه وسلم حائرا في الجواب و لا مترددا فيه فإنه صلى الله عليه وسلم أتم نصحَه لك، وهو بك رؤوف رحيم فقال:"ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن ستكون له طاعة فيما تحقرون من أعمالكم فسيرضى به" رواه الترمذي.
أخي الحاج... لقد عدت بفضل من الله ورضوان، عُدتَ وأنت تحمل وثيقةَ ما أحل الله لك، وما إذن لك به الشارع، ولا يخفى عليك أيضا ما حرم الله مما يوجب عليك العقاب في الدنيا والآخرة. فأنت اليوم بدأت المسيرة على الصراط المستقيم، وعلى النهج القويم نهج الصالحين فلا تتخلفْ عن مكارم الأخلاق، ولا عن مآثرِ أهل التقوى، ولا عن الأعمال التي تقربُك من الله كالعبادات والمعاملات والسلوك الكريم. واجعل لنفسك ساعةً تختلي فيها مع الله في نهار أو ليل تناجيه وتسأله الرضا وحسنَ المآب في يوم لا بد منه. شمِّر عن ساعديْ تقواك وصالح أعمالكَ فهي – والله – البطولةُ الحقيقية، فاجعل سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم منهاجا لجوانب حياتك كلها. قال تعالى:}لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا{. فكن من السباقين في الخيرات، وفي تطبيق أفعاله وأقواله وسائر أخلاقه صلى الله عليه وسلم فهي مفاتيح السعادة الدنيوية و الأخروية. وبها يزاحمُ المفلحون الناسَ على أبواب الجنة يوم الحساب. فأعمالك الصالحة – أخي الحاج – بعد عودتك من الديار المقدسة هي دلائل فوزك، وبراهين صدقك التي تدفع عنك – بمشيئة الله – الدنايا والرذائل والموبقات. وتُحسِّنُ إليك الأخذ بالعزة بالله، والأنَفةِ من ظلم الإنسان لنفسه، ولأخيه الإنسان. وتؤكد لك تلك الدلائل محاسنَ هذا الإسلام وما فيه من قيم وأخلاق وسجايا عظيمة، فقد أمر الله بالحلم والصبر والصدق والاستقامة والإصلاح بين الناس وستر عورات المسلمين وملاطفة الأيتام والإحسان إلى المحتاجين ومراعاة حقوق الجيران وصلة الأرحام... إلى آخر هذا العقد الفريد من الصفات العاليات التي لا يجهلها أيُّ مسلم أُميٍّ أو متعلمٍٍ.
أخي الحاج... لا يخفى عليك بالمقابل ما لدى شياطين الإنس والجن من سوء الأخلاق وقبيح الصفات كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور والربا والزنى وأكل أموال الناس بالباطل وتعاطي المخدرات والخمور... إلى آخر هذه السلسلة الشيطانية من كبائر الذنوب وموبقاتها.
أخي الحاج... أُذَكِّرُ نفسي وأُذَكِّرُكَ ومَنْ يقرأ ويعي معنى قوله تعالى:}يَا عِبَادِ لَا خَوْف ٌعَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ 68 الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتنَاوَكَانُوا مُسْلِمِينَ 69 ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ 70 يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 71 وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 72 لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ 73{الزخرف. وقوله تعالى:}إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ 51 فِي جَنَّاتٍ وَعُيُون ٍ52 يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ 53 كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ 54 يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ 55 لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ56 فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 57 فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 58 فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ 59{ الدخان. وكذا قولَ النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل:"يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا إذن سمعت و لا خطر على قلب بشر". واقرؤوا إذا شئتم:
"فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين" متفق عليه. هذا يبان وبلاغ لكل مسلم، وربما كان للحاج الذي رجع من حجه يحمل سِفرَ براءته من الذنوب... أكثر وضوحا، وأعمق أثرا في تغيير السلوك إلى الأفضل والأسمى، ولعل حكاية الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي وكان رضي الله عنه من كتاب الوحي تنقُلنا مباشرة إلى آفاق الملأ الأعلى قال:"لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، فقال أبو بكر: سبحان الله!! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنه رأي عينٍ، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا!! قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا! قال حنظلة: فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك!) قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة. وكرر هذه الكلمة ساعة وساعة ثلاث مرات". رواه مسلم.
أخي الحاج... إنها معركة بين الخير الذي تحمله، والشر الذي يستعر في جنبات بيئتك حيثما كنت. فكن حذرا، وعش صالحا مترجِما لمعاني ومنطلقات هذه الفريضة العظيمة من إخاء ومودة ووقوف مع الحق وتحقيق للأهداف النبيلة التي جاء بها الإسلام. وتلك هي التجارة الرابحة في سوق الحياة الدنيا وذاك هو إحساسك بواجبك تجاه نفسك ومجتمعك. وهو منهجك الحياتي للفوز بما عند الله من ثواب. وهو أيضا إحساسك بضرورة تنمية رصيدك من الحسنات، وتقوية مساعيك نحو السمو بنفسك، لأنك رجعت من حجك بمنهج يضطع أهلُه بإصلاح النفس وبالعمل الذي ينأى عن تدنيس سِفر البراءة الذي تحتضنه أحناؤك ويشرق بأنواره محياك. فأنت – أخي الحاج – من وفد الله الذين أجابهم حين دعوه، وغفر لهم حين استغفروه وأجابهم حين سألوه. وأنت من المُهلِّين الذين بشرَّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ومن أهل العجِّ و الثجِّ ومن أهل الطواف باليت العتيق وممَّنْ استلموا الركنين (الحجر الأسود و الركن اليماني) ومن استلمهما فقد حُطتْ خطاياه.
أخي الحاج... رجعت بغير ما ذهبت، فمكانتك بعد الحج عند الله عالية فلا تعرضْها للزوال، وصحائفك بيض نقية فلا تسودْها بالذنوب، ونفسك طابت واطمأنت إلى فضل الله فلا تجلبْ عليها أسباب الشقاء والقلق من جديد إذ بارك لك الله حجَّك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد