بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في منتصف سورة الحديد، يصف الله تعالى مشهدًا من مشاهد يوم القيامة، وهو اليوم الذي ذكره الله في العديد من المواضع في القرآن الكريم. عادةً يتحدث الله عن المؤمنين الذين يتجهون إلى الجنة وعن الكافرين الذين يتجهون إلى النار. لكن في هذه المرة يقارن الله بين المؤمنين والمنافقين، وليس بين المؤمنين والكافرين.
ففي يوم القيامة سيكون المؤمنون قادرين على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نور الإيمان سيخرج من أمامهم ومن أيديهم. هذا النور يمثل إيمانهم وأعمالهم في الدنيا. ويوم القيامة هو يوم مظلم حيث سيحتاج المؤمنون إلى هذا النور ليرشدهم إلى الجنة.
ثم يصف الله تعالى المنافقين الذين يستيقظون ويجدون أنفسهم في الظلام، ويحاولون اللحاق بالمؤمنين لكي يستفيدوا من نورهم. ولكن يقال لهم:{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}. وفي النهاية يتم وضعُ حائطٍ بين المؤمنين والمنافقين، وينادي المنافقون قائلين:{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ}.
في يوم القيامة هناك أناس يظنون أنهم كانوا من المؤمنين ويعتقدون أنهم يستحقون نور الإيمان. هؤلاء الأناس يستغربون لماذا هم على جهةٍ مختلفةٍ من الجدار، ولماذا لا يملكون نورًا مثل الآخرين. يقولون:{أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}يعني ألم نصلي معكم ونعمل معكم ونكون أصدقاء وأقرباء وجيرانًا؟ لكن الإجابة التي تأتي من أهل الجنة توضح السبب:
أولًا: قالوا إن هؤلاء الأناس قد وضعوا أنفسهم في مواقف تجربة الإيمان، في محيطاتٍ سيئة، وبيئاتٍ تؤثر سلبًا على الإيمان، ولكنهم استمروا في التواجد في هذه البيئات وظنوا أنهم أقوياء ولن يتأثروا. هذه المواقف والمحيطات تشبه عملية تذويب الذهب لاستخلاص الشوائب. فقد كانوا يعلمون أن هذه البيئات والأماكن والأشخاص ليسوا جيدين لهم، لكنهم استمروا في الذهاب والمكوث هناك معتقدين أنهم سيبقونَ أقوياء ولن يتأثروا.
ثانيًا: تأخير التوبة والإصلاح. حينما أدركوا أنهم يقومون بأمور سيئة وأنهم بحاجة للتغيير، قرروا تأجيل التوبة والعودة لله، معتقدين أن لديهم الوقت وأنهم سيتوبون قريبًا، ولكن هذا التأجيل استمر حتى فاتهم الوقت.
لذا فالمشكلة الأساسية ليست في الإيمان نفسه، ولكن في كيفية العيش بذلك الإيمان وكيفية الاحتفاظ به في مواجهة التحديات والتجارب التي قد تواجه المرء في حياته. وتأتي النصيحة لنا جميعًا بضرورة الحذر من البيئات والأماكن والأشخاص الذين قد يؤثرون سلبًا على إيماننا، وعدم التأخير في التوبة والرجوع إلى الله.
في اليوم الآخر، هناك أشخاص كانوا يظنون أنهم من المؤمنين وكانوا يعتقدون بأنهم سيكونون من جانب المؤمنين. كانوا يدّعون أنهم كانوا يصلون ويتعاملون مع المؤمنين ويعيشون بينهم، ولكنهم تفاجأوا عندما وجدوا أنفسهم في موقف يائس بعيدًا عنهم. وقد غلب الرعب على هؤلاء الأشخاص حينما فَصل بينهم وبين المؤمنين جدار، بينما شعر المؤمنون بالأمان.
ومع مرور الوقت بدأت الشكوك تدخل قلوبهم. وبدأوا يتساءلون عن صحة الإسلام والقرآن والحديث. وكان السبب وراء هذه الشكوك ليس البحث العلمي أو التساؤل الفلسفي، ولكنه كان نتيجة لتأثير البيئة السلبية والتأجيل المستمر للتوبة. ومع ترسخ هذه الشكوك بدأوا يفقدون الرغبة في الجنة والخوف من النار. وأصبحوا مهتمين فقط بالحياة الدنيا وملذاتها، كالمال والشهرة وحب الشهوات، لأنهم فقدوا الأمل والرغبة في الآخرة.
وهكذا أصبح الإيمان غائبًا في قلوبهم، واستبدلوه بحب الدنيا ورغباتها المؤقتة، فقدوا بصيرتهم وانحرفوا عن الطريق الصحيح.
الآية التالية تقول:{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}: كنت تحلم بشيء من هذا العالم يمنحك السعادة وتركض وراءه، وتضحي بكل حياتك من أجله، متوقعًا أن يمنحك ما تسعى إليه. الناس اليوم يتحمسون للأفلام الجديدة أو الأجهزة الحديثة، فتجد طوابير طويلة لمشاهدة فيلم جديد قد تكون أطول من طوابير الحج! فالناس يشعرون أن حياتهم لا معنى لها إذا لم يشاهدوا هذا الفيلم في أول يوم عرض له، ولكن هذه السعادة المؤقتة تختفي سريعًا ويبحثون عن شيء آخر ليملأ فراغهم، خاصة عندما تكون رغبتهم في السعي خلف مرضاة الله غائبة.
ثم يقول تعالى:{حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}. هذه هي حياة الإنسان الذي فقد إيمانه. قد بدأت حياته بوضع نفسه في مواقف مشكوك فيها، ومن ثم أتبعتلك المواقف بالكثير من الشكوك والتسويف، حتى أصبح كل ما يبحث عنه هو المتع والأشياء المادية، وفي النهاية ينجح الشيطان في خداعه. هذا ما يُذكر به المؤمنون المنافقين على الجهة الأخرى من الجدار في اليوم الآخر. وللأسف فهؤلاء المنافقين لم يكونوا على علمٍ بهذه الأمور حتى حان وقت الحساب.
الشيء الوحيد الذي يهم في يوم القيامة هو قلبٌ صالح ونقي، فمن جاء إلى الله بقلب سليم فهو الناجح. كل ما نمتلك اليوم سيصبح لا قيمة له أمام الله في يوم القيامة. الشهوات والترفيه التي نعيش من أجلها اليوم قد تأخذ مكان النور في قلوبنا.
في هذا اليوم، لا تقبل فدية أو كفارة. لا يمكنك دفع المال للدخول إلى الجنة. أصبح الكثيرون في نفس موقفِ الذين كفروا.
النار هي المكان الذي ستكون فيه، وهو مكان موحش. لكن هناك طريقة لنحافظ على النور في قلوبنا ونزيد منه: ذكر الله وتدبر القرآن. فالله هو نور السموات والأرض، وكلما ذكرته زاد النور في قلبك.
القرآن هو النور وهو الهدى، قضاء الوقت مع القرآن وتأمل آياته هو الطريقة الأمثل لملء قلوبنا بالنور.
في يوم القيامة، ستعرف قيمة النور الذي في قلبك. قد يكون هناك أممٌ سبقتنا وتلقوا كتبًا مقدسة، لكنهم لم يستفيدوا منها كما يجب.
إذا تحول القرآن في حياتنا إلى مجرد عاداتٍ روتينية، فقدنا هدفه الحقيقي، فالقرآن هنا ليملأ قلوبنا بالنور ويهيئنا للوقوف أمام الله.
الإيمان ليس ثابتًا أو مضمونًا، قد نظن أننا مؤمنون لكن قد نكتشف في يوم القيامة أن الأمر ليس كذلك.
الآن هو الوقت المناسب لنتعاون ونعزز إيمان بعضنا البعض، ولكن في يوم القيامة سيكون كل منا يهتم بنفسهِ فقط.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يحافظون على نور قلوبهم، وأن يحمي قلوبنا من التصلب، وأن يمدنا بالنور والهداية ويحبب القرآن في قلوبنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد