قل اللهم مالك الملك


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

}قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ{(27).

{قُلِ} استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأن أعراضهم إنما هو حسد على زوال النبوة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنه لا عجب أن تنتقل النبوة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والملك.

{اللَّهُمَّ} أصلها يا الله، منادى حذفت منه ياء النداء، وعوض عنها الميم.. فلا خلاف أن لفظة اللهم معناها يا الله.

 قال ابن عاشور: و {اللَّهُمَّ} في كلام العرب خاص بنداء الله تعالى في الدعاء، ومعناه يا الله. ولما كثر حذف حرف النداء معه قال النحاة: إن الميم عوض من حرف النداء يريدون أن لحاق الميم باسم الله في هذه الكلمة لَمَّا لم يقع إلا عند إرادة الدعاء صار غنيا عن جلب حرف النداء اخْتِصَارًا وليس المراد أن الميم تفيد النداء. والظاهر أن الميم علامة تنوين في اللغة المنقول منها كلمة (اللَّهُمَّ) مِنْ عِبْرَانِيَّةٍ أَوْ قَحْطَانِيَّةٍ وأنّ أَصْلهَا لَا هم مُرَادِفُ إِلَهٍ.

ولهذا لا تستعمل اللهم غالبا إلا في الطلب، فلا يقال: )اللهم غفور رحيم( بل يقال: )اللهم اغفر لي وارحمني(.

ويسوغ استعمال هذا اللفظ في موضع لا يكون بعده دعاء. كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعاء: "اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك"[الطبراني في الأوسط].

وقوله: "اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك".

وقول النبي في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي".

وهنا قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ..}

وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الزمر:46].

{مَالِكَ الْمُلْكِ} مالك المملوكات كلها خلقا وتدبيرا لا يشاركه في ذلك أحد.

وفيه تعليم الله عز وجل نبيه محمدًا أن يفوض الأمر إليه في قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَلِكَ الْمُلْكِ}، والخطاب الموجه للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجه لأمته، إما عن طريق التأسي، وإما لأنه الإمام، والخطاب للإمام خطاب له ولمن اتبعه، إلا إذا دلَّ الدليل على أنه خاص به.

{تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} جملة استئنافية لبيان كيف يكون ملك الله عز وجل لهذا الملكوت.

{تُؤْتِي} أي: تعطي، ولم يقل: تُمَلّك؛ لأن ما يكون للعبد من المُلك إنما هو من إعطاء الله تعالى إياه، وتسليطه عليه، ولهذا لا ينبغي أن يتصرف المالك من المخلوقين فيما ملك إلا على حسب الشريعة التي شرعها الله عز وجل.

وكل شيء له سبب إما شرعي، وإما كوني؛ لأن هذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فإن إتيان الله الملك لمن يشاء مقيد بسببه، فلا بد أن يكون له سبب. فالملك قد يكون مستقلًا عن الرسالة، وقد يكون تابعًا للرسالة. فإذا كان مبنيًا على الشريعة صار تابعًا للرسالة، وإذا كان غير مبني على الشريعة كان مستقلًا.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ}[البقرة:258] فهذا ملك مستقل عن الرسالة؛ لأن الذي حاج إبراهيم كافر. وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا"[مسلم] فالمراد بذلك هنا: ملك تابع للرسالة، فالمشيئة هنا ككثير من الآيات معلقة بالحكمة لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:٣٠].

قال في البحر المحيط: وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضًا، ولا يتأتى هذا التفسير في: {تنزع الملك}، لأن الله لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازًا بمعنى: تمنع النبوّة ممن تشاء، فيمكن.

قال ابن كثير: وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار.

{وَتَنْزِعُ} تزيل {الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} إما نزع بعد ثبوت، وإما نزع بمعنى المنع؛ أي: تُمَلِّك من شئت، ولا تملك من شئت.. وتكرار {الْمُلْكَ} في الجمل للتفخيم والتعظيم.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة *إسحاق بن أحمد* من تاريخه عن المأمون الخليفة: أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحُمَيرية، فعُرب له، فإذا هو: *باسم الله ما اختلف الليل والنهار، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك. ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك*.

{وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} الإعزاز هنا: يعني التقوية، أي: تجعله عزيزًا قويًا غالبًا على غيره، وكذلك تذل من تشاء. وهذا عام، قد يعز الله الإنسان بدينه وعلمه وإيمانه، وإن لم يكن ملكًا، وقد يعزه بملكه. وكذلك في الذل قد يذله بالمعصية، وبالغلبة؛ فالذل بالمعصية في مقابل العز بالإيمان، والذل بالغلبة في مقابل العز بالمُلك، والذين يعزهم الله هم من ذكرهم الله بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون:۸].

فالله يعز الرسل وأتباعهم، كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة:٢١].

ومن أسباب العزة: الإيمان، سواء كان الإنسان ملكًا أم غير ملك. ومن أسباب العزة الاستعداد والحذر والحزم والقوة والنشاط.

ومن أسباب الذل: أن يُعجب الإنسان بنفسه، وأن يتعرض لما لا يمكنه دفعه.

ولهذا جاء في الأثر الذي رواه أحمد والترمذي عنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قِيلَ وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ قَالَ يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ".

{وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} فالله -سبحانه وتعالى- تام الملك والسلطان لكونه يذل من يشاء، ولو بلغ ما بلغ من العزة البشرية، فإن يد الله فوقه مهما بلغ الإنسان من العز، فالله قادر على إذلاله. ولذلك أمثلة كثيرة منها: قصة فرعون، فإن فرعون طغى وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[النازعات:24]، وافتخر بما عنده من الأنهار، فأهلكه الله بمثل ما افتخر به، فأغرقه بالماء. وعاد استكبروا في الأرض وقالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}[فصلت:15]، فأهلكهم الله تعالى بالريح، وهي من ألطف الأشياء، لكنها من أشد الأشياء مع لطافتها، وقال عز من قائل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً}[فصلت:15].

ويتفرع على هذه الفائدة: أننا متى علمنا أن الإعزاز والإذلال بيد الله، فإننا لا نطلب العزة إلا به عزّ وجل. ولهذا يقال: «من ابتغى العزة من غير الله فهو ذليل»، ونستجير من الذل بالله تعالى، وفي الحديث الذي رواه أبو داوود: "وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ".

وكذلك يتفرع على هذا: أنه ينبغي للإنسان أن يستعيذ بالله دائمًا من الذل الحسي والمعنوي؛ لأن الله تعالى هو الذي بيده الإذلال؛ من شاء أذله، ومن شاء أعزه.

{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} تمثيل للتصرف في الأمر؛ لأن المتصرف يكون أقوى تصرفه بوضع شيء بيده، ولو كان لا يوضع في اليد.

والخير: كل ما فيه مصلحة ومنفعة للعبد، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة. فالرزق والصحة والعلم خير، والعمل الصالح أيضًا خير. وهذا كله بيد الله، كما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النحل:٥٣].

وفيه أنه إذا كان الخير بيده، فلا يطلب الخير إلا منه؛ لأنه لا أحد بيده الخير إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يطلب منه الخير.

وهنا قد يقال: لماذا ذكر أن الخير بيده، ولم يذكر الشر، مع أن الخير من الله والشر من الله؟!

قال بعض المفسرين: إن هذا من باب حذف المقابل المعلوم. كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}[النحل:۸۱]. وزعموا أن تقدير الآية: بيده الخير والشر.

ولكن هذا وَهُمُ باطل، وليس المقام مقام حذف واقتصار بل المقام مقام ثناء، والثناء ينبغي فيه البسط والتوسع في الكلام. فالحذف غير مناسب لفظًا، وهو باطل معنى؛ لأن الله لا يضاف إليه الشر، ولا يجوز أن نقول: بيده الشر؛ لأنه ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْك"[مسلم] فلا ينسب إلى الله الشر قولًا ولا فعلًا. فالله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ويفعل الخير ولا يفعل الشر، وإذا وجد شر في المفعولات فهو شر من وجه، وخير من وجه آخر، لكن إيجاد الله لهذه الأشياء الشريرة ليس شرا، بل هو خير محض. والشر إنما هو في المفعولات لا في الأفعال.

أما الخير فهو في المفعولات والأفعال، ولهذا ينسب إلى الله فيقال: بيده الخير. فمثلًا السباع فيها شر، والهوام اللاسعة واللاذعة فيها شر بلا شك، والشياطين كلها شر، لكن إيجاد الله لهذه الأشياء خير، والحكمة توجبه؛ لأنه لا يمكن أن تعرف تمام قدرة الله إلا بخلق الأشياء المتضادة، ثم في خلق هذه الأشياء من إصلاح العبد، واللجوء إلى ربه، والاستعاذة به من هذه الأمور الشريرة، خير كثير والخير لا يعرف إلا بضده.

{إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة.

فمن قدرتك يا الله تغيير هذه الأشياء العظيمة: إيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال، كل هذه أمور عظيمة لا يقوم بها إلا القادر عليها، سبحانه وتعالى.

والآية فيها عموم قدرة الله تعالى؛ فهو قدير على كل شيء، على ما شاءه وما لم يشأه. وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ؛ لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاء.

وأما قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}[الشورى:٢٩]. فالمشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع؛ يعني: إذا أراد جمعهم، وشاء جمعهم، فهو قدير عليه، لا يعجز عنه.

{تُولِجُ} تدخل {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان. وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء.

وهذا الإيلاج من الأفعال التي لا يقدر عليها إلا الله وحده، فلو اجتمعت كل الخلائق على أن يزيدوا ساعة في الليل أو ساعة في النهار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

ومع هذا فإن هذا الإيلاج إيلاج بحكمة بتدرج، يأتي قليلًا قليلًا حتى ينتهي ثم يعود، ولو أن الليل قفز من أقصر الليل إلى أطوله لاختل نظام العالم وفسدت مواقيته، ولكن الله عز وجل يجعله بالتدريج ليعرف الناس أوقاتهم.

وينبني أيضًا على هذا الإيلاج تغير الفصول؛ فإنه إذا طال النهار طال زمن وجود الشمس على سطح الأرض فاحتر الجو، وأيضًا يكون شعاع الشمس عموديًا فيكون أشد تأثيرًا في الحرارة مما إذا كان غير عمودي، والعكس بالعكس بالنسبة للشتاء، فيترتب على هذا الإيلاج زمن الفصول الهامة -على اختلافها- لصحة الأجساد ونمو النبات وتنوعه، كما أن هناك أشياء مؤذية، وهي ما يُعبر عنه في علم الطب بالجراثيم، لا يقتلها إلا شدة البرد، وأخرى لا يقتلها إلا شدة الحر.

{وَتُخْرِجُ} معنى الإخراج هنا «التكوين» {الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} والمراد بالحي: الحي حياة «حسية ومعنوية»، وذلك لأن اللفظ صالح للمعنيين، وإذا صلح اللفظ للمعنيين بدون تناف بينهما، فالواجب حمله عليهما.

الحي «حياة حسية» أمثلته كثيرة، فالإنسان مخلوق من نطفة وهي ميتة بالمعنى اللغوي، فصار حيا من ميت. ولهذا قال الله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة: ۲۸].

أما المعنوي: يخرج الحي من الميت أي: المؤمن من الكافر؛ لأن المؤمن حي حياة قلبية والكافر ميت، ويخرج الحي العالم من الميت الجاهل، كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}[الأنعام:۱۲۲] الأول: هو العالم، والثاني:هو الجاهل.. هذه الحياة المعنوية والحسية.

{وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} مثل: البيضة من الدجاجة.. وإخراج الشيء من ضده دليل على أن قدرته تامة وسلطانه نافذ سبحانه وتعالى.

{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: من اقتضت حكمتك أن ترزقه، فهو كالتذييل لذلك كله.. أي: تعطي من شئت الرزق، وتقتر على آخرين، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل.

والرزق عامة ما ينتفع به الإنسان فيطلق على الطعام والثمار كقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}[آل عمران:37] وقوله: {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}[الكهف:19]، ويطلق على أعم من ذلك مما ينتفع به كما في قوله تعالى: {يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}[ص:51-54] وقوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}[يونس:31].

واعلم أن رزق الله عزّ وجل نوعان: رزق به قوام البدن ورزق به قوام القلب والروح.

أما الأول: فيشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر والمطيع والفاسق حتى البهائم ويدخل فيه الحرام؛ فالذي لا يأكل ولا يشرب إلا حرامًا، فهو برزق من الله رُزق، لكنه رزق يقوم به البدن.

والثاني: ما يقوم به القلب والروح، وهذا خاص بأهل الإيمان والعلم، فالعلم والإيمان للقلب بمنزلة الماء للشجرة، لا يمكن أن تنمو بدونه.

وقال الزمخشري: ذكر قدرته الباهرة، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم، ويؤتيه العرب ويعزهم.

وفيه: الاستغناء بالثناء عن الدعاء؛ لأنك إذا تأملت الآية هذه لم تجد فيها دعاء أي طلبًا، لكن الثناء مما يتوسل به إلى الله. فهنا الثناء يتضمن ما تدل عليه هذه الجملة؛ فإذا قلت: أنت الذي تعز، وأنت الذي تذل؛ فمعنى هذا أو فمقتضى هذا: أنك تسأل الله أن يعزك ولا يذلك، ولهذا قال الشاعر:

إذا أثنى عليك المرء يومًا               كفاه من تعرضه الثناء

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply