بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عِبَادَ اللهِ: تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ- بِأَنَّ الْأُسْرَةَ هِيَ أَسَاسُ الْمُجْتَمَعِ، وَهِيَ نَوَاةُ تَكْوِينِهِ، وَمُنْطَلَقُ أَوْضَاعِهِ وَأَحْوَالِهِ، فَمَا الْمُجْتَمَعُ إِلَّا مَجْمُوعَةُ أُسَرٍ، بِصَلَاحِهَا وَسَعَادَتِهَا وَاسْتِقَامَتِهَا، يَصْلُحُ وَيَسْعَدُ وَيَسْتَقِيمُ، وَبِفَسَادِهَا وَانْحِرَافِهَا وَضَلَالِهَا وَشَقَائِهَا، يَفْسَدُ وَيَنْحَرِفُ وَيَضِلُّ وَيَشْقَى، وَلِذَلِكَ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ اعْتَنَى الْإِسْلَامُ بِشَأْنِ الْأُسْرَةِ، وَرَسَمَ مُقَوِّمَاتِ سَعَادَتِهَا، وَأَسَّسَ قَوَاعِدَ بِنَاءِ سَلَامَتِهَا، وَوَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا شَقَتْ أُسْرَةٌ إِلَّا بِسَبَبِ بُعْدِهَا عَنْ دِينِ رَبِّهَا ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ فِي تَفْسِيرِهِ: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَيْ: فَإِنَّ جَزَاءَهُ: أَنْ نَجْعَلَ مَعِيشَتَهُ ضَيِّقَةً مُشِقَّةً، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا عَذَابًا.
فَالْإِسْلَامُ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ـ اعْتَنَى بِشَأْنِ الْأُسْرَةِ، وَاهْتَمَّ بِبِنَائِهَا، وَبَيَّنَ مُقَوِّمَاتِ سَعَادَتِهَا وَسَلَامَتِهَا وَمِنْ ذَلِكَ:
اخْتِيَارُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ ؛ فَالزَّوْجُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَخُلُقٍ، وَالزَّوْجَةُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ دَيِّنَةً تَخَافُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَتَحْفَظُ زَوْجَهَا، وَتُرَبِّي أَبْنَاءَهَا عَلَى ضَوْءِ شَرِيعَةِ رَبِّهَا، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"، وَمِنَ الْفَسَادِ الْعَرِيضِ فِي الْمُجْتَمَعِ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- الزِّنَا وَعَدَمُ الصَّلَاحِ وَقِلَّةُ الْعِفَّةِ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ: "تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ". قَالُوا مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ أَوْصَافَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّاسُ وَيَطْلُبُونَهَا فِي الزَّوَاجِ: هِيَ الْمَالُ، وَالْحَسَبُ، وَالْجَمَالُ، وَالدِّينُ، وَلَكِنَّ الْحَرِيصَ عَلَى أُمَّتِهِ ـ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْصَى بِذَاتِ الدِّينِ، وَنَصَحَ بِهَا، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِيَارِهَا مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ" يَسْتَحِيلُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ صَالِحَةً وَهِيَ لَا تَعْرِفُ الدِّينَ.
مَا رَأْيُكُمْ - إِخْوَتِي فِي اللهِ - فِي أُسْرَةٍ ؛ الزَّوْجُ فِيهَا صَاحِبُ دِينٍ وَأَمَانَةٍ وَخُلُقٍ، وَالزَّوْجَةُ فِيهَا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ؟ مَاذَا سَتُنْتِجُ لَنَا فِي الْمُجْتَمَعِ؟ كَيْفَ يَكُونُ أَبْنَاؤُهَا؟
لَا شَكَّ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ، سَتَنْقَضِي وَتُفْقَدُ بَعْضُ الْمَظَاهِرِ السَّيِّئَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ ؛ لَا يَكُونُ فِيهَا مُخَدِّرَاتٌ، وَلَا اخْتِلَاطٌ، وَلَا خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَلَا فَسَادٌ فِي وَظِيفَةٍ، وَلَا سَرِقَاتٌ، وَلَا زِنًا، وَلَا لُوَاطٌ، وَلَا أَلْبِسَةٌ ضَيِّقَةٌ تُحَجِّمُ اَلْعَوْرَاْتِ، وَلَا أَسَاوِرُ، وَلَا قَصَّاتٌ غَرِيبَةٌ، وَلَا سَوْءَاتٌ مَكْشُوفَةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ؛ مِمَّا تُنْتِجُهُ بَعْضُ الْأُسَرِ الَّتِي لَمْ تَهْتَمَّ بِبِنَاءِ الدِّينِ، وَلَمْ تَتَكَوَّنْ حَسَبَ تَوْجِيْهَاْتِ شَرِيْعَةِ رَبِّ اَلْعَاْلَمِيْنَ.
فَصَلَاحُ الْمُجْتَمَعَاتِ وَفَسَادُهَا، لِلْأُسَرِ دَوْرٌ فَعَّالٌ فِيهِ، ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذن رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾ كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ".
الزَّوَاجُ وَتَكْوِينُ الْأُسَرِ، لَيْسَ لِلشَّهَوَاتِ وَالْمَلَذَّاتِ وَقَضَاءِ الْغَرَائِزِ فَقَطْ، إِنَّمَا لِتَكْوِينِ جِيلٍ نَافِعٍ صَالِحٍ فِي الْمُجتَمَعِ، يَتَقَرَّبُ إلى رَبِّهِ وَيَنْفَعُ خَلْقَهُ وَيُحِيي شَعَائِرَ دِينِهِ، وَيُوَحِّدُهُ وَيَعْبُدُهُ ؛ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، إِذَا كُنْتَ لَا تَهْتَمُّ بِأُسْرَتِكَ وَلَا تَعْرِفُهُمْ إِلَّا وَقْتَ الْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، فَإِنَّكَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بنَصِيحَةٍ، إلَّا لَمْ يَجِدْ رائِحَةَ الجَنَّةِ".
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
عِبَادَ اللهِ: يَجْهَلُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْبِيَتِهِمُ الْخَاطِئَةِ لِأَبْنَائِهِمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، الَّتِي يَدْفَعُهُمْ لَهَا مَحَبَّتُهُمْ وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ، دُونَ إِدْرَاكٍ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ فِي مُسْتَقْبَلِهِمْ بَعْدَ الزَّوَاجِ، فَأَنَّى لِفَتَاةٍ أَنْ تَجِدَ زَوْجًا كَأَبِيهَا يُلَبِّي طَلَبَاتِهَا وَيُحَقِّقُ رَغَبَاتِهَا، وَأَنَّى لِفَتًى أَنْ يَجِدَ زَوْجَةً كَأُمِّهِ وَأَخَوَاتِهِ يَهْتَمُّونَ بِهِ وَيُدَارُونَهُ، فَالِاتِّزَانُ بِالتَّرْبِيَةِ، وَتَعْوِيدُ الْأَبْنَاءِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا عَلَى الرِّضَا وَالْقَنَاعَةِ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ الْهَنِيئَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ ؛ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ، وَوَاللهِ عَنْ تَجْرِبَةٍ ؛ إِحْدَاهُنَّ طُلِّقَتْ بِسَبَبِ عِشْرِينَ رِيَالًا.
عِشْرُونَ رِيَالًا صَارَتْ سَبَبًا فِي إِنْهَاءِ عَقْدٍ قَالَ اللهُ عَنْهُ: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهَا حُرِمَتْ مِمَّا تَعَوَّدَتْ عَلَيْهِ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَكَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.
أَسْأَلُ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَنْ يَجْعَلَنَا فِي أُسَرِنَا أَسْعَدَ خَلْقِهِ، وَمِنْ أَقْرَبِ عِبَادِهِ إِلَيْهِ، ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ صَلَاحَ أَحْوَالِنَا، وَصَلَاحَ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَصَلَاحَ أَقْوَالِنَا وَأَعْمَالِنَا، وَمَغْفِرَةَ ذُنُوبِنَا، وَسَتْرَ عُيُوبِنَا، وَسَدَادَ دُيُونِنَا، وَسَلَامَةَ قُلُوبِنَا، وَشِفَاءَ مَرْضَانَا وَرَحْمَةَ أَمْوَاتِنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَعِزَّ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّينِ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الْمَهْمُومِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، وَاقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِإِخْوَانِنَا فِي فِلَسْطِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ مُعِينًا وَنَصِيرًا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ضَعْفَهُمْ، وَاجْبُرْ كَسْرَهُمْ، وَارْبِطْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَاحْقِنْ دِمَاءَهُمْ، وَسَلِّمْ أَرْوَاحَهُمْ، وَآمِنْ رَوْعَاتِهِمْ، وَاسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وَاجْعَلْ دائِرَةَ السُّوءِ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ.
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
عِبَادَ اللهِ:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد